يُعتبر الباحث أنس الشابي واحدا من أهم العارفين بمسار الحركات الإسلامية في تونس. وهو من القلائل الذين يمتلكون أرشيفا مرجعيا يؤرخ لهذه الحركات، كاشفا عن أطروحاتها وعن أفكارها وعن مواقفها منذ السبعينات من القرن الماضي، وحتى تواجدها في المشهد السياسي التونسي بعد انهيار نظام الرئيس الراحل بن علي في الرابع عشر من شهر جانفي2011...

ايلاف التقته وكان له معها هذا الحوار الذي يضيء جوانب مهمة في الحياة السياسية في تونس ماضيا وحاضرا...

-أنت مهتم بالحركات الاسلامية في تونس كيف تقرأ تاريخ هذه الحركات قبل ما يسمى بالثورة وبعدها؟
-بعد بناء دولة الاستقلال ومؤسساتها في تونس لم يكن هنالك سوى التعبير الديني الذي لا علاقة له بالفعل السياسي ممثلا فيما تبقى من شيوخ جامع الزيتونة أو شيوخ الطرق الصوفية وغيرها ولكن بعد هزيمة 1967 ظهر الخطاب الذي يردّ الهزيمة إلى الابتعاد عن الدين والأخلاق لتظهر بذلك بؤر إسلامية قليلا ما تلامس الفعل السياسي... ظهر ذلك في مجلة المعرفة أولا وفيما بعد في المجتمع، أيامها لم تكن السلطة متفطنة إلى أن هذا الخطاب أصبح مهيكلا له مؤسسات وأجهزة سرية، وحدها الصدفة مكنت الدولة من وضع يدها في شارع قرطاج على محفظة بها وثائق التنظيم كاملة وبالتحقيق مع المورطين تيقنت الدولة من خطورة هذه الجماعة ليتحوّل تصرّفها من الإغفال قبل ثمانينات القرن الماضي إلى المتابعة بعد ذلك... وكان موقف حركة النهضة أو حركة الاتجاه الإسلامي كما كانت تسمى أيامئذ التخفي في ثنايا التنظيمات المعارضة والجمعيات الحقوقية والمهنية فتمكنت من الحصول على مقعد ضمن المعارضات المدنية لتتوّج جميعها بتحالف 18 أكتوبر2005 جامعا الإسلاميين بفصائل من اليسار الذي لم يتبين أن خلافه مع الإسلاميين هو خلاف استراتيجي في حين أن خلافه مع الحكم هو خلاف تكتيكي لا يتجاوز الأولويات في المهام المطروحة على القوى المدنية... وفي نفس الوقت الذي روّج فيه حزب النهضة انخراطه في المعارضات المدنية السلميّة كان يمارس العنف ويخطط له لتحدث جريمة باب سويقة والاعتداء على محلات الشرطة والأمن ويُرمى المواطنون بماء النار فضلا عن التخطيط لاغتيال رئيس الجمهورية فيما سمي بمؤامرة الستينغر... بعد سنة 2011 يمكن القول بأن حزب النهضة ما إن تمكن من الوصول إلى الحكم حتى اشتغل على المحاور التالية:

1ـ الانخراط في الخيارات الخارجية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين من خلال التسليم بالتبعية السياسية والاقتصادية للمحور التركي القطري وجرّ الدولة التونسية إلى اتخاذ مواقف لخدمة هذه الأجندة المعادية لمصالح الوطن .. ظهر ذلك في عقد مؤتمر أصدقاء سوريا وإرسال الشباب التونسي إليها والموقف من النزاع في ليبيا ومعاداة الأنظمة التي صنفت الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا كمصر والإمارات والسعودية.

2ـ داخليا تفكيك المؤسّسات التي يقوم عليها النظام عن طريق الأجهزة الموازية صنعوا ذلك مع الأمن ووزارة الخارجية ومجزرة القضاء التي عزل فيها الخيرة من القضاة الذين رفضوا الخضوع للابتزاز.

3ـ في تونس يحتل الاتحاد العام التونسي للشغل موقعا متميزا في المعادلة الاجتماعية والسياسية بحكم تاريخه وانغراسه في وجدان التونسيين فضلا عن أنه مثل الحاضنة لكل التيارات السياسية... قبل 2011 ورغم أن الإسلاميين استظلوا بظله أثناء محاكمتهم إلا أنهم بعد الوصول إلى الحكم إلى الآن لم يتوقفوا عن محاولات تدميره وإضعافه عن طريق إنشاء هياكل موازية فشلت في جمع الأنصار ومحاولة احتلال المركزية النقابية سنة 2012 بالهجوم الذي شنته ميليشيا حزب النهضة في ذكرى استشهاد الزعيم النقابي فرحات حشاد واليوم يفتعلون مسألة التوريث أو الفصل 20 للتشويش على المؤتمر القادم وإرباك القيادة.
بجانب ما ذكر عمل هذا الحزب على تمكين أعضائه من المنح والامتيازات تحت مُسمّى التعويضات الأمر الذي أدّى إلى إفلاس غير مسبوق للمالية التونسية وابتزاز أصحاب رؤوس الأموال عن طريق التهديد برفع القضايا... وهو ما تحدث عنه باستفاضة عزيز كريشان مستشار الرئيس السابق المنصف المرزوقي في كتابه "وعد الربيع" الصادر بالفرنسية، أما رجالات النظام السابق فقد افتُعل لهم من القضايا ما لا عد له ولا حصر من ذلك أن 25 محاميا أغلبهم من اليسار رفعوا قضايا ضد رجال الحكم السابق وآخر ضحاياهم علي الشاوش الوزير سابق الذي جمع 263 قضية أدت إلى وفاته... وكذا فعلوا مع غيره ولم يسلم من ذلك حتى الإداريون الذي لا انتماء سياسي لهم فكلّ من لا ينصاع يجرّونه إلى المحاكم، وهو ما نشر جوا من الرعب والهلع في البلاد لم تتخلص منه إلا في فترات لاحقة.

-هل يمكن أن تنسجم هذه الحركات خصوصا النهضة مع الديمقراطية؟
- حركة النهضة كباقي الحركات الإخوانية حركة عقدية تقوم على أساس الإيمان والبيعة... والمتأمل في أدبياتها يلحظ أنها تكفّر كل مخالف لها كما أنها لا تؤمن بقواعد التسيير المتبعة في الأحزاب المدنية الإنسانية حيث تعقد المؤتمرات وتناقش الاستراتيجيات والميزانية وتنتخب القيادة، فتجد أن قيادتها مؤبّدة لا تنقطع إلا بالوفاة فالولاء فيها للقائد وليس للبرنامج السياسي المتفق عليه. أما الأموال فهي من أسرار المعبد... لذا فإن استعمال الحركات الإخوانية لمصطلح الديمقراطية أو عقد المؤتمرات أو الإيهام بوجود نقاش داخلها هو من باب التقية وإشاعة صورة مخالفة لِما هم عليه فهدفهم إقامة الخلافة والتمكين بكل الطرق والأساليب ومن بينها الاغتيال الذي مارسته كل الحركات الإخوانية قديما وحديثا وهو تصرف تأباه الديمقراطية وتجرّمه.

- كيف ترى الى الدستور التونسي الجديد؟
- دستور 2014 صاغته حركة النهضة التي تقوم استراتيجيتها على تفكيك الدولة وتدمير أجهزتها في انتظار التمكين وإقامة دولة الخلافة لذا نجد أن الدستور استهدف:
1ـ خلق رؤوس ثلاثة للنظام وتوزيع القرار السيادي فيما بينها بشكل يمنعها الثلاثة عن اتخاذ أي قرار حتى في الحالات التي تهدّد وجود الدولة ذاتها.
2ـ إضعاف الدولة بسحب اختصاصاتها السيادية ووضعها في يد هيئات قيل إنها مستقلة ولكنها في الواقع خاضعة للمحاصصة الحزبية كهيئة الانتخابات والإعلام ومكافحة الفساد والتنمية المستدامة... وغيرها فضلا عمّا سُمّي السلطة المحلية التي هي في حقيقتها إضعاف للسلطة المركزية ونقل اختصاصاتها إلى غيرها من الهيئات.
3ـ إيجاد نظام انتخابي يذرّر المشهد السياسي ويصبح معه من المستحيل تكوين حكومة إلا بعد أشهر عديدة، أو قيام هيئة كالمجلس الدستوري الأعلى الذي لم يؤلف لحد الآن لخضوعه للمحاصصة الحزبية. وهو ما أدى إلى تعطل كل دواليب الدولة وانهيار اقتصادي كامل.

- ألا تعتقد أن اليسار ساهم بشكل كبير في الأزمات التي تعيشها تونس راهنا... وكيف ذلك؟
أنس الشابي: خطأ اليسار المميت يتمثل في :
1ـ حمله لبذرة التشتت منذ ولادته فتجده ينقسم لأتفه الأسباب بحيث أصبح لدينا شتات من التنظيمات التي انسلّ بعضها من بعض... والغريب أن أسباب الخلاف في أغلبها مستوردة من الخارج تارة من الاتحاد السوفياتي، وأخرى من الصين، وثالثة من ألبانيا، ورابعة من العراق وخامسة من مصر عبد الناصر وسادسة من سوريا وهكذا...

2ـ خلطه بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي من المهام... فخلاف اليسار مع دولة الاستقلال في عمومه هو خلاف تكتيكي حول أسلوب الحكم أو ما يعبّر عنه بالمشاركة في الحكم أما الأهداف الإستراتيجية فواحدة تمثلت في النهوض بالصحة وتعميم التعليم وتقنين حقوق المرأة واستقلالية القرار الوطني وعدم الانضمام إلى الأحلاف وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهي مسائل متفق حولها بين كل القوى الوطنية، اليسار في هذه النقطة بالذات خلط في المهام تخليطا أدى به إلى أن أصبح اليوم على هامش الحياة السياسية... فبدل الوقوف في صف النظام المدني ضد هجمة تتار العصر للمحافظة على مكتسبات دولة الاستقلال فضل الوقوف مع خصوم الدولة المدنية بحجة الدفاع عن الحريات وقد ظهر ذلك في تحالف 18 أكتوبر الذي انعقد بين فصائل من اليسار وحزب النهضة على أساس وثيقة سرعان ما تراجع عنها الحزب الذي أعلن عداوته لليسار حال وصوله إلى الحكم سنة 2011.
3ـ تعامل اليسار مع حزب النهضة قائم على نفس الأساس الذي يتم التعامل فيه مع باقي التنظيمات المدنية التي تعتبر أن العملية السياسية موضوعية يصحّ فيها الخطأ والصواب والأخذ والرد مغفلا أنه يتعامل مع تنظيم ديني قائم على الولاء والبراء وطاعة المرشد في المنشط والمكره حيث تصبح العملية السياسية ذاتية تخضع لِما يؤمن به ويقرّر زعيم التنظيم فالموافق مؤمن والمخالف كافر مشمول بالأحكام الفقهية للردة.
في تقديري أن ما عليه اليسار من هَوان يعود في جزء منه إلى الخواء الفكري الذي عليه المتصدّرون للنطق باسمه بحيث لم ينجب اليسار رغم حضوره الحركي في الساحة قياديا واحدا له كاريزما التجميع، أو مفكرا واحدا يمثل مرجعا أو سندا لخطة سياسية لنجد في نهاية الأمر يسارا لم يخرج من بؤرة البيان والبيان المضاد دون مرجعية فكرية أو سند نظري.

- هل تعتقد أن النخب المستنيرة والتحديثية قادرة على الاستفاقة من جديد لإنقاذ تونس؟
- بطبيعة الحال فإرث الحركة الإصلاحية التونسية ودولة الاستقلال في تأسيس المجتمع المدني العصري لن يضيع هباء... ودليلنا على ذلك أنه رغم استحواذ حزب النهضة على الحكم بمساعدة من الانتهازيين فإن قوى الرفض له ما زالت موجودة...وهي تتطور عدديا وكيفيا ولكنها للأسف غير منظمة لحد الآن رغم أنها تمثل الأغلبية.