ينطوي الذهن البشريّ على مستويَّيْن اثنَيْن أحدهما عقلانيّ والآخر وجدانيّ (ليس المقصود بالمستوى الوجدانيّ هنا الضمير، بل الجانب الصِّلويّ للفرد، وعلاقة الإنسان بالطبيعة وخوفه من المجهول والموت وإيمانه بالمعتقَدات وكل ما هو حسَّاس وعميق في النفس البشريَّة). والتركيب البنيويّ للذهن هو تماماً كبيت إسمنتيّ مبنيّ فوق قلعةٍ قديمةٍ أحجارها بازلتيَّة، ولا يمكن لساكنه التخلُّص من أحجار هذه القلعة، لأنها الركيزة التي يقف عليها بيته، والذي يبدو عصريَّاً من الخارج.
والسؤال: لِـمَ ابتعد هذان التوأمان الذهنيان (العقلانيّ والوجدانيّ) عن بعضهما البعض كلَّ هذه المسافة؟ أو بالأحرى لماذا انطلق أحدهما بسرعةٍ كالأرنب، بينما ظلَّ الآخر يزحف كالسلحفاة؟!
هل دعم التطوُّر العلميّ والتكنولوجيّ أحدهما على حساب الآخر؟ أو من باب التشبيه: هل تبنَّت أسرةٌ ميسورة الحال أحد هذين التوأمين، وتركت الآخر يقبع في فقره وبؤسه؟ فالملاحَظ أن جميع التطوّرات والمنجزات العلمية قد لامست، في الغالب
الأعمّ منها، الراقي العقلانيّ من الذهن البشريّ، بينما أهملت وإلى حدٍّ كبيرٍ سراديبَ العالَم الوجدانيّ اللاشعوريّ الذي ظلَّ مشابهاً لصورته في الأسطورة؛ "عالَماً سفليَّاً" يموج بـ"الأشباح" و"الجان" والـمُعتقدات الزائفة! إنَّ كثيراً من الدلائل والأمثلة تؤكَّد على هذا الاغتراب الحاصل ما بين إنسان عصرنا "العقلانيّ"، وبين ذاته الوجدانيَّة.
فعلى سبيل المثال، عندنا يقع العُصاب (المرض النفسيّ) ويُدرك المريض مشكلته تماماً، فإنه يقفُ عاجزاً عن فعل أيّ شيء حيال ذلك! لأنَّ مشكلته النفسيَّة تقع في مكانٍ ذهنيّ هو غير المكان الذي يمسك به بكلتا يديه. فمعرفة السبب، سيكولوجيَّاً، تخفّف من المشكلة لكنها لا تلغيها. وتالياً فإن الإنسان وكلَّما انشغل بأشياء تُغازل لحاءَه الشعوريّ، اتَّسعت الهوَّة ما بين عقله ووجدانه، الذي بات مليئاً بالأتربة والعناكب. لهذا السبب نرى إنسان عصرنا الراهن ازدواجياً في تعامله مع أي شيء، حتى في مواكبة الاختراع العلميّ الجديد. فهو يستخدم أحدث أشكال التطوُّر التكنولوجيّ في تنفيذ أوامر "الآلهة"!
وعندما يمرض يعرف تماماً كيف يستخدم أجود أنواع العقاقير الطبيَّة اللازمة لشفائه من علَّته، في الوقت الذي لا ينسى فيه أن يسأل العرَّافة (بشكلها العصريّ) عن مصيره في الأيام القادمة! ولا عجب في ذلك، ما دامت شجرة عقله التكنولوجيّ مغروسةً في تربةٍ متخلِّفةٍ عنها بقرون! لذلك هو سيستمرُّ في هذا الموقف المتناقض وهذا الاعتقاد طالما هو عبره يحقّق أمانه الخاص؛ الذي ارتبط خطأً بأفكار زائفة تكدَّست في رأسه مع مرور السنين، دون أن يجرؤ على فتح ملفّ واحد منها. لماذا؟ لأن عجلة التطوُّر التكنولوجيّ لم ترسم خطَّاً واحداً في تربة وجدانه بعد.
فإذاً من الضروريّ العمل على تطوير كليهما بالدرجة ذاتها، من خلال تطوير المنطق الفلسفيّ للفرد، والخوض معه في نقاش معتقداته وتفجير جميع "بالوناته" وفقاعات مخاوفه الوهمية، وفتح جميع نوافذ وجدانه المُغلق الذي لم يرَ النور منذ عصور. وهنا تصبح الحكمة أفضل عندما نقول بأن العقل السليم في الوجدان السليم، لا أن نعيش بعقلٍ متورِّمٍ ووجدانٍ مفقودٍ، بعيدَيْن عن بعضهما بعضاً، ولا يعلم أحدهما بوجود توأمه الآخر.

باحث سوري في علم النفس التحليلي