يمكن القول أن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور لم يحصل على الشهرة التي كان يستحقها عن جدارة إلاّ بعد وفاته عام 2005 عن سنّ تناهز 82 عاما. وإثر ذلك أقيمت في فرنسا، وفي العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، وحتى في الولايات المتحدة التي يحظى فيها بتقدير كبير، ندوات وتظاهرات فكرية وفلسفية في أرقى الجامعات لاستعراض مسيرته المديدة، وتقديم قراءات جديدة لمجمل أعماله الفلسفية وتحديد الدور الذي لعبه في مجال تطوير الفلسفة خلال القر ن العشرين إذ أنه كان مُحيطا بالعديد من المجالات مثل علم النفس والوجودية والظاهراتية أو الفينيمونولوجيا، والفلسفة التحليلية واللسانيّات، والنظريات التاريخية .كما أنه كان ملمّا بالأدب بالخصوص. ومنذ البداية تشبّع بأعمال عظماء الفلاسفة من أمثال أرسطو ،وكارل ياسبرس، وهوسرل، وسبينوزا وكيركوغارد، وهايدغر، وهابرماس، ولفي شتراوس وغيرهم. وكان معاصرا للعديد من الذين لعبوا أدوارا مهمة وأساسية في إثراء الفكر الفلسفي في فرنسا من أمثال جان بول سارتر، وامانويل مونييه، وجيل دولوز، وميشال فوكو، وكوستورياديس، وبورديو. وقد عرّفه بعضهم على النحو التالي :” يظلّ بول بيكور بالنسبة للكثيرين النموذج الحقيقي للمثقف المرغوب دائما من قبل الحدث، محاولا الإجابة عليه بطريقة بسيطة خالية من التعقيد، ومن اللف والدوران، ومن دون ان يقدم نفسه وكأنه العلامة المحيط بكلّ شيء. وهو مرّار أفكار مثالي، يضع نفسه عند ملتقى فلسفات ثلاث: الفلسفة الفرنسية التأملية، والفلسفة الأوروبية والفلسفة التحليلية الأنجلو-سكسونية". وتخترق فكر ريكور أسئلة وجودية مهمة :كيف يمكن للإنسان الذي تحطمت أناه، الانسان الهشّ، الرازح تحت ثقل الفشل، المرتعب أمام الموت، أن يواصل بحثه عن معنى وجوده وعن ذاته، وعن الآخرين، وعن العالم؟ وكيف يمكنه ان يظلّ عادلا، وأن يحافظ على رغبته في البقاء في وضع تراجيدي كهذا الوضع؟
وفي الحقيقة يمكن اختصار المسائل التي تتمحور حولها مجمل أعمال ريكور على النحو التالي: يمكنني أن أتكلم(فلسفة اللغة)، يمكنني أن أفعل (فلسفة الفعل) ، يمكنني أن أروي (الفلسفة السردية)، يمكنني أن أكون مسؤولا عن أفعالي (الفلسفة الأخلاقية).
وكان بول ريكور المولود في السابع والعشرين من شهر فبراير -شباط 1913 في الثانية من عمره لما فقد والديه، فتكفّل جداه بتربيته. وفيما بعد سيقول في حوار أجري معه في التسعينات من القرن الماضي مفسّرا ندرة الحديث عن والدته :”في الحقيقة لم أعرف أمي .كما أن جدّي اللذين اهتما بتربيتي لم يكونا يعرفان عنها الشيء الكثير. وأفترض أنهما لم يكونا يرغبان في زواجها من والدي (…) ما أستطيع قوله بشأنها هو أنها كانت تنتسب الى عائلة كثيرة الأفراد تدعى عائلة "فافر". وقد عثرت على وثائق تتعلق بها، وقمت بأبحاث اعتمادا عليها غير أني لم أعثر على أيّ أحد ذكر لي أنه كان يعرف والدتي . وقد سمعت كلمة "أمي" عندما خاطبت زوجتي أمها، أو عندما خاطب أبنائي أمّهم ، أي زوجتي .أمّا بالنسبة لي فإن كلمة "أمي" لم يكن لها وجود في حياتي".
ومنذ الطفولة وجد بول ريكور في القراءة ما أنساه حزن اليتم ووحشته. وهكذا راح يلتهم الكتب القديمة والحديثة، مُحاولا من خلالها البحث عن معنى لحياته وللوجود من حوله. وخلافا لزملائه الصغار الذين غالبا ما كانوا يظهرون ضيقا بشأنها، أحب المدرسة وتعلّق بها تعلّقا شديدا، مُعتبرا إياها فضاءه الروحيّ، ومُكنّا لأساتذته تقديرا كبيرا. وفي ما بعد سيقول في نفس الحوار المشار اليه سابقا :”كانت عائلتي تعيش في عالم منغلق. وأنا كنت دائما وحيدا. أما المدرسة فقد كانت بالنسبة لي الفضاء الواسع المفتوح على العالم الر حب ...وكنت أندهش حين أسمع أطفالا يتذمّرون من المدرسة... والسبب هو أنني كنت فيها مثل سمكة في الماء".
مبكّرا ،أقبل بول ريكور على قراءة أعمال كبار الأدباء من الفرنسيّين، وغير الفرنسييّن. وبعد حصوله على شهادة التبريز في الفلسفة عام 1935،التحق بول ريكور بهيئة تحرير مجلّة "فكر" التي كان يرأس تحريرها الفيلسوف امانويل مونييه صاحب مذهب "الشخصانيّة". وعندما اندلعت الحرب، أسّره الألمان ليمضي مدة أسره التي استمرت أربعة أعوام في معسكر الضبّاط. وعن تجربة الأسر يقول :”في كلّ المعسكرات التي أقمت فيها، وجميعها مخصّصة للضبّاط، لم يحدث ما يمكن أن يعدّ خرقا للمعاهدات الدولية مثل معاهدة لاهاي أو جينيف. ما حدث فقط هو نوع من التضييق علينا بسبب فرار البعض منا. أمّا بالنسبة لظروف اعتقالنا فيمكن القول إنها كانت معقولة. وكنا نحصل على نفس الأغذية التي يحصل عليها عامة الناس في زمن الحرب .وفي الزنزانة كنّا مجموعة من المثقفين بينهم يهوديّان هما الكاتب روجيه إكور والفيلسوف إمانويل ليفيناس".
وفي المعتقل، قام بول ريكور بترجمة أحد كتب هوسرل، مؤسّس الظّاهراتيّة. كما قرأ مُجْمل أعمال كارل ياسبرس الذي سيخصص له عام 1947 كتابا حمل عنوان :”كارل ياسبرس وفلسفة الوجود". أمّا هايدغر فلم يفتنه كثيرا مثلما هو الحال بالنسبة لسارتر والعديد من الفلاسفة الفرنسيين الآخرين. عنه يقول :” فلسفة هايدغر تركّز كثيرا على مسألة الكينونة ، والأونطولوجيا (علم الكائن).لذلك فإن كلّ ما هو متعلّق بالاختيارات الأخلاقيّة والسياسية غائب تماما .إنها أونطولوجيا لم تكن قادرة على إنتاج أستيتيقا. لذا لم يكن لها خطّ دفاعيّ داخليّ . من هنا نفهم مساندته للنازية".
في الخمسينات من القرن الماضي، عمل بول ريكور أستاذا للفلسفة في جامعة "السربون"..وفي هذه الفترة ارتبط بعلاقة وثيقة بكلّ من مارلو بونتي الذي كان آنذاك خصما لدودا لسارتر. كما عمّق علاقته بمجلة "فكر" وبصاحبها إمانويل مونييه . في الآن نفسه شرع في إصدار العديد من المؤلّفات الفلسفية التي بوّأته مكانة في المشهد الفلسفي الغربي. وعند اندلاع الثورة الطلاّبيّة في ربيع 1968، استقال بول ريكور من منصبه كأستاذ في قسم الفلسفة في جامعة "السربون" ليؤسّس جامعة "نانتير" . وحين خسر كرسيّ "الكوليج دو فرانس" أمام ميشال فوكو ، ترك فرنسا ليدرّس الفلسفة في أرقى الجامعات الأمريكيّة . وفي الثمانينات من القرن الماضي أصدر مؤلفه الفلسفي الأساسي :”الزمن والسّرد " في ثلاثة مجلّدات وفيه يطرح رؤيته للعديد من القضايا الفلسفية الأساسيّة المتصلة بالأساطير، والأديان، والأدب، والعلوم الإنسانية، والعلوم الصحيحة .كما يتحدث فيه عن من يسمّيهم ب "معلّمو الشكّ". ويعني بهم ماركس، ونيتشه، وفرويد. ومثل فوكو الذي حاول أن يقدّم تفسيرا فلسفيّا لشخصيّة الكاتب، وجيل دولوز الذي اهتمّ بفنّ الرواية في كتابه "بروست والدّلالات"، ودريدا الذي سعى لفهم الكتابة من وجهة نظره كفيلسوف، أولى بول ريكور اهتماما كبيرا بالأدب في مؤلّفه المذكور، وفي العديد من مؤلّفاته الأخرى. وفي "الاستعارة الحيّة" كتب يقول :”تبيّن أن الأدب مخْبَر واسع للتّجارب الفكريّة التي تسمح بتغيّرات خياليّة لا تحصى ولا تعدّ، تساعدنا على أن نبني حياتنا بطريقة خلاّقة".
وكان بول ريكور يرى أن الأدب وسيلة فعّالة لكي نفعل في العالم، ولكي نواجه تاريخنا الشّخصيّ، والوطني ،ولكي نفكّر في هويّتنا، ونكون مساهمين في الحياة الأخلاقيّة، وفي كلّ الطّموحات العميقة". وقد أولى بول ريكور عناية خاصّة بثلاثة أعمال روائيّة شهيرة، وعنها كتب دراسات مهمّة طرح من خلالها العديد من القضايا المتّصلة بالعلاقة بين الأدب، والفلسفة. وهذه الأعمال هي "السّيّدة دالّاوي" لفيرجينا وولف، و"الجبل السّحريّ "لتوماس مان، و"البحث عن الزّمن الضّائع" لمارسيل بروست. وفي السّنوات الأخيرة من حياته، انكبّ على كتابة ملاحظات، وخواطر مستوحاة من قراءاته ل"أوليسيس"،ا لرواية الشهيرة لجيمس جويس، ولمسرحيّات شكسبير ولأشعار أنّا أخماتوفا الروسيّة التي اكتشفها عند زيارته لمدينة سانت- بطرسبورغ في ربيع عام 2003
وكان بول ريكور يدعو الى الانفتاح على جميع الثقافات الإنسانية القديمة والحديثة بجميع فروعها المعرفيّة. وفي ذلك كتب يقول :”وحدها الثقافة الحيّة، والتي هي في الآن نفسه وفيّة لمصادرها الأولى، وتتمتع بتوهّج ابداعي كبير على مستوى الفن، والأدب، والفلسفة ، والروحانيّات، قادرة على أن تتحمل الانفتاح على الثقافات الأخرى، والتحاور معها .وهي لا تتحمّل ذلك فقط، بل أن تكون قادرة على أن تمنح معنى لهذا الإنفتاح. وعندما يكون هذا الانفتاح مواجهة مع تحريضات ابداعيّة، مواجهة اندفاع وتوثّب، فإنها نفسها تكون ابداعية ".وفي نفس هذا السياق يواصل بول ريكور كلامه قائلا: ”ليس من السّهل أن نظلّ أنفسَنا، وأن نمارس التسامح مع الحضارات الأخرى (...)اكتشاف تعدد الثقافات ليس تمرينا بريئا وغير مؤذ. التجرّد المتحرر من الوهم تجاه ماضينا نفسه، والغيظ الذي يمكن أن نشعر به تجاه أنفسنا ،والذي يمكن أن يغذّي هذه الاغرابية ، وهذه الثقافة القادمة من بعيد، يكشف بشكل جليّ الخطر النافذ الذي يهددنا. ففي اللحظة التي نكتشف فيها أن هناك ثقافات أخرى، وليس ثقافة واحدة ،وفي اللحظة التي نعترف فيها بالتالي بنهاية نوع من الاحتكار الثقافي، وهميا كان أم حقيقيا، فإننا نصبح عندئذ مُهددين بالتدمير من قبل اكتشافنا ذاته، وفجأة من المحتمل أن يتملكنا احساس بأنه ليس هناك سوى الآخرين، وأننا أنفسنا آخرون بين الآخرين".