يمثل الفنان التشكيلي جمال مليكة نموذجا للمصري الوطني الأصيل الذي تشكلت رؤاه الإنسانية من روح الحضارة المصرية في مختلف تجلياتها الفرعونية والقبطية والإسلامية، فعلى مدار سنوات طويلة عاشها بين إيطاليا ومصر استطاع أن يقدم تجربة فنية كانت ولا تزال مثار تقدير واحتفاء أوروبي وعربي، وهي التجربة التي تعد سفيرا للفن المصري الحديث وقدرته على العطاء والتطور والإضافة للمنجز التشكيلي.
احتفت تجربة مليكة دائما بالروح المصرية فذهبت إلى الحضارة الفرعونية ورموزها الكبرى وفي مقدمتها أبوالهول، الذي يقدمه مليكة بتجليات ورؤى مختلفة تجتمع فيها جميعا شامخ وعظيم هذه الرمز وكأنه حارس لسبعة آلاف عام من العطاء المصري للإنسانية، كما ذهب للحضارة القبطية بتجليات أيقوناتها وكنائسها العامرة بروح الفن، وأخيرا القاهرة الإسلامية بحاراتها الزاخرة بالألفة والجمال المعماري للمآذن والجوامع حيث تبرز طاقات النور. وهذه الروح لم تفتقد الحاضر بكل ما يحمله من رؤى تمتزج في عناصر اللوحة وتكشف أبعاد ما حدث ويحدث.
وقد احتفت مدينة صوليرا الإيطالية أخير بمرور 50 عاما على إقامة بيناليها الدولي للفنون لتسلم مليكة ميدالية السيناتو لرئيس إيطاليا لعام 2019 تقديرا لانجازاته الفنية بحضور روبيرتو سولومينا محافظ المدينة نائبا عن رئيس الجمهورية الإيطالية سيرجيو مناريلا. وهذه الجائزة والتكريم ليس جديدا عليه حيث سبق له أن حصل على تسع ميداليات رئيس الجمهورية وثلاث ميداليات قداسة البابا يوحنا بابا الفاتيكان والفرشة الذهبية من مدينة رافينا ضمن أحسن 50 فنانا في أوروبا لعام 1992، وحصل على الجائزة الشرفية لمدينة ميلانو "لامبروجينو" وجائزة بينالي القاهرة لعام 2013، وحصل أيضا على درع دولة الكويت ولقب أحسن نحات بإيطاليا لعام 2011 باستفتاء جريدة الجيورنالي. وتتوزع مقتنياته في متاحف ودول مختلفة في جميع أنحاء أوروبا والعديد من الدول العربية.
واحتفالا بمليكة نظم معهد الدراسات القبطية بالمركز الثقافي القبطي بالكاتدرائية المرقسية ندوة ثقافية للفنان تحت عنوان "محطات فى حياة مليكة"، حضرها نخبة من الفنانين التشكليين ونخبة من أعضاء هيئة التدريس والطلبة بمعهد الدراسات القبطية وبعض الشخصيات العامة من رجال الفن والثقافة والصحافة والإعلام.
بدأ الاحتفال برسم الفنان جدارية بأداء متميز وبأسلوبه الذي انفرد به، متفاعلا مع الألوان في ملحمة إيقاعية جريئة مباشرة صاحبت ضربات فرشاته فيها الموسيقى، في جو مفعم بالفن والمشاعر والأحاسيس. أعقب ذلك ندوة تم استهلالها بفيلم وثائقي يوجز إنجازات الفنان عبر السنين ويوثق لأبرز تفاصيل مسيرته الفنية بين مصر وإيطاليا. ومن بينها تأسيسه لـ "بينالي شرم الشيخ الدولي للفنون والذي يستضيف سنويا 40 فنانا أوروبيا أغلبهم من الإيطاليين دعما للعلاقات المصرية الإيطالية، وذلك بالتعاون مع اللواء أركان حرب خالد فوده محافظ جنوب سيناء.

يقول الناقد والشاعر جمال القصاص عن تجربة مليكة "يبحث مليكة في أعماله عن أساطير زمانه ويحولها إلى إرث خاص، وأثر يتسع عبر اللوحة، التي تلعب دور الربط بين زمن هذه الأساطير وزمنها الخاص، بينما يبدو سطح الصورة وكأنه صحراء شاسعة تعيد ترتيب نفسها تحت وقع ضربات الفرشاة بعنفوانها المرتجل الحاد، وصخبها المشمس، لتشف عن إيقاعات حيوية مباغتة للخط واللون والنغمة والتكوين".
ويضيف "بمنطق اللحظة وفورانها في الداخل يذهب مليكة إلى الرسم مسلحا بغواية وخبرة التحطيم والبناء، تحطيم الأطر والأقانيم التقليدية للصورة، وبناء الفعل الفني طازجا وحيا من داخل الركام والشظايا ليصبح فعل تحرر وصحوة، في ظلاله تتعايش هذه الأساطير بمحبة خالصة، وتتخلص من كوابح الظلال والقبح".
ويرى القصاص أن شخوص مليكة لا تنفصل عن الخلفية فتبدو معجونة بها، سارحة في طبقات خطوطها وألوانها تستقى منها روحها الكتوم وملامحها المهشرة المطموسة بفعل الزمن، بينما تبلغ طاقة التجريد ذروتها الانفعالية في تخليص الصورة من التصورات والأفكار والهواجس المسبقة، فالرسم هنا ليس فقط مجرد تجسيد لتداعيات هذه اللحظة وتفريغها شعوريا في لطشات وضربات على مسطح اللوحة، وإنما يستبطن فكرة الترحال الدائم في التاريخ مسكونا بعلاقة الإنسان بماضيه وحاضره ومستقبله.