دخلت الباحثة النفسية ميلاني كلاين حقل التحليل النفسي بالمصادفة، فهي لم تدرس علم النفس ولا الطب النفسي. حصل ذلك بعدما قرأت مقالة لفرويد، وأذهلتها طريقته في التحليل، وأعجبها هذا المجال كثيراً.
وبعدما وجدت طريقها إلى التحليل النفسي، وصار لها رأيها الخاص في الكثير من نظرياته، واضبت كلاين على تحليل شخصيتها قبل أن تكتب، وذلك تجنُّباً منها لعمليات التحويل، على يد فيرنزي، ومن بعده كارل أبراهام.
انتسبت كلاين خلال هذه الفترة إلى "رابطة التحليل النفسي"، وقدَّمت بحثها الأول تحت عنوان: "نمو الطفل".
اجتهدت من خلال هذا البحث في أمرين اثنين:
أولهما الاعتقاد بوجودٍ مبكّر لثنائية "غريزتَي الموت والحياة الفرويديتان" في الطفل.
وثانيهما مسألة النضج المبكر للطفل، والذي أفرز آلياتٍ ذهنيةً خاصةً (الالتحام والإسقاط) تقوم بملء الفراغ النفسي ريثما يكتمل تشكُّل الجهاز النفسي.
فبحسب كلاين فإنَّ الأنا العليا حاضرة في مرحلة ما قبل الخامسة من العمر. وعقدة أوديب تظهر قبل السنة الثالثة من العمر. وبالتالي فإنَّ كلاين قد قامت بإجراء تغيير في الروزنامة التي حدَّدها فرويد لتشكيل هذين المفهومين: أوديب والأنا العليا.
وفي هذا الصدد تقول كلاين: "إنَّ الأنا، ومنذ البداية، قادرة على معاناة القلق؛ وعلى استخدام ميكانيزم (آليّة دفاع) وإقامة علاقات أولية. تتكوَّن الأنا باكراً وجزء كبير منها غير منتظم (أي لاشعوري) على الرغم من نزوعها نحو التكامل".
أسَّست كلاين، مع عالم النفس آرنست جونز، ما بات يُعرَف لاحقاً بالمدرسة البريطانية في التحليل النفسي، أو "التحليل النفسي الكلايني" كما يُسمّيه تلامذتها. حصل كلّ ذلك بعد أول محاضرة لها ألقتها في لندن بدعوةٍ من جونز نفسه.
من أهم أعمال كلاين: التشخيص بواسطة اللعب عند الأطفال والمراحل المبكرة لعقدة أوديب. وكتاب "الحسد والعرفان بالجميل". وكذلك كتاب "الحب والكراهية" الذي شرحت فيه عمليات النمو البدئي في حياة الطفل الذهنية والوجدانية. وأوضحت كيف أن الحسد هو المصدر الأساسي للعنف لدى الأطفال. وكيف أنَّ المبالغة في هذا الحسد يؤدّي في المستقبل إلى إنتاج أشخاص عاجزين عن الحب، وعاجزين حتى عن الشعور بالامتنان! وكيف يمثّل اللعب الوسيلة المثلى للتواصل مع المحيط، حيث يلعب الطفل ليقدّم ذاته للعالم، وألعابه التلقائية هذه هي نواقل صراعاته وأحاسيسه ودوافعه الداخلية.
وككلّ باحث سيكولوجي كان لكلاين رأيها الخاص في الهستيريا والوساوس التسلطية، حيث رأت بأنه لا يجوز دراسة الحالة الهستيرية لأيّ فرد بمعزل عن وساوسه القهرية. وكأنها بذلك تمنح الوسواس الصفة المميزة لكلّ فرد.
وحول التقمُّص الإسقاطي تقول: "إنَّ الأساس في آلية التقمُّص الإسقاطي يكمن في قيام الفرد بنقل الجانب السيء من ذاته وإسقاطه على موضوع في الخارج. مما يُشكّل لديه الحصر والقلق على الدوام كلَّما حضر الموضوع أو تمَّ تخيُّله".
كانت ميلاني كلاين، وما تزال، إحدى أهمّ رائدات التحليل النفسي على الإطلاق، وذلك لإسهاماتها المهمَّة، خاصةً تلك التي تتعلَّق بالطفل ونموه الذهني والوجداني.

&باحث سوري في علم النفس التحليلي.