حدَّد جان بياجيه، مؤسّس علم تكوين المعرفة أو ما يُعرف بالأبستمولوجيا، طبيعتَيْن اثنتَيْن للذكاء لدى الأطفال: الذكاء المجازيّ والذكاء العمليّ. الذكاء المجازيّ هو الذكاء المتغيِّر أو الذكاء اللاثابت المنطوي على كلّ الوسائل التي يتمّ من خلالها الاحتفاظ بالحالة وحجرها داخل الذهن. ومثال ذلك الإدراك الحسيّ، كاللغة والرسم والتخيُّل. أمَّا الذكاء العمليّ فهو الجانب الدائم النشاط من الذكاء، مُمثَّلاً بجميع الإجراءات المتخذة لمتابعة الأشخاص والأشياء، إضافةً إلى التوقُّع والاستعادة. ولذا فإن الذكاء المجازيّ يستمدُّ معناه من جوانب الذكاء العمليّ. والطفل هاهنا، وعبر هاتين الطبيعتَيْن المتكاملتَيْن من الذكاء، كالمصوِّر البارع الذي يسير بكاميراه من اليمين إلى اليسار وليس العكس، حيث العين التي تحفظ المشهد مثبَّةٌ على العدسة، بينما عينه اليسرى حُرَّةٌ تصطاد الجمال لتحتجزه لاحقاً على هيئة مموِّلٍ دائم للعين الأولى. يقول بياجيه إن الذكاء العمليّ يُشكِّل إطارَ عمليةِ فهمِ الأطفال للعالَـم، وإمكانية تغيّره إذا ما كان هذا الفهم غير صحيح. وبالتالي فإن الذكاء العمليّ للطفل هو النفق الذي يمرُّ من خلاله فهمه وتفحُّصه لهذا العالَـم الذي يحيط به. وإن عمليتَي الفهم والتغيير هاتين تتوقفان على وظيفتَيْن أساسيتَيْن هما: الاستيعاب والتمثُّل. ولتوضيح المعنى نقول إن الاستيعاب مع التكيُّف البصريّ يُشكّلان الكيفيّة التي يتصوُّر بها الطفل المعلومات الجديدة الوافدة، ومن ثم جعلها متلائمةً مع المخططات المعرفية السابقة. بينما يكون التمثُّل، أو الإقامة، عبر تحويل المخططات الموجودة سابقاً لتتناسب مع المعلومات

الحديثة. وبالمختصر فإن الوظيفة الأولى (الاستيعاب) تقوم بتغيير الوافد بما يتناسب مع الموجود قديماً، بينما تقوم الوظيفة الثانية (الإقامة) بالعكس من ذلك، من خلال تجهيز المخزون القديم بما يتناسب مع القادم الجديد. ومن أجل قياس مستوى الذكاء لدى الأطفال، وإمكانية تنميته وتطويره، قدَّم بياجيه الكثير من الاختبارات التي تأخذ شكل الروائز، وخاصةً تلك التي تتمُّ من خلال الرسم كاختبارات الرسم الإسقاطية، والتي تطوّرت كثيراً في مرحلة ما بعد بياجيه، من خلال علم النفس التحليلي. حيث يُطلب من الطفل رسم أشياء على غرار رسم شجرة أو بيت، أو رسم صورة أحد والديه. وعلى سبيل المثال، فقد يرسم الطفل الشجرةَ مثمرةً ليدلل بذلك على اكتفائه داخل المنزل وعدم إحساسه بالحرمان. أو بالعكس قد يرسمها مبتورة الأغصان أو من دون أوراق، وهذا يُشير إلى شعوره بالعَوَز. وربما يرسمها بحجم صغير وهذا يدل على مردوده المتواضع خارج منزل والديه. وهكذا. وهنا لا بدَّ من التذكير بضرورة وضع الحوافز ذات الدور الكبير في تطوير الذكاء لدى الطفل. كأن تقوم المعلّمة في المدرسة بوضع مكافأة رمزية لكل تلميذ يتفوّق في الامتحان، وأن تقوم بالثناء عليه وبتكريمه أمام زملائه؛ الأمر الذي سيؤدي إلى توسيع أفق الطفل ودفعه نحو التفوُّق مستقبلاً.

باحث سوري في علم النفس التحليلي