بشكل مختلف ومائز تبتكر الشاعرة المغربية زكية المرموق قصيدتها. إنها لا تسيرُ وفق الطرز التعبيرية العامة التي نراها في فضاءات قصيدة النثر النسوية حيث الإعلاء من شأن الوجداني، ومخاطبة الآخر حلما أم واقعًا، والبحث عن نزق الفيوض العاطفية . زكية المرموق تكسر هذه الطرز وتلك الرؤى الوجدانية العامة، وتذهب إلى ابتكار آفاقها، بلغة تصويرية مختلفة، وبأجواء غير معتادة على الأغلب في رؤية القصيدة وفي صنع دلالاتها المتسعة الخصيبة.
تصدّرُ زكية المرموق ديوانها:" سيلفي مع ظل بعيد" ( مقااربات للنشر والصناعات الثقافية، فاس، المملكة المغربية، الطبعة الأولى 2020) بمفتتح تقول فيه:
" وأنتَ تكتبُ
خذ القارئ بنزهة إلى حقلك، اجعله يرَ بقلبه ورودك ودمك، دون أن تخفي عنه القبور النائمة تحت العشب، اجعله يستحمّ في نهر روحك، يحترق كما سيجارتك.
ثم ودّعه ، ودّعه بقبلة طويلة
وأنت تضع في جيبه عبوة ناسفة" / ص 3
هذا المفتتح يقدم لمحة مبدئية عن توجه الشاعرة، إنها تكتب للتغيير، لرؤية ما بالداخل رؤية القلب والدم والروح . الكتابة هي نبض الداخل لكنها كتابة احتراق، وكتابة صدمة تنتهي بتفجير عبوة كلامية ناسفة . مع البحث عن تعبير مختلف تؤطره الصورة :"تخفي عنه القبور نائمة تحت العشب"
وإذا كان هذا المفتتح المبدئي يصبو إلى أن يرينا أن الشاعرة تحتفي بالصدمة والدهشة معا، والسعي إلى التنقيب عن الداخلي، فهي في نص:" أكتب مثلما أحب" تفصل بشكل شعري أكثر طريقتها الشعرية وتوجهها صوب القصيدة، وهي طريقة لا تركن إلى دعة الأشياء ولكنها تفجر وتخصب وتصدم وتخالف أيضا، تقول في هذا النص:
أنا أكتبُ دون خطةٍ
ولا إنذارٍ مبكرٍ
أدخلُ القصيدةَ كما أدخلُ حماماً شعبياً
أنزوي في ركنٍ خارجَ اللوحةِ
وأصطادُ عُريَ المارةِ
أدخلُ القصيدةَ كلّما شققتُ الجدارَ
بالشوقِ ،
أنتشلُكَ من شقوقِ الليلِ
وأناديها بكلِّ الأسماءِ السيئةِ
أشعلُ النارَ بالملابسِ الداخليةِ للموشحاتِ ،
في أسرَّةِ البلاطِ ،
وأدسُّ في دمِها أفكاراً أفقية
ألبسُها بلو جينز ،
قبعةً كوبية
أجرّها إلى الشوارع الخلفية
لنُنصبَ فخاخَ اللغةِ
لكلِّ ما لا يقال
ونشربَ الأرصفةَ إلى الصبحِ
نرقصُ ونضحكُ
ن
ر
ق
ص
و
ن
ض
ح
ك
حتى نوقظ النوايا النائمة
ونخططَ كيفَ نسقطُ السيفَ
الفرسَ
الكرسيَ
العروضَ
بلغةٍ هيدروجينية ./ ص 29
الدخول للقصيدة هنا ليس دخولا عاديا، أو دخولا يحدد طقوسا ما منتظمة لها هيبتها ووقارها، ولها استعدادها البلاغي وعدتها التخييلية، ولكنه دخول عفوي تلقائي نزق في الوقت نفسه، دخول صادم بلا خطة وبلا هدف محدد. اللا هدف، اللا وعي، اللا قانون هو الخطة، فوضوية وعفوية، ونزقة. ومن هنا يأتي دخول الذات الشاعرة الحاضرة في طقوس لكلام عبر الفعل المضارع أنا :" أفعل" للقصيدة، كدخول حمام شعبي ، دخول يشعل النار بالملابس الداخلية للموشحات، يكسر التقاليد، ويحض على التمرد على المألوف في طرق الكتابة، بكسر الخيل والسيف والعروض، وتغيير مجالات القصيدة العادية بإلباسها الجينز أو قبعة كوبية.
لماذا تكتب الشاعرة هكذا؟ تكتب لأنها لا تريد عوائق أو تقاليد لحظة الكتابة، تريد للشعر أن ينطلق ويتبعثر ويصنع فوضاه ، ويتمرد على القوالب والأسوار والقوانين، كأنها تستعيد للشعر جموحه في مرحلة جديدة من مراحل التمرد الشعري الذي بدأ منذ الحرب العالمية الثانية ولما يتوقف حتى اللحظة، تقول الشاعرة:

أنا لا أحبُ القصائدَ البيروقراطيةِ
ولا المطيعةِ
التي تعيش على اللبنِ
وتنامُ عندَ الغروبِ
أفضلُها قصائدَ نيئة
أطهوها بدمي .
قصائدَ بريّةً
تدخلُ الجحورَ
وتنقبُ عن غبطتِها في العشوائياتِ
تبحثُ عن ملامحِها الضالةِ
ومصائرِها غير المحتومةِ
فالشعرُ ليس قصيدةً خصرُها رأسمالي
في رأسِها تنامُ البروليتاريا .
الشعرُ ليس وصفةً حكوميةً لتحضيرِ
طبقٍ شعبيٍّ
أو تقريراً حول الأحوالِ النفسيةِ
للبورصةِ .
الشعرُ قهقهةُ الأرصفةِ في جمرِ الحبِّ
صوتُ كوخٍ
يُشعلُ التنورَ المنطفئَ بحلمٍ أسودَ .
رائحةُ الجوعِ
في عينِ طفلٍ نازحٍ .
لونُ الأرضِ في كفِّ مزارعٍ
رغيفٌ أشعث في طبقِ اللغةِ .
الشعرُ بقايا اللهُ في دَمنا
هو أنتَ وأنا
لحظة ..
لحظة ...
الهاتفُ يرنُّ
إنّها القصيدةُ ! / ص 31

هكذا يمضي الشعر ليعانق الأشياء وينفتح عليها انفتاح الحياة البسيطة الضاجة بشاعرية شاردة، تلتقطها المخيلة وتصوغها نصًّا شعريًّا أو لقطة أو صورة؟ فالشعر قهقهة الأرصفة، وصوت الكوخ، ورائحة الجوع، ولون الأرض في كف مزارع. وغيرها من الصور الحيوية الساخنة الملموسة لا المتخيلة في البعيد. هكذا يفجر الشعر نصوصه وكتاباته لدى الشاعرة، يخرج عن التقاليد وعن الرؤى المحنطة حتى لو كانت رومانسية، لترى الشعر يتجلى في كل الأشياء.

سيلفي الصورة:

تحضر مفردة :" سيلفي" في نصين بالديوان الأول بعنوان:" آخر سيلفي معي" والثاني النص الذي يحمل العنوان ديوانه:" سيلفي مع ظل بعيد" وقد انتشرت المفردة بفعل التقنية وما تتيحه أجهزة الموبايل من لقطات اصطلح على تسميتها منذ العام 2015 ب:" سيلفي" أي التقاط صورة فردية أو جماعية بالموبايل لأحد حامليه، ثم بثها في مواقع التواصل الاجتماعي.
انتشرت صور السيلفي بشكل مذهل، وهنا التقطتها الشاعرة لتحول الكلمة إلى دلالة شعرية لها حضورها لتلتقط صورتها لا مع مجموعة ولكن مع ظل بعيد. كأن هذا الظل متشح بالغموض والدلالات والرمز. وهو ما يبينه النص :" سيلفي مع ظل بعيد" .
في النص الأول نحن حيال سيلفي للغياب للموت، استدعاء الموت وهو القمة الدلالية العليا للرحيل فلا شيء بعده سوى التذكر أو الأبدية البيضاء – بتعبير درويش- أو الخلود الذي يستدعي الأثر ولا يستدعي الشخص الراحل بالضرورة ، هو لقاء سيلفي مصور مع الموت:
وأنتَ تلتقي بموتِكَ
سلِّم عليهِ ..
سلِّم عليهِ كثيراً
مثلما يليقُ بصديقٍ غائبٍ .
قدّمْ له فنجانَ قهوةٍ
سيجارةً سوداءَ
ثم وزّعْ وصاياكَ العشر
على ما بقيَ منكَ في غرفتِكَ
أوراقكَ المتناثرةُ على منضدةِ الكتابة
علّها تُكملُ في غيابِكَ
القصيدةَ .
مرآتكَ علّها تحفظُ صورتكَ
كي لا تذبل في الذاكرة .
سريرك كي لا يكنس عطرَكَ
بعد أن يحتله الغبار . / ص 21

ولعل القصيدة الأكثر إشراقا بالديوان التي تنطوي على آليات جمالية متعددة تومئ بمجازاتها واستعاراتها وصورها إلى اللحظة الراهنة، هي القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها:" سيلفي مع ظل بعيد" وهي قصيدة محتشدة بالصور التي تمزج اللحظة اليومية باستدعاء أماكن وشخصيات خارج الواقعي بشكل تتثاقف به العبارات، تتناص، وتسرد، فيما تمزج الأنا بهالاتها الرائية التي قد تتذكر أو تتخيل أو تنتهك العادي والمألوف، وتستهل زكية المرموق القصيدة هكذا:
ما زلتُ أطردُ بالاستعاراتِ ذبابَ الوقتِ
وأرمي خارجَ الغيمِ
أعشاشَ الذاكرة .
أشربُ في شوارعِ برلينَ
كوابيسَ كافكا
علّني أفقهُ منه سرَّ السّواد .
لمَ كلّما حاولتُ أن أجدني
تعثرتُ بالجدران
وأخذتني الأسئلةُ إلى ما وراءَ الاحتمالاتِ ؟
أصيخُ لصراخِ امرأتينِ
تتقاذفانِ شوكَ الكلامِ
وتتجاذبان رجلاً مقطّبَ الخطوِ
لمْ يكن أبداً لواحدةٍ منهنّ .
المذياعُ على صوتِ
je n ai pas change
أنا أيضاً لم أتغيّر يا خوليو
رغم أني كلّما صادفتني المرآة
أخرجتْ لسانَها .
أنا التي كلّما حصلتُ على حذاء
أضَعتُ الطريقَ ،
واختفتِ البئرُ كلّما وجدتُ الدَلوَ .
أستجيرُ بالعطشِ بحنكةِ سيناريست
كي أستدرجَ إلى النصِّ المطرَ
فلا أتفتَتُ في الهوامشِ أو يراني البطلُ .
لا شيء يدلُّ على شيء
لا شيء يُشبهُني هنا
لا شيء يُشبهُكَ هناك
أنا أشبهني حينَ أكونكَ ./ ص 24
تتواتر الكلمات وسياقاتها هنا مشكلة دهشة تصويرية ومشهدية متتالية، مع توسيع نطاقات الأجواء الشعرية ما بين ما تراه الذات من مشاهد يومية وما تتخيله من : شوارع برلين إلى كافكا إلى خوليو ، منتقلة بعد ذلك في مقاطع تالية إلى " السياب" و" مايا أنجلو" ساردة جملة من التذكرات، ثم تختتم قصيدتها بالقول:
القيامةُ : أن يتعفن الضوءُ في بئرِ الفكرةِ
والفكرةُ سمكةٌ مصابةٌ بالشيزوفرينيا
قالتها طريدةٌ لشجرةٍ
وهي تدسُّ في لفافةٍ صغيرَها
وتدخنهُ
قبلَ أن تصلهُ رصاصةٌ صديقة ! / ص 26

إننا هنا لا نحصي الصور والمشاهد، ولكن نشير إلى بعض الإيماءات التي تقدمها الشاعرة بشكل مدهش، فهي تسمي في نهاية القصيدة دالتي: القيامة والفكرة المتضادتين . القيامة نهاية ، والفكرة بدء لشيء جديد. كلما انبثقت قيامة ولدت فكرة، في حلقة دائرية لا تنتهي. تكسر بها الشاعرة الدلالات القريبة المنتظمة، وتركب سياقات تعبيرية مغايرة ومفارقة تصنع بها أنشودتها الشعرية المسنونة.

شاعرية التسمية:

تتواتر في شعرية زكية المرموق جملة من الآليات التي تتكئ عليها في إبداع قصيدتها، تتمثل في استثمار قيم المخالفة بين كلمة وكلمة أو عبارة وعبارة، والاحتشاد لصنع صور مفارقة ومشاهد صادمة، والسعي إلى إبراز قيم الارتياب والسؤال في نهجهما الفلسفي الذي يذهب أبعد من مراقبة سطوح الأشياء إلى الإيغال الصادم اللا متوقع:
إني قادمةٌ بجحيمي
رقصةٌ واحدةٌ تكفي
كي يتوحدَ العطشُ بالعطشِ
فيما تركز في آلية أسلوبية ملفتة على التسمية وتلقيب الأشياء بدلالات متباعدة لا قريبة كما في هذه المشاهد التي تسمي فيها الدوال بتسميات جديدة مشكلة فضاء استعاريا تمثيليا واضحا أو معانقة لطائفة من التشبيهات البلاغية الكثيفة التي تثري العبارات الشعرية وتصنع لها حضورها ودهشتها:
- الصباح سلم مكسور
الليل: نافذة خرساء
فمن أين هذا الصدى؟
اللغةُ نطفة لمْ تكتمل بعد
فمنْ ألبسَها جبّةَ المريد ؟
- الجسرُ لعبةُ دومينو
بين بائعِ كلام
وصانعِ دمى
فلِمَ يصنعون من دمِنا أعمدةً
للغيبِ ؟
القصبُ مخدعُ المواويلِ
النايُ ابنٌ ضالٌ للنهرِ
- الشعرُ :
شجرةُ ماءٍ
منْ شربَ منها
أصابهُ هوسُ التحليقِ
الجغرافيا: لعبةُ أرقامٍ وأرصدةٍ
فلِمَ هذه الخرائط يا صاحبي ؟

- الحلمُ مسافةُ ترانزيت بين
شهقتين
- الجغرافيا لعبة أرقام وأرصدة
فلم هذه الخرائط يا صاحبي؟
- قلبي سفينة وقلبُكَ منارةٌ
- شفاهي غابةُ قُبلٍ .

الصباح واللغة والليل والجسر، والقصب واللغة والناي والشعر، كلها دوال توضع هنا لتتلقب من جديد بشكل متتال في نصوص الديوان، وهذا التلقيب يتخطى مسألة المبتدأ والخبر نحويا، ويتخطى مسألة التشبيه البليغ والاستعارة التصريحية الواضحة، لأن هذا التلقيب يذهب بعيدا لا يشبه ولا يستعير، بل يفتح آفاقا وفضاءات بعلاقات جديدة مخالفة ومفارقة وصادمة.
كما تحضر مجموعات من الشخصيات الفنية والأدبية وأسماء اللوحات الفنية التي تعزز النصوص بذاكرة دلالية وجمالية وتناصية متنوعة كما في هذه الشخصيات والأسماء مثلا:

أنجلينا جولي، سندريلا، موناليزا، بحيرة لامارتين، بول فيرليني أراغون ، عيون إليزا ، فان كوخ، غوغان، يوسف، أيوب، زوجة العزيز، وهو ما يوسع من أجواء النصوص ويعطيها وهجا إنسانيا وحضاريا ، ويزكي فيها رؤية البحث وقراءة التأويل .