&

يُعتبر التركيز الدائم على أمر ما أو قضية معيّنة أمراً متعباً للدماغ. فهو بالإضافة لإرهاقه المستمرّ للقسم الخاضع للاستثارة بفعل التركيز، يقوم بتعطيل أقسام أخرى ذات مساحات كبيرة كونها غير مستهدفة في هذه العملية. وهذا أمر سببه القانون الدماغي في التنبيه، حيث إن الدماغ يعطي بيد ويمنع أو يكفّ باليد الثانية.

بمعنى أن التيار الذي يسعى لتنبيه جزء دماغي ما، يسايره ويمشي معه تيار آخر يقوم بتثبيط الأجزاء الأخرى الباقية المستثناة من هذه العملية.

ويمكننا تشبيه عملية التركيز هذه، وقرار الدماغ فيها، بعملية إرسال مجنّد من قبل قائد الكتيبة إلى مهجع الجنود ليستدعيَ شخصاً أو اثنين للذهاب إلى مكتب القيادة، بينما يطلب من البقية التزام أماكنهم.

وإذا ما استمر التركيز طويلاً، ولفترات زمنية طويلة، فإن ذلك سيُفقد الدماغ سيره الوظيفيّ المتناغم والضروري لحياة نفسية وعقلية سليمة.

لذلك كان من الضروري جداً ترك أوقات للفراغ أثناء القيام بالدراسة أو بالعمل الذهني وتخصيص أوقات للترفيه والتسلية وممارسة النشاطات بغية إراحة المنطقة المركّزة وتشغيل المناطق الأخرى المهملة.

يضاف إلى ذلك كلّه ضرورة ممارسة التأمُّل الذي هو نقيض التركيز. فالتأمّل هو تنبيه ضعيف شامل لأنه يطال المساحة المخيّة كلّها ويفتح نافذة "العقل" على مصرعيها، بينما يكون التركيز تنبيهاً قوياً لجزء صغير أو محدود من أصل الكلّ.

وكلَّما اقتصرالتركيز على أداء مهمّات مكرّرة وأقوال منمّطة ومشاعر مبرمجة... ازدادت متاعب النقطة الخاضعة للتركيز وازداد هيجانها، لتتحوّل مع مرور الأيام إلى "حصان طروادة" أو إلى فجوة تتوسَّط جدار الذهن ما يُسهّل على الآخرين العبور من خلالها. ومع مرور الزمن سيصاب هذا الدماغ بالانكماش، وسيصبح هذا الإنسان مُخترَقاً أو إنساناً قابلاً للإيحاء بسهولة ويسر.

إن هذا النوع من الأشخاص الذين اقتصرت حياتهم بكاملها على موضوع واحد ثانوي، أو على فكرة تستهلكهم بالكامل، من السهل جداً إقناعهم بالانخراط في العمل الجرمي أو بتعاطي المخدّرات أو بالانتساب إلى منظمات إرهابية لأنهم يحملون (بسبب عزفهم الدائم والوحيد على وتر واحد) في عقولهم باباً صغيراً يسهل اختراقهم من خلاله.

وليس من الضروري أن يكون مصدر هذا "الإيحاء" الممارَس عليهم من خلال أخصائي في العلاج النفسي، فنحن هاهنا لسنا بصدد الإيحاء الهادف للشفاء النفسي، بل إننا نتحدّث عن الإيحاء بمعناه العام ومدى تأثيره على الإنسان القابل للتصديق بسهولة. فقد يكون مصدر هذا الإيحاء وسيلة إعلام أو عن طريق "شيخ دين" جاهل أو شخص دجّال يدّعي حيازته على قدرات خارقة للطبيعة ويستطيع التحكّم بمصائر الناس، وهؤلاء هم طرائده السهلة وزبائنه الدائمون.

&باحث سوري في علم النفس التحليلي.