كثيرا ما تختلج في رأسي فكرة ان المبدع – فنانا كان او أديبا- لا يصل الى قمة الإبداع وفردوسه الممتع الجميل إلاّ إذا عاش الفقر وتذوّق مرارة الفاقة وقد يصل الى ذلك الفردوس الإبداعي الذي يصبو اليه بمهارة وحنكة لا مثيل لها ؛ لأن الفقر والعوز يعطي الأديب والفنان دفعا وزخما أعلى بكثير ممن لا يعيشون معاناة الفاقة .
فمن يحترق بنار الفقر والعوز ويعيش لظاها ليس مثل من يتحسس آلام الجوع والحاجة وشتان مابين الثكلى الفاقدة وليدها وبين المواسية المُعزّية .
يكاد هاجسي يكون يقينا بأن الإبداع غالبا ما يخرج من رحم الأحزان وليدا شرعيا معترفاً به .
أمامنا العديد من البراهين والدلائل التي تؤكد هذا المنحى ؛ فلننظر مثلا الى الحقبة التي حكم فيها القياصرة روسيا قبل اندلاع الثورة البلشفية عام /1917 وكيف كان الأدب الروسي، بشعرائه وكتّابه اللامعين أمثال تشيخوف وغوغول وديستويفسكي وتولستوي وغيرهم وما كتبوه من روائع الأدب الخالدة في العالم اجمع . لكن ما تبعه من الأدب السوفياتي بعد الثورة لم يرقَ الى عُشر مستوى الادب الروسي الساحر المؤثر ؛ رغم قناعتنا بأن الحرية قد خُنقت في العهد السوفياتي حتى كاد السقف الايدولوجي يطيح برؤوس الكتّاب والفنانين والشعراء المبدعين وخوفهم بان لا يتجاوزوا المحظور ولا يخترقوا الضوء الأحمر الشاخص أمامهم .
وفي تقديري ان شيوع الفاقة قبل الثورة سببه تنامي الاقطاعيات الكبيرة واتساع التخلف المادي لعدم وصول التأثيرات التي قامت بها الثورة الصناعية وقتذاك الى روسيا مما جعله بلدا عائما بالفقر واغلب مواطنيه من الفلاحين المعدمين وقد امتص جهدهم إقطاعيو القياصرة .
وفي تصوّرنا انه كان الدافع الرئيس لظهور أدب عظيم وإبداع هائل . وكلّ ذلك سببُه اتساع الفاقة .
من جانب آخر تضاءل الفقر تدريجيا بعد انتصار الثورة وقضائها على النظام القيصري وكادت الفوارق الطبقية تقلّ في العهد السوفياتي ومستوى الدخل أصبح شبه متساوٍ بين فئات المجتمع العامل لكنه بنفس الوقت ولّد أدبا لا يلفت الأنظار كثيرا سوى بعض الكتابات الراقية الضئيلة التي كتبها ماياكوفسكي وغوركي (( المخضرم في الحقبتين الروسية والسوفياتية )) وكذا النخبة المثقفة الطليعية" اوبيرو" ثم بعدهم رسول حمزاتوف وأشعاره الجميلة ، لكنها تصغر كثيرا أمام شعر الكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف على سبيل المثال لا الحصر ، وكذا في اكثر روايات العهد السوفياتي شهرةً مثل " الفولاذ سقيناه " للقاص أوستروفسكي و " الدكتور زيفاجو " للكاتب باسترناك اللتين – رغم رقيّهما -- تتضاءلان كثيرا أمام ملحمة الحرب والسلام وآنا كارنينا لتولستوي ، والجريمة والعقاب ،والاخوة كارامازوف والمقامر لديستويفسكي والمعطف لغوغول والأم لمكسيم غوركي الذي كتبها ابان العهد القيصري والعم فانيا لتشيخوف وغيرها الكثير .
وكذا الحال في الادب الفرنسي وما أبدعه الشاعران آرثر رامبو وشارل بودلير ومالارميه حيث عانوا العوز والفقر والتشرد لكنهم أنتجوا شعرا ما زال عالقا في الأذهان الى يومنا هذا .
ويحضرني في الذاكرة أيضاً القاص والشاعر الأميركي المبدع أدغار ألن بو الذي ذاق مرارة العيش والفقر والتشرد ولكنه كتب أروع القصص والأشعار ووصل الى درجات هائلة من الإبداع ومات وهو جالس على مصطبة في إحدى الحدائق العامة لأنه كان يفتقد المأوى والمسكن إضافة الى مرضه العضال .
ذات الشيء مع عبقرية بتهوفن الموسيقية الهائلة والذي ذاق مرارة الفقر والعوز والحرمان فابتكر ما يدهش الإنسانية من ثراء موسيقي لا نظير له من السيمفونيات والسوناتات الخالدة أبداً .
وهل ننسى الرسام العظيم فان كوخ الذي تباع لوحاته بملايين الدولارات الآن وكان في حياته يعاني قحط العيش وبالكاد يحصل على مايسد رمقه ويقيم أودَه ؟ ؟
حديثي هنا عمّن يستثمر الفاقة والحرمان من المبدعين حصرا من ذوي المواهب الاستثنائية والعقليات الخارقة والنفوس المثقلة بالتجديد والابتكارات الملفتة ، وليس عن الفقر كحالةٍ مزرية بائسة قد توقع الكثيرين من الدهماء وعامة الناس العاديين في مهالك الجريمة والانحطاط والبغاء والشذوذ ، هنا يكون العوز والحاجة حاضناً في مناقع الأوبئة الاجتماعية ومرتعا للمهانة والإذلال والسقوط الأخلاقي والفكري وكلّ ما هو شائن ومنحط .
مع اقتناعي بوجهة النظر هذه ؛ فإنني لا أنكر ان البعض قد أبدعوا في كتاباتهم وهم ربيبو القصور وأبناء الثراء والبذخ واعتلوا مراتب أدبية سامية مثل تولستوي الإقطاعي الغنيّ قبل ان يعزم على توزيع إقطاعياته لفقراء الفلاحين رغبةً وطواعية منه وكذا بوشكين الطبيب ذي الأسرة الموسّرة وتورجينيف المنتميين لعائلات ثرية جدا ومنهم من تقلّد مناصب ديبلوماسية رفيعة مثل الشاعر الفرنسي الآخاذ المبهر سان جون بيرس ، وعندنا نحن العرب أحمد شوقي الذي توّج أميرا للشعراء وغيره من الأدباء الذين عاشوا الرخاء ورغد العيش وفي بحبوحة الخلفاء وندامى الأمراء وهم كثرٌ ، وقد نعزو السبب الرئيس هنا الى عظم حساسيتهم الجمالية وعمق معاناتهم وفرط أعماقهم الإبداعية وهم يرون شركاءهم في الإنسانية يعانون مرارة الحال والمآل ؛ لكني مقتنعٌ تماما بان الفقر يوصل الفنان والأديب الى قمة الإبداع ويزيده لمعانا وخصبا مع أنني لا ارفض الإبداع أصلا دون فقر.
فالفاقة تدفع الإنسان الأديب والفنان الى أعلى مراتب اللوعة وتوصل الى فردوس الإبداع وهناك فرق شاسع بين فنان او أديب يكتوي بنار الفاقة ويحترق في لهيبها وبين آخر يقترب من هذه النار ويرى معاناة من بداخلها عن بعد ؛ لكنه ناءٍ عن جمرها وكيّها ولا تصل اليه لسعتها الحارقة سوى دفءٍ آتٍ من مكان بعيد لا يخلو من الإبهار وفي ساحل الإبداع غير انه ليس في غوره العميق .

[email protected]