في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، توفي في باريس الكاتب التونسي رمن أصل يوهودي، ألبير ممي الذي كان سيبلغ من العمر 100 سنة لو أ نه عاش حتى شهر ديسمبر القادم.. وقد سمحت لي روايتة "تمثال الملح" ي بالتعرف على جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية والثقافية في الفترة الفاصلة بين الحربين الكونيّتين.كما أضاءت لي هذه الرواية حياة يهود"الحارة" في الجزء العتيق من العاصمة ،والتي ولد فيها ألبير ممي الخامس عشر من شهر ديسمبر-كانون الاول 1920. وقد قرأت روايات أخرى لهذا الكاتب الذي ظل حتى النهاية يفتخر بأصوله التونسية ،غير أن روايته المذكورة آنفا تظلّ الأفضل بالنسبة إليّ. والشاعريّة التي تتميّز بها من الناحية الأسلوبيّة واللغويّة تتيح لها أن تكون على المستوى المغاربي واحدة من أجمل الروايات التي كتبت باللغة الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين. بالإضافة الى كلّ هذا هي تمثّل وثيقة هامة وأساسيّة لفهم التاريخ التونسي المعاصر خلال الفترة الاستعمارية.

وينتمي البير ممي الى عائلة يهوديّة فقيرة. فقد كان والده فرانسوا يبيع البرادع للحوذييّين المالطيّين، والعتّالين النازحين من مدينة قابس الجنوبية إلى العاصمة. وأما والدته مارغريت سارفاتي فكانت يهودية بربريّة. والاثنان كانا يتكلمان الفرنسيّة. ولأنه كان لامعا ومتفوقا في الدراسة، فان البير ممي حصل على منحة خوّلت له الدخول الى المعهد الثانوي. فكان ذلك حدثا مهمّا شكّل مُنعرجا في حياته. وأما الحدث المهم الآخر فقد تمثّل في تعرفه على أستاذ كان يدرّس الفلسفة. وكان هذا الأستاذ مُتحررا في أفكاره، ومدافعا بحماس عن فلاسفة التنوير من أمثال فولتير، وروسو،وديدرو. ومن المؤكد ان الفتى البير تأثر كثيرا بهذا الاستاذ،وتشبّع بأفكاره التحررية. وفي ما بعد سيظلّ وفيّا له إذ انه فتح أمامه آفاقا واسعة، وحرره من التأثيرات الدينية بالخصوص. لذلك لم يتردد في الانضمام في سنوات المراهقة الى منظمة يهودية لائكيّة. غير أن انضمامه إلى تلك المنظمة لم يدم طويلا إذ سرعان ما شعر بأنها-أي المنظمة-تحدّ من حريته الشخصية، ومن استقلاليته الفكرية. وكان البير ممي في العشرين من عمره لما وجد نفسه في أحد المعسكرات النازية التي أقامها الألمان خلال الحرب الكونية الثانية. وعند انتهاء الحرب، التحق البير ممي بالجامعة الجزائرية، ثم بجامعة السربون بباريس. وهناك تزوج من فرنسية كاثوليكية كانت تتقن الالمانية، وعاد الى تونس ليدرّس الفلسفة. وفي هذه الفترة كتب "تمثال الملح"،ثم أرسلها عبر الناشر الفرنسي موريس نادو الى جان بول سارتر الذي كان قد بعث للوجود مجلته الفكرية التقدمية "الأزمنة الحديثة". وقد أعجب عرّاب الفلسفة الوجدية بهذه الرواية، فكتب لها مقدمة مُشيدا بأسلوبها،وببنيتها التقنية.وبعد صدورها، أصبح البير ممي يحظى بتقدير القراء والنقاد. وفي مطلع الخمسينات، إلتحق البير ممي ب"المركز الوطني للبحوث الاجتماعية" .وكان هذا المركز يمثل يمثل بالنسبة اليه "مؤسسة رائعة تستقبل كل الصيادين الضائعين في البحر". إلاّ أنه سرعان ما انتبه الى أنه يعامل بقسوة باعتباره"يهوديا تونسيا". ومن وحي هذه التجربة المرّة،ك تب "صورة المستعمَر".وقد استقبل هذا الكتاب بحفاوة كبيرة من قبل المثقفين الفرنسيين التقدميين. ولم يتردد سارتر في كتابة مقدمة عبّر فيها عن تقديره الكبير لالبير ممي معتبرا إياه مفكرا مدافعا عن قيم الحرية والكرامة الانسانيّة. غير ان الكتاب هوجم من قبل القوى اليمينية الفرنسية .لذلك كان على صاحبه أن ينتظر حتى عام 1967 ليحصل على جنسية بلاد فولتير. وقد تمّ له ذلك بفضل تدخّل كلّ من ادغار بيزاني، وليون هامون اللذين كانا يمثلان الجناح اليساري في الحزب الديغولي(نسبة الى الجنرال ديغول) .ولم يكن البير ممي محبا لتدريس الفلسفة.وكان يقول:”الفلسفة الاكاديمية والتجريدية لا تستهويني.وهي لاتنسجم معي.وهي بالنسبة لي فلسفة لغوية، وبالتالي هي ثرثرة نظريّة. أنا قادم من بلد فقير فيه الأمراض والحرب والموت. وأنا أعتقد أن على الفلسفة أن تتجذّر في الواقع الموضوعي،وفي حياة الناس".

وفي كتابه الاخر :”صورة يهوديّ "،يهتم البير ممي بوضعيّته الصعبة عندما قدم إلى فرنسا في سنوات الشباب.وهو القادم من بلاد مسلمة، لم يكن يتصوّر ان يجد نفسه في بلاد كاثوليكي فيه تقرع الكنائس أجراسها، وفيها تحمل مدن وقرى اسماء رجال دين.كما لم يكن يتصور أن فرنسا التي اأصبحت لائكية بعد ثورة 1789 يمكن ان تشكّل تهديدا ليهوديّ مثله. وقد أثار هذا الكتاب غضب اندريه بيلي ،عضو اكاديمية غونكور ،والمحرّر في جريدة"لوفيغارو" .لذلك كتب يقول:”اذا ما شعر السيد البير ممي بأن وضعه في فرنسا ليس على ما يرام، فإنه من حقّنا ان نتساءل :وأين يمكن ان يكون وضعه جيّدا؟ ثم ونحن نقرا كتابه ( يعني صورة اليهودي) ،نستنتج في نهاية المطافأ أن مسألة اليهودي إذا ما عولجت بهذه الطريقة فانها تظل من دون حلّ".وقد ردّ البير ممي على هذا قائلا:”لقد طرحت مسألة موضوعية وما أعنيه باليهودي،لا يعني التعلق بثقافة .وكما هو الحال بالنسبة إلى المسلمين حيث هناك خلط بين الدين والثقافة ،فإن كل الشعوب التي لم تستوعب العلوم الحديثة لا يمكنها ان تفرّق بين الدين والثقافة".وفي مجمل رواياته،ظلّ البير ممي منجذبا إلى الأساليب الكلاسيكية،ولم ينجذب أبدا الى التيّارات الطلائعية التي برزت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.وكان يردّد دائما ان معلميه الكبار هم بالزاك،وزولا،وباسكال،وديكارت،وفلوبير...وخلال السنوات الأخيرة،انشغل البير ممي بالكتابة عن السعادة.وهو يقول:”البعض يتهمونني بالغرق في الغبطة والسعادة .لكن لماذا انا ناضلت طوال سنوات وسنوات؟ا أليس لكي يكون الناس سعداء؟"...