أكدت الناقد التشكيلية د.إيناس حسني أن الفنان الرائد حسين يوسف أمين &ترك بصمة مشرفـة على الحركة التشكيلية.. باعتباره أول من قام بتمصير اللوحة، بما كان له من أثر عميق على الأجيال التي تتلمذ على يديه، أثر تركز في قدرته على التعبير بالملامح، وعما تكنه الشخصيات من عواطف ونزوات ومشاعر وأحاسيس، فلوحاته تمتاز باللمسات الحساسة القوية والألوان الشفافة الصريحة.
وقدمت حسني في كتابها الصادر حديثا بعنوان "الفنان حسين يوسف أمين"، ضمن سلسلة ذاكرة الفن عن الهيئة المصرية للكتاب، رؤية نقدية تحليلية للفنان التشكيلي الرائد الذي لعب دورًا تاريخيًا في حركة الفنون التشكيلية في مصر، وقالت "أمين" رائد من رواد حركة الفن المصري الحديث في القرن العشرين، وهو مصور حوشي الطابع، أولى اهتمامه للكشف عن العذوبة الخافية في خشونة الموضوعات الشعبية وقوة حضورها، ويبدو في بعض أعماله متأثراً بـ"هنري ماتيس" وبالخط المحيط بالعنصر، لكن الدور الأكبر الذي لعبة في الحياة التشكيلية أنه كان معلماً ومفكراً يرجع إليه الفضل في تشكيل "جماعة الفن المعاصر" التي قلبت موازين الفن في النصف الثاني من الأربعينيات، وضمت إليها مجموعة من فناني الشباب الموهوبين آنذاك: حامد ندا، وعبد الهادي الجزار، وسمير رافع، وإبراهيم مسعودة، وأحمد ماهر رائف، وسالم الحبشي، وكمال يوسف، أولئك تلاميذه الذين دفعهم دفعاً إلى تكسير القوالب والثورة على التقاليد البرجوازية في صناعة الصورة الفنية، وبالتعبير عن الجوهر الشامل للجمال الذي يتمثل في القيمة التي تطرحها رسالة الفنان، وفى الخيال المتحرر المعبر عن الهوية والمجتمع، بحثاً عن التحرر من القالب الأجنبي الذي كان يسود الفن آنذاك.
ولفتت إلى أن شعار "أمين" كان "لا فن بلا علم ولا علم بلا مدرسة ولا مدرسة بلا تربية صحيحة ومنزل مناسب"، وقد اعتكف في بيته فترة من حياته، اكتأب وانطوى على نفسه بعد انشغال تلاميذه عنه، عندما صاروا نجوماً، وعندما هاجر ولداه إلى أمريكا وعاش هو مع رفيقة عمره حتى الممات، وكان السلطان حسين كامل هو من أصدر أمراً بتعليمه الفن في الخارج".
وأوضحت حسني أن "أمين" "كان يمتلك مهارة متفردة، تجلت في الشخصية التي يرسمها بأسلوب يميل إلى التبسيط والاقتصاد في الدرجات اللونية، كما كان له أسلوبه المميز، عبر تخصصه في رسم الاسكتشات، وبما حفلت به رحلته من خطوات واثقة وإيمان راسخ بالفن وتاريخ طويل من الإنجازات، أهله لأن يحصل على لقب الرائد بجدارة، وكان فنه تلخيص حياة، حياة لها ماض وحاضر ومستقبل صنعه كتكوين وعلاقات يتقرب بها من الشخصية التي يعبر عنها باللون واللمسة. وانطلاقاً من ثقافته البصرية العميقة، اتسمت خطوطه بالانسيابية وتكويناته بالإحكام إذ كان يضفى على اللوحة شيئاً من سكينة روحه.. ووداعتها، لهذا جاء أغلبها حالماً.. رقيقاً.
وأضافت حسني "كانت خطوط "أمين" موجزة، وتكويناته محكمة، لا تفقدها التجريدية شكلها ومعناها وجمالها، ولذا خرج من عباءته الكثير من الفنانين الذين استفادوا من أستاذيته وتعلموا منه على المستويين الفني والإنساني. لقد كان لموهبته أثر كبير على فنه إذ برزت خصوبته القصوى في التلوين وتجلت براعته في امتصاص ألوان الطيف، وسكبها فوق لوحاته بغزارة متدفقة وكأنما كان يغنى بفرشاته. كما تميزت أعماله بالشموخ والوضوح، والبراعة في رسم الطبيعة الصامتة والاسكتشات، التي تجعلك تحس إزاء لوحاته بألفة بينه وبين ما يصور، إنه من الفنانين الذين خلقوا ليضيئوا بفنهم وخبراتهم حياة مجتمعهم حتى لو كان ذلك على حساب حياته الشخصية. غاص في أسرار اللون، فأصبح عنده عمق وبناء وقيمة وتحليل نفسي، لا مجرد طلاء سطحي، وتغنَّى بالجمال والبهجة على أنغام ألوانه الشجية السابحة في أطياف النور ومفاتن الحياة".
وأكدت حسني أن "أمين" كان معنياً إلى حد كبير بمسألة التعبير عن بنية "الشخصية المصرية" الجديدة من خلال الرمز من ناحية، ومن خلال التأكيد على فكرة الكبرياء والانتصار لجماليات الواقع المصري الذي ظل مهاناً لزمن طويل، من ناحية أخرى، فتعبير الشخصية المصرية كان وارداً "كاحتمال" فني، ورد فعل يعكس رغبة هذه الشخصية في الخروج والتحرر من ربقة الاحتلال، ومن طغيان الطبقة البرجوازية ولذا تحلت تلك الشخصية بشعارات الثورة التي تفجرت تطالب بالعدل الاجتماعي، وبالتطهير، وبتصفية الإقطاع، وبإعادة الأرض إلى الفلاحين، وبحق المصريين في العمل ضد الامتيازات الأجنبية.
لعب "أمين" دوراً تاريخياً في حركة الفنون التشكيلية في مصر، وارتبط اسمه بصياغة الشخصية الفنية لنجوم الإبداع الحديث، عبد الهادي الجزار، وسمير رافع، وحامد ندا، و إبراهيم مسعودة، ومحمود خليل، وكمال يوسف، وسالم الحبشي. وتكفى هذه الأسماء للدلالة على قيمة الرجل الذي كان أستاذاً منتجاً، وملهماً للمبدعين، فلم يكن يتوقف أبداً عن إشعال جذوة التعبير الفني عند تلاميذه ومناقشتهم في كل الأفكار، وقد وهب حياته لرعايتهم ثقافياً وذهنياً، وإعدادهم للتطور ولقيادة الفن الحديث بكل اقتدار.
وقد ولد "أمين" عام 1904، في القاهرة، والتحق بمدرسة المحمودية الإعدادية، ومارس الرسم تحت رعاية الفنان "حبيب جورجي"، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها، وكان نموذجاً للتلميذ والطالب المتألق ذهنياً وفكرياً، وقد شهد له أستاذ الأجيال "حبيب جورجي"، الذي كان آنذاك علماً من أعلام التعليم الفني، وراعياً للفن الفطري، شهد له بأنه يحمل الكثير من الفكر والموهبة القوية.
وقد دفعه طموحه إلى السفر إلى فرنسا عام 1924، ومنها إلى أسبانيا حيث درس اللغة الأسبانية ثم إلى البرازيل حيث أقام هناك حتى عام 1929. حصل على الدبلوم من سان باولو في فلسفة الفن وتاريخه بالبرازيل، ثم رحل إلى فلورنسا بإيطاليا حيث اشتعلت الجوانب الإبداعية عنده فحصل على دبلوم الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بفلورنسا. وهكذا اجتمعت في "أمين" الدراسة العلمية والفنية وفلسفة الإبداع، كما أنه لم يكن بعيداً عن دراسة النظم السياسية والاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وانتقال شرارة الثورة من أوروبا إلى مختلف بلاد العالم.
كان في الخامسة عشرة من عمره، عند قيام ثورة 1919، وشهد بنفسه الكثير من تفاصيل حركة الشعب المصري تحت قيادة سعد زغلول، وبعد عودته إلى مصر عمل على تدريس مادة الرسم، بالمدارس المصرية ووضع الأسس التربوية والعملية لها مع أحمد شفيق زاهر ومحمد عبد الهادي ويوسف العفيفي وحامد سعيد وفتوح الرافعي والغرابلي.. وغيرهم من المؤسسين للتربية الفنية، وأنظمة التدريس في مختلف المراحل التعليمية، وكان منهج هؤلاء الأساتذة مبنياً على الدراسة والعلم والبحث والفكر الأصيل الثوري مع التركيز على أن يكون الفن محلياً ومعاصراً.
وفى عام 1954، أصدر الناقد إيميه آزار كتاباً بالفرنسية عن "جماعة الفن المعاصر"، وقد أبرز فيه الدور الذي لعبه "أمين" في الحركة التشكيلية المصرية وفي جماعة الفن المعاصر، وبعد سنوات قليلة من هذا التاريخ، أصبحت هذه المجموعة من أبرز الأسماء في عالم الإبداع المصري، وقد لخص إيميه آزار توجيه "أمين" لأعضاء الجماعة بقوله: "إنه حررهم من التفرنج كي يكتشفوا العالمية". ويُقصد هنا أن العودة إلى الذات وتعميق الهوية ورفض كل ما هو دخيل تعتبر الطريق الوحيد المؤدى بالفنان الأصيل إلى العالمية أو بعبارة أخرى: انطلاق الفنان من عناصر خصوصيته هو الذي يمكنه من إدراك كنه العالمية ومن الوصول في الوقت نفسه إلى مستوى العالمية الفنية.
وقد رحل الفنان "حسين يوسف أمين" في 16 أغسطس 1984، بعد أن ضرب المثل في الأستاذية والعطاء والإبداع وأصبح صانعاً للمبدعين وراعياً قلما يتكرر.
&