قبل أيام وتحديداً في20 فبراير من هذا العام، عَبَر المايسترو وعازف البيانو الأسطورة كريستوف إشينباخ عتبة الثمانين. ثمانون عاماً حافلة بالتجارب والنشاط والمعاناة جعلت منه أسطورة من أساطير العزف على البيانو والقيادة الموسيقية. لذا قررت دار الحفلات الموسيقية، وأوركستراها تحديداً، الإحتفال بهذه المناسبة والإحتفاء بصاحبها الذي يشغل موقع قيادتها منذ أواخر العام الماضي، للفترة من 25 فبراير الى 1 مارس، وسيتضمن الإحتفال برنامجاً حافلاً بالنشاطات والحفلات الموسيقية التي ستحييها نخبة من الموسيقيين من أصدقاء وتلاميذ إشنباخ.
ستحل أوركسترا باريس الشهيرة، التي كان إشينباخ قائدها لسنتين من 2000 إلى 2010، ضيفة لحفلتين موسيقيتين ضمن هذا المهرجان الإحتفالي. الأولى في 26 فبراير، تعزف فيها بقيادته أعمالاً، تجمع كشخصيته وسيرة حياته، بين العناصر الألمانية والفرنسية، وهي السمفونية الفانتازية لبرليوز وكونشيرتو الكمان لمندلسون بمرافقة عازف الكمان راي تشن الذي ينتمي إلى مجموعة من الموسيقيين الشباب الذين يرعاهم إشينباخ، والذين يقدرونه ليس فقط كمعلم بل كصديق حميم. أما حفلتها الثانية بقيادة إشنباخ فستكون في 27 فبراير بصحبة عازف البيانو لانغ لانغ الذي سيقدم معها ومعه كونشيرتو البيانو الثاني لبيتهوفن بالإضافة الى سمفونيته السابعة، والذي يقول عن إشنباخ: "هو معلم وأستاذ بالنسبة لي، وبتنا أصدقاء مقربين جداً. هو في الواقع والدي الثاني، ومصدر إلهام لي لتحرير روحي وتوحيدها مع البيانو".
أما حفل ليلة 28 و 29 فبراير و 1 مارس، فقد تم تخصيصه لأعمال الموسيقار الألماني برامز الذي له مكانة خاصة لدى المايسترو إشنباخ الذي يقول عنه: "برامز له معنى عاطفي قوي بالنسبة لي، فكعازف بيانو أدّيت الكثير من سوناتاته أو مقطوعاته للبيانو، كما درست سمفونياته الأربعة منذ شبابي، لذا فإنني سعيد جداً بفرصة قيادة أعماله مع أوركسترا دار الحفلات". حيث سيتم تقديم السمفونية الثالثة وكونشرتو البيانو الثاني بمرافقة تسيمون بارتو، الذي يعمل مع إشنباخ منذ فترة طويلة وشاركه بإحياء العديد من الحفلات.
رغم عبوره عتبة الثمانين، إلا أن تقاطيع وجه المايسترو إشنباخ لا تزال مرسومة بدقة غير عادية بالنسبة لشخص في الثمانين، فعيونه الداكنة محاطة بظلال تمنحها مهابة، لذا لا يمكن لشخص غريب أن ينظر إلى داخله، فالمظهر هو الجزء الوحيد السهل تحديده بشخصية إشينباخ، أما التفاصيل فمضغوطة، ولا يمكن التعرف عليها سوى بالتقرب منه، أو البحث في سيرة حياته الحافلة. لطالما وصفه البعض بالكاهن لما توحيه طلته ويضفيه حضوره من مهابة، صوته ناعم لكن واثق، وهو هاديء وتأملي يعيش حياة روحية لا يغيرها، ويرتدي ملابس أنيقة لكن بسيطة أحادية اللون، ويحمل نفس حقيبة اليد منذ سنوات، ولا يأكل إلا عندما يكون جائعاً، وحينما يكون في المنزل يأكل نفس الشيء كل يوم، وهي جبنة غُرغُنزولا والطماطم، أو سمك السلمون المدخن والخبز المحمص. لا يحب الظهور كثيراً ولا المشاركة بالمؤتمرات، ولم يتزوج أو ينشيء عائلة، لكن لديه العديد من الأطفال، رجالاً ونساءً، من كل أنحاء العالم، وهم الموسيقيين الذين قام بتبني مواهبهم وتدريبهم ورعايتهم، وظل يتابع عملهم ويفتخر بنجاحهم، إلا أنه لا يتدخل في حياتهم الخاصة بل يتركهم يخطئون، وحينما يأتون لطلب النصيحة فهو دائماً موجود. لكنه في النهاية ولد صغير فقد أمه وأبيه وجَدّته وهو صغير، وتعهدته قريبته عازفة البيانو بالرعاية، لذا نشأ مستقلاً يعرف كيف يحمي نفسه، وحينما كان يمرض ويعجز عن الحركة كانت تضعه في الفراش وتعزف على البيانو فيما يستمع هو اليها، لذا سحرته أنغام هذه الآلة وسكنت روحه ومنحتها السكينة التي تبحث عنها، وكَبُر هذا الصبي الصغير وأصبح عازف بيانو ثم مايسترو، والى اليوم رغم أنه من أشهر عازفي البيانو وأحد أبرز أساطين القيادة الموسيقية، لكنه حينما يستمع الى شخص يعزف أمامه، يعود ذلك الصبي الذي يستمع بإعجاب وتواضع، لأن الموسيقى غذاء روحه ومنقذته كما يقول عنها دائماً. وهذه القناعة هي التي تحركه وترسم تفاصيل حياته.
بالتالي لا وقت للركود أو الوقوف مكتوفي الأيدي "Keine Zeit für Stillstand"، كما عَنوَنت دار الحفلات الموسيقية برنامج إحتفالها بعيد ميلاد قائد أوركستراها السمفونية الثمانين، فالحفلات ستستمر على مدى أسبوع كامل، وهي مُنوّعة وحافِلة بأجمل المقطوعات الموسيقية. والضيوف كُثر، وهُم من أشهر الموسيقيين في العالم، والأهَم من كل هذا فإن الأسطورة صاحب عيد الميلاد سيكون حاضراً في أغلب هذه الفعاليات وسيقود الفرق السمفونية التي ستشارك فيها. لذلك هي فرصة لا تعوض للكثير من الفائدة والمُتعة معاً لمُحبّي الموسيقى الكلاسيكية العالمية والمايسترو إشنباح، وعلى من يتواجد منهم في برلين خلال الأيام القادمة أن يسعى للتواجد والمشاركة في هذا المهرجان الموسيقي الإستثنائي، الذي لن يتكرر، قبل فوات الأوان.
[email protected]