الأخبار كثيرة جدًا، تتدفق بسرعة هائلة، إلا أن خبيرين في مؤسسة راند البحثية وجدا أن الحقيقة في العالم تتهافت، بسبب التراجع الكبير في القدرة على التحليل والمعرفة في الحياة العامة.

إيلاف: لا يشير ارتفاع عدد التغريدات اليومية في العالم من 5000 تغريدة في عام 2007 إلى 500 مليون بعد ستة أعوام لا يشير إلى مجتمع صحي. 

ربما يرتبط هذا، مع درجات اختلاف صغيرة، بحقيقة مفادها أنّ في الانتخابات الرئاسية في عام 1992، ربح أكثر من ثلث مقاطعات الولايات المتحدة البالغ عددها 3113 بهامش أحادي الرقم، بينما أصبحت نسبة المقاطعات التي ربحت بهامش مماثل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 أقل من 10 في المئة. 

كما يرتبط بحقيقة أخرى مفادها أن في عام 2016، ربحت 1.196 مقاطعة – أي أكثر مرّتين ونصف مرة تقريبًا من المتوسط المسجّل على مدار السنوات العشرين السابقة - بفارق هوامش أكبر من 50 في المئة. ربما يتعلق ذلك كله بزيادة الشكوك، من دون مبرّر علمي، بشأن سلامة اللقاحات والأغذية المعدلة وراثيًا. 

خبيران قلقان
كذلك، يرتبط هذا بحقيقة أن اشتراكات الصحف انخفضت بنسبة تقارب 38 في المئة خلال السنوات العشرين الماضية، وأنّه بين عامي 1974 و2016، انخفضت نسبة الأميركيين الذين قالوا إنهم أمضوا وقتًا طويلًا مع أحد الجيران من 30 إلى 19 في المئة.

يرى جورج ويل، الكاتب الصحافي البارز الحائز جائزة بوليتزر، أن هذه التطورات وغيرها تقلق خبيرَين اثنين في مؤسسة راند، وهي مؤسسة البحوث التي تحتفل الآن بذكرى تأسيسها السبعين. 

في الواقع، لا يشعر مايكل د. ريتش، رئيس مؤسسة راند، وزميلته جنيفر كافاناغ، بالسعادة في كتابهما "تسوّس الحقيقة: استكشاف أولي لتراجع دور الحقائق والتحليل في الحياة العامة الأميركية" Truth Decay: An Initial Exploration of the Diminishing Role of Facts and Analysis in American Public Life (المكون من 255 صفحة، منشورات مؤسسة راند).

يقولان إن القدرة العقلية للشعب تتعرّض للتوتر بسبب سيل المعلومات المتدفق اليوم من الإنترنت، ووسائل الإعلام الاجتماعي، وتلفزيون الكابل، والبرامج الحوارية الإذاعية، وهذه الأمور كلها قد تؤدّي - جزئيًا لأن جمهور الإعلام يواجه صعوبة في التمييز بين الحقائق والآراء – إلى اقتطاع صافٍ من مخزون الحقيقة والثقة لدى الشعب.

أربعة اتجاهات
يبيّن المؤلفان أربعة اتجاهات معاكسة للخطاب وصنع السياسات القائم على الحقائق: زيادة الاختلاف حول الحقائق وتفسيرها (على سبيل المثال، "حقيقة أن المهاجرين هم أقل عرضة لارتكاب الجرائم من الأشخاص الذين ولدوا في الولايات المتحدة")؛ عدم وضوح الخط الفاصل بين الحقيقة والرأي؛ الكمية المتزايدة للرأي بالمقارنة مع الحقائق؛ وتراجع الثقة بمصادر معلومات واقعية كانت محترمة في السابق. 

يؤدي حجم تدفق المعلومات وسرعته، إلى جانب القدرة الجديدة على تنظيم قوائم المعلومات الانتقائية، إلى تقلّص افتراض المجتمع مجموعة مشتركة من الحقائق. كما يعمق ميل الناس إلى "الانحياز التأكيدي" و"الاستدلال المدفوع"، أي الأشخاص الذين يسكنون صوامع المعلومات، ويسعون إلى الحصول على حقائق ملائمة فحسب.

غرف الصدى
الجدير ذكره أن إعادة توزيع الدوائر الانتخابية لمصلحة حزب معيّن، و"التزاوج المتجانس" (زواج أشخاص من الخلفيات الاجتماعية والثقافية نفسها)، والفصل الجغرافي للأشخاص المتشابهين في التفكير، هذه كلها أسباب وآثار العيش في "غرف الصدى" التي تنتج الاستقطاب السياسي.

علاوة على ذلك، عندما يتم الاستغناء عن المصافي وحرّاس بوابات وسائل التواصل الاجتماعي وأماكن أخرى، وعندما تصبح الحواجز التي تحول دون الدخول في الخطاب العام ضئيلة للغاية، فإنّ كون المرء غير مستقر أو جاهلًا - أو كليهما، في خدمة التحزّب - لا يشكّل حواجز، وكذلك فالثقافات الفرعية الرقمية السامة تتكاثر. 

في هذا السياق، يقول ريتش وكافاناغ إن تقنيات الإعلام الجديدة لا تؤدي إلى تفاقم التحيزات المعرفية فحسب، بل تعزز أيضًا "تغلغل التحزّب في جميع أنحاء المشهد الإعلامي".

يضيفان: "عندما زاد طول البث الإخباري من ساعتين إلى 24 ساعة في اليوم، لم يكن هناك ارتفاع بنسبة 12 ضعفًا في مقدار الحقائق المبلغ عنها".

كافاناغ وريتش هما من أهم علماء الاجتماع، ولديهما قائمة طويلة من طب الأسنان السياسي لمكافحة تسوّس الحقيقة. وتتراوح اقتراحاتهما بين اللطيف (المدارس التي تعلم التفكير النقدي) والمروّع (المال العام لدعم الصحافة المطولة والصحافة الاستقصائية).

كذبة بسيطة
لكنّ الغرض الرئيس منها، بشكل ملائم، هو اقتراح مشروعات بحثية تفضي إلى حقائق بشأن عواقب وسائل الإعلام الجديدة والمشهد الفكري. لسوء الحظ، ينتشر تسوس الحقيقة أيضًا، لأن الحرم الجامعي يشكّل مساحة آمنة لأتباع نيتشه السطحيين (لا توجد حقائق، مجرد تفسيرات)، وأنّ ما يحدث في الجامعات لا يبقى محصورًا ضمن هذه الجامعات. 

هناك كذبة بسيطًة: ربما يظنّ المحاربون في العدالة الاجتماعية في غوغل أنهم أذكياء وبطوليون عندما يقولون إن لنكولن لم يكن عضوًا من الحزب الجمهوري، بل من حزب الاتحاد الوطني (الاسم الذي اختاره الحزب الجمهوري القومي، لكن ليس في معظم الدول، لمقتضيات الانتخابات في حرب 1864).

يجب أن نأسف على الارتياب الظالم. وصحي الشعور بالارتياب بشأن ما هو غير جدير بالثقة. بالنظر إلى السنوات الـ 50 السابقة، من فضيحة ووترغايت وأوراق البنتاغون، مرورًا بأسلحة الدمار الشامل العراقية المفقودة وكذبة أوباما "إذا كنت تحب خطة الرعاية الصحية الخاصة بك يمكنك الاحتفاظ بها"، فموقف التشكيك الافتراضي يعتبر مبرّرًا. ويتعيّن على مستهلكي المنتجات الإعلامية أن يتذكروا شكوك جيري ساينفيلد غير المباشرة: "إنه لأمر مدهش أن كمية الأخبار التي تحدث في العالم كل يوم تكون دائمًا ملائمة تمامًا للصحيفة".