تقديم - إيمان البستاني


خُلق هذا الرجل ليكون رحّالاً وإلا كيف تفٌسر كلماته : إنني أكره السيارات و الطائرات و الراديو و التلفزيون و هي في الحقيقة مظهر مدينتنا في السنوات الخمسين الماضية و أكون دائما سعيدا إن قاسمت في‏ العراق أو في أي مكان آخر راعي الغنم و هو يعيش في كوخ ملي‏ء بالدخان مع أسرته و حيواناته
بريطاني بأمتياز ورجل عصره، إلا أن الله حباه بشغف عارم لعالم الرحلات وصبر بالغ لتحمل المشقات و قدرة فائقة على الانغماس في ثقافات أخرى بكل سلاسة ويسر، مضافاً لها كاريزما متفردة ذات سحر خاص جعلته مقرّباً للقلوب أجبرت كل من رآه أن يعاود السؤال عنه ثانية
هو السير(ويلفريد ثيسيجر) ولد عام 1910 في المفوضية البريطانية في أديس أبابا، وهو أكبر اولاد النبيل ( ثيسيجر) الوزير البريطاني في الحبشة آنذاك. وقد تلقى دراسته الثانوية في مدرسة ايتون المشهورة، والعالية في جامعة أكسفورد. وفي عام 1933 - 1934 قام بدراسة أحوال منطقة (داراكيل) في الحبشة، والتحق في الخدمة السياسية في السودان وتولى إدارة مقاطعة دارفور الشمالية
وفي 1940 - 1941 عين ضابطاً في الجيش البريطاني ورابط في الحدود السودانية، وتطوع بعدها في قوات الحبشة الوطنية ضد القوات الإيطالية، وارسل بمهمة خاصة إلى سورية، واستأنف دراسة اللغة العربية في دمشق واشتغل كذلك في الصحراء الغربية
وفي خلال 1945 - 1950 قام بزيارة منطقة الربع الخالي والحجاز وحضرموت ومحمية عمان ونال مدالية الجمعية الجغرافية في لندن بعد زيارته لهذه المناطق، حتى سُمي ( مبارك بن لندن) للعلاقة الطيبة مع عرب الجزيرة، وسافر خلال 1950 - 1958 إلى إيران والعراق وباكستان وأفغانستان

أستقر في أهوار العراق من عام 1950 حتى حزيران 1958والسنة الوحيدة التي لم يذهب فيها إلى الأهوار هي سنة 1957 وقام بتأليف كتابه الصادر لاول مرة في عام 1964 هو الكتاب الاشهر بين كتبه العديدة (عرب الأهوار) ب376 صفحة موزعة على 24 فصلاً تتخلله صور ألتقطها بكاميرته الشخصية وهو جهد يعد احتفال بثقافة لمنطقة عرب الأهوار في جنوب العراق، والتي كانت في منتصف القرن العشرين طريقة حياة لم تتغير لأجيال
وكانت الأهوار في الفترة الّتي زارها ( ثيسيجر) واسعة الأرجاء تغطي حوالي ستّة آلاف ميل مربع (أي حوالي 9،660 كلم مربع) من المنطقة الّتي تحيط بالقرنة الّتي يلتقي فيها دجلة والفرات شمال البصرة ليشكلا شطّ العرب، يقطنها ألمعدان مربي الجاموس والقرويين زارعي الشلب وعلى الأطراف بأتجاه الجزيرة هناك العرب البدو
أستوطن ( ثيسيجر) في الأهوار الوسطى، كان ينتقل بطراده بينهم وقد صاحبوه طيلة هذه السّنوات، وأقام في قراهم، تجوّل في الأهوار الشّرقية ولكنه لم يّتعرف على أهلها بنفس العمق وكان بينهم غريباً وإن كانوا يرحبون به للمساعدات الطّبية الّتي يمكنه أن يغدقها عليهم، أمّا معرفته بالأهوار الجنوبية فقد كانت قليلة
دخل الأهوار عام 1950 جهة العمارة ممتطياً فرساَ عربية ذات سرج أشبه بسروج رعاة البقر، يرافقه نائب القنصل البريطاني في العمارة (دوكالد ستيوارت) وكان الأخير شاباَ في نهاية العشرينات من عمره، أمضيا ليلتهما وسط ثغاء الغنم طوال الليل بين عشيرة (البزون) أفترشا الأرض في خيمة الضيوف بعد تناولهم لوجبة دسمة من الأرز ولحم الضآن
كان قادماً من كردستان العراق متوجهاً نحو الجنوب، في الشمال كان يمتطي الدواب ويقطع الجبال يصطحبه خادم كردي شاب، سالكين طريق خلال غابات البلوط حيث ألدببة تنبش الأرض في الأحراش بحثاً عن الطعام، في فصل الربيع تزهو جبال كردستان بأنواع الزهور، وكان قد أتُخم من كثرة أكل العنب الطازج الملقى تحت أشعة الشمس او في جداول الماء الجاري البارد، كان يهوى زيارتها لصيد الغزلان الجبلية الجميلة
هاهو يتجه جنوباً حيث الأهوار، العالم المختلف في كل شيء، كان قد أحب العرب وفضّلهم على الأكراد بسبب جهله لغتهم، كانت عشيرة (البزون) قد أخطرت الشيخ (مزيد بن حمدان) شيخ عشيرة آل عيسى بأنه متوجه أليهم، خرج لأستقباله مرحباَ وكان صغير الجسم ممتلئ البدن، هيئته تدل على الهيبة والنفوذ، قاده الى خيمة ضيوف مضاءة بالفوانيس ومليئة بالرجال معظهم مسلحين بالبنادق، حينما دخل الى المضيف نهض الجميع، بعد شرب القهوة والسؤال عن الصحة والأحوال، كان الرجال جالسين جلسة معتدلة وهم سكوت لا ينبسون ببنت شفة لأن الشيخ هو المتكلم الوحيد، هذه الأجواء هي عاداتهم وتقاليدهم و ديدنهم ويتكرر المشهد خلال جميع صفحات الكتاب كلما حل البريطاني ضيفاَ
بعد عودته الثانية أتجه الى مدينة العمارة في الأسبوع الأول من شهر شباط سنة ١٩٥١، و كان قد إستأجر مشحوفا في المجرى الكبير قاصدا دار الشيخ (فالح بن مجيد الخليفة) الواقع على حافة الأهوار. كان والده الشيخ (مجيد الخليفة) أحد الشيخين البارزين من عشيرة البو محمد الكبيرة، و كان (دوكالد ستيوارت) قد أخبره بأن الشيخ فالح هو أفضل شخص يستطيع مساعدته
نشأت بين الرجلين علاقة وطيدة، كان الشيخ فالح شخصا ذا نفوذ، سأله عن خططه، فقال له بأنه يريد الذهاب إلى الأهوار حتى يرى المعدان، بعثه إلى قرية قباب، و هي قرية كبيرة في قلب الأهوار حيث المعدان يعيشون كما تعيش جواميسهم، بيوتهم نصفها تحت المياه، مليئة بالبعوض و البرغوث، فإذا جرّب و نام أحدهم في أحد بيوتها داس وجهه الجاموس خلال الليل، والمعدان هم أناس فقراء، لا يملكون الطعام المناسب، و كل أكلهم من الأرز و اللبن
يعلق على الأسماء الغريبة التي يستعملها المعدان: جليب - جريدي - باكور - عتوي - حولية - واوي - قنفذ - شبل - برهان - هليجي - غراب - طويره - برغش - دكة - رفش - شبوط - قطان - بني - حمرية - جري - عجد - شلير - شوكة - حنظل - ركية - خلاله - طبيخ - صحين - عظيم - والملاحظ ان هذه الأسماء مأخوذة من محيط المجتمع ومن منتجاته وسمكه ونباتاته وحيواناته، يطلقون مثل هذه الأسماء حتى يطردوا عيون الحساد، و هم يسمون‏ الأطفال الذين يولدون حديثا بهذه الأسماء و خاصة إذا سبق و أن مات أخ لهم
يأكل جاموس المعدان الحشيش (سيقان القصب) والبردي والكولان والجريج والسجل والقاط والكوبان وابو رقبة والحلبلاب والكعيبة والحو والمران والحليان، ويعقر المعدان الرحل جواميسهم ليلاً بينما يترك القرويون الذين تفصل البرك بيوتهم جواميسهم طليقة امام بيوتهم ويستعمل المعدان قاطبة ترنيمة خاصة حينما ينادون جواميسهم
فالجاموس يمد سكان الأهوار بالحليب والزبدة والقشطة (الگیمر) وفي بعض الأماكن بالجبن، ولا يـُذبح الجاموس أبداً لأكل لحومها إلا إذا كانت مريضة أو على وشك الموت، وقلّ ان يبيع بعضهم جاموسه إلا أذا كان بحاجة إلى نقود لشراء مشحوف أو بندقية
دعا الشيخ فالح ضيفه الإنكليزي لصيد الخنازير التي تكثر في المنطقة وتفسد حقول القرويين من الشلب وتصبح عدائية اذا أنضمت في قطيع، وقد أودت بحياة الكثيرين عند مهاجمتها لهم اثناء توجيه بنادقهم بأتجاهها، يقول رجل عجوز من المنطقة : الخنازير هي أعداء، تأكل محاصيلنا و تقتل رجالنا، اللّه يقتلهم! إشوف مناتي، أصبح عاطل ما يقدر يشتغل بعد هذيج الخنزيرة قضت عليه يوم عضت عجيزته فأصبح يعرج في مشيته بعد ان رقد حولا كاملا حتى تعافى على يد الصاحب ; ويقصد به الرحالة الإنكليزي
و الشي‏ء الملاحظ هو أن الخنازير نادرا ما تدخل حقول الشعير إذا ما وجدت حقول القمح بجانبها، و تقتات ليلا في الحقول و تضطجع فيها نهارا، و كان القمح في بعض الأماكن بارتفاع أربعة أقدام تقريبا بحيث تجعل الصيد فيها خطرا للغاية و خاصة حينما تحرك الرياح سيقانها، و فعلا طرحنه مرة أحد ذكور الخنازير على الأرض للصاحب الإنكليزي الذي قتل منهم بالمئات وكان أسفاً من أن تنقرض شأنها شأن الأسود التي كانت تعيش بالمنطقة وأختفت بعد صيدها ، يستعمل المعدان مختلف اجزاء الخنزير لاغراض التطبيب والسحر ويعتقدون ان استعمال مرارته يشفي عضة الافعى وان الإنسان يستطيع ان يشفى من مرض الروماتزم إذا ما جلس في جوف خنزير، قد قتل حديثاً واخرجت معدته
يعيش في الأهوار طائر ألكروان، الغيّوب، ألطبطوي الأحمر الساق، الطائر النكّات، الطوّل، الزقزاق، البط، مالك الحزين، أبو منجل، البلشون الأبيض، أبو ملعقة والكركي

يذكر في كتابه كيفية بناء المضايف، بعض مضايف الفرات تتألف من 17 حنية، ويشيد بيت وادي من عشائر البو محمد مضايفهم من 11 حنية في حين ان بيت صيهود يشيدونها من (9) حنايا، ويجهل سبب كون العدد فردي دائماً
وصل قباب وهناك المضايف والمشاحيف التي تملأ الهور محّملة بالقصب، وفي الجو صدى لأصوات غناء شجي، أما من يرقص في أعراسهم يتزيّا بزيّ فتاة يرتدي فستاناً ويحشو صدره ليبدو كأنه ثدي فتاة يطلق عليه (ذكر بنت) شرح له رجلاً منهم قائلا : ذكر بنت تعني راقصا محترفا من الصبيان و هو ذكر فاسد الأخلاق، و هناك إما شخصان أو ثلاثة منهم في المجر الكبير يؤجرون للرقص في احتفالات الأعراس و في الاحتفالات الأخرى ولا يعيشون بين العشائر، أما (المسترجلة) فهي المرأة التي تتشبه بالرجال، تقص شعرها مثلهم وتغير بالحرب مثلهم وتقوم وتقعد كأنها واحد منهم وعند موتها تطلق لها الأطلاقات النارية أكراماً لها، وهناك (المتخنث) الذي يشارك النساء اعمالهم اليومية وغالباً ما يشاركهن غسل الاواني والملابس بلا تحفظ
بين بيوت القصب تجد دكان وللدلالة عليه يعتلي سقفه علم ابيض، تجد فيه كيس سكر، وأخر للدقيق وخصافات تمر، صندوق شاي هندي رخيص الثمن وتنكة نفط أبيض، علب سكائر عراقية وشخاط ولا يخلو المعروض من عقالاً عليه غبار كثير
أما قضاء حاجتهم تتم بأن يجذفون قواربهم الى أقرب منابت للقصب، ثم يجلس الواحد منهم القرفصاء على جانب القارب ويقضي حاجته وهي عملية لا تتم بسهولة، أما الأستحمام كان يشاهد الراغب بذلك غاطس في الماء، في حين الرحالة الإنكليزي كان يستحم كل شهرين حين يقضي ايام قليلة في فندق في البصرة للراحة وترتيب مستلزماته
يتوجس أهل الأهوار من أول لقاء لهم بالضيف البريطاني ويبادرونه بالسؤال : إيش خططك يا صاحب؟ وحين يجيب بأنه رحالة و يود توثيق حياتهم في كتاب، يلفهم الصمت غير مصدقين، وعندما أنتبهوا الى كمية الأدوية المحشورة في حقائبه، أطمئنوا على أنه طبيب، ولم يسعفه النفي في أقناعهم ولدرايته بالأسعافات الطبية، صار طبيباً رغماً عنه، وكانوا يتوافدون عليه للعلاج والدواء، قام بختان ابن الشيخ (خريبط) من عشيرة الفرطوس، وكان شاباً وتوجب ختانه قبل تزويجه، توجس الرحالة الإنكليزي خوفاً من إجراء هكذا عملية وخاصة لشاب وليس طفلاً، توسل به الشيخ وقال أن من كان يختنهم لم يزور القرية منذ سنين عديدة وكان يتقاضى إما ديك او ربع دينار
جلس الشاب على علبة صفيح وقال للرحالة : شوف شغلك ! رفض إبرة التخدير وجلس دون حراك حتى أنتهت العملية، نهض مخاطباً الرحالة : أشكرك يا صاحب ! بعده وفدوا كل صبيان القرية وشبابها في طوابير لغرض ختانهم، لن نطيل السرد هنا وسنختصره بأن الصاحب الأنكريزي قام بختان ثلاثة أرباع أولاد المعدان مع أعطائهم السلفونمايد والبنسلين
قام بتطبيبهم من شتى الأمراض التي كانت تفتك بهم، كالبجل والملاريا والبلهارزيا والأنفلونزا الآسيوية ومعالجة حروقهم وخياطة جروحهم، حتى ذاع صيته في الأهوار، وقبل أن تصل طرادته القرية تجد طوابير المرضى تقف امام مضيف شيخها المزمع أقامة الرحالة عنده

يخاف المعدان من زيارات ممثلي الحكومة لقراهم، هذا يعني تسويق شبابهم للجندية، تراهم يتحايلون في أعطاء معلوماتهم لينقذوا ابنائهم، و يوم بدأت موجة الهجرة للمدن حيث كان دافعها الأول هو الرغبة بأن يكمل الأبناء تعليمهم وسط معارضة الأهل وخوفهم من ترك قراهم وجواميسهم واستبدالها بحياة الصرائف في بغداد، حدثت موجات هجرة كبيرة الى بغداد، أقنع الأولاد أهاليهم بأن لا حياة كحياة بغداد، و إذا بهم ينتقلون الى حياة لم يألفوها فتذمروا، عاد منهم من عاد، وأستقر من تأقلم مع واقعه
و يعتقد المعدان اعتقادا جازما بوجود وحشين مخيفين، هما; الحنفيش و الآفة كما لو أنه لا توجد أفاعي حقيقية كافية. فالوحش الأول، يشتهر بأن له جلدا يكسوه الشعر و الآخر له ساقان و يقال بأن كلا الوحشين يسكنان في أعماق الأهوار و هما وحشان قاتلان
وهاك الثالث; هل سمعتم في يوم ما عن الحفيض؟ سأل المضيف الصاحب الإنكريزي فرد الأخير :نعم، و لكن زدني بما عندك عنها،
قال الرجل : حفيض هي جزيرة تقع في مكان ما هناك، فيها قصور مشيدة، و أشجار نخيل و بستان رمان، و الجواميس هي أكبر من جواميسنا، و لكن لا يعرف أحد أين هي بالضبط
وحين قال الصاحب :ما شافها أحد من الناس؟
أجابه الرجل : شافوها، لكن، كل من يشوف حفيض يصاب بسحر و تصبح أقواله غير مفهومة عند الناس، و العباس، أقسم أنه صحيح، واحد من عشيرة الفرطوس شافها قبل سنوات لمّا كنت طفلا، كان يبحث عن جاموس مفقود، و لما عاد إلينا كان كلامه كلّه غير مترابط و عرفنا عند ذاك من أنه شاف حفيض. خذ مثلاً صيهود، الشيخ العظيم من عشيرة البو محمد بحث عن حفيض و معه أسطول من المشاحيف و ذلك في العهد التركي، لكنه، لم يعثر على شي‏ء. و يقولون بأن الجن تتمكن من إخفاء الجزيرة عن أنظار كل شخص يقترب منها
يصف الصاحب طقوس أعراسهم ومناسباتهم، أفراحها وأتراحها، العداوات و مراسيم العزاء، يسترسل في وصف حادثة مقتل الشيخ فالح حين تم أطلاق خرطوشة صيد أستقرت قرب قلبه ، حادث كان سببه متعمد، هرب ألجاني وسط القصب عندما كانوا الجميع في مهمة لصيد الخنازير
كان الشيخ في وضع سيء ينزف والكل أصابهم الشلل لا يعرفون ماذا يفعلون وعلا صوت نحيبهم، أمر الرحالة بنقله للقرية للترتيب لأرساله لمستشفى البصرة لنقل الدم اليه بأسرع وقت، كانت النساء قد سمعن بالخبر والكل يلطم وينثر التراب على رأسه، يقول الرحالة : خنقني البكاء وأردت مشاركتهم حزنهم لولا أنني خمنت لن يسمعوا أوامري لأنقاذ الشيخ لتأكدهم بأنه في وضع خطر، تم نقله بعدها للمستشفى وإلى بغداد بالطائرة لكنه توفى وكان حزن الرحالة عليه عظيماً
ينهي كتابه بهذه التفاصيل : و عندما عزمت على مغادرة العراق ذهبت إلى البصرة لأرتب معاملة سفري هناك و عندما ذهبت إلى المطار، التقيت بعمارة و سبيتي، و بما أن الطائرة في منتصف الليل لذلك انتظرنا في فندق المطار إلى حين موعد حركة الطائرة، و شاهدت على الجدار الكائن قبالتي تصويرا ممزقا لمضيفة طائرة غربية قدّمت وجبة طعام لشاب خفيف الحركة و كتب تحت الصورة: شوف العالم و أنت على كرسيك
و الآن هبطت الطائرة التي ستقلني، و دخل القاعة حشد كبير من المسافرين المتعبين و جلسوا على المقاعد بينما بدأت الطائرة بالتزود بالوقود، جلب الخادم لهم الكوكا كولا، و كان هؤلاء المسافرون قد غادروا في ذلك الصباح أو قبل ليلة من بانكوك أو من سدني، و الآن سألتحق بهم و سأكون في لندن بعد ثماني ساعات، و هذا الوقت يكفي للتنقل بالمشحوف من قرية قباب إلى القرنة و تناول الغداء مع عشيرة البوبخت في الطريق
بدأت مكبرات الصوت بنقل المعلومات عن حركة الطائرة، بوسعي التقاط بعض الكلمات مثل «المسافرون .... على خطوط شركة الخطوط الجوية البريطانية فيما وراء البحار، رقم الرحلة ..... روما ......لندن .... جوازات السفر .... نقطة تفتيش جوازات السفر
كانت هناك حركة داخل القاعة، فنهضت من مقعدي ثم جمعت حاجياتي و قلت لرفاقي (لازم أروح هسه) قبّلني عمارة و سبيتي و ودعاني ثم قال لي عمارة (إرجع إلينا و لا تطول الغيبة) و أجبتهما قائلا (في السنة القادمة إن شاء اللّه) ثم التحقت بالجمع الواقف الواحد وراء الآخر
و بعد ثلاثة أسابيع، كنت أتناول الشاي مع أصدقائي في آيرلنده، إذ بأحد الأشخاص يدخل علينا قائلا (هل سمعتم بأخبار الساعة الرابعة؟
حدث انقلاب في بغداد و قتلت العائلة المالكة و قتل نوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق. و الجماهير الحاشدة أحرقت السفارة البريطانية) أدركت عند ذاك بأنه لن يسمح لي بالعودة إلى العراق مرة أخرى و أن فصلا آخر من حياتي قد إنتهى
وعندما توفي (ويلفريد ثيسيجر) في 23 من آب عام 2003 عن عمر ناهز 93 عاماً، نعته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بقولها : مات صديق العرب اليوم، مات عاشق الأهوار