هناك دوما عُصبة مكوّنة من ثلاثة أو خمسة أشخاص يجمعهم هوى مشترَك تتآلف فيه مصالحهم ورؤاهم... ومع أنهم يتذرعون بكل ما لديهم من حصافة تدل على تماسكهم، فإنّ هناك على الدوام نهايةً لهم غير متوقّعة حتى من لَدُنِ القدر؛ نهاية دون إعداد مُسبّق تشتتهم وكأنهم لم يلتقوا من قبل... أحمد كاتب روائي دائم البهجة له كَرشة بارزة. علاء مسرحي حقق بعض الشهرة، يعمل بجد على تحقيق طموحه، لحيته في بداية نموها لا تزال صغيرة... ومازن شاعر نظراته تندّ عن عينين حالمتين، له مجموعة شعرية واحدة نالت اعجاب بعض النقاد. تعوّدوا أنْ يجتمعوا، كلّ أسبوع، على هذا الجسر... فيتكئ أحدهم على سياجه، قرب دكّة صخرية تتسع لأثنين يجلس عليها الآخران... فيشعرون، بعيدا عن أعين المشككين، وكأنهم في مقهى أدبي خاص بهم لا تنقصه سوى الطاولة وأقداح الشاي... يُصحح أحدهم نص الآخر (فمثلا، مازن يضبّط أوزان الأبيات الشعرية التي يُدرجُها علاء في نصوصه المسرحية)، فهم يعتقدون أنّ النصوص العظمى تكاد تكون، في أحوال عديدة، نتاج "اختلاط القرائح" كما يقول علاء، أي أنها عظمى ليس بفضل مؤلفيها وانما بقدر ما بفضل التشطيبات والتغييرات التي يجريها صديق لهم على المخطوطة أثناء قراءتها، كباوند مع اليوت، وكبليز سندرار الذي اقترح على ابولينير أن يغير عنوان مجموعته الشعرية الجديدة، قبل ان يرسلها إلى المطبعة، من "ماء الحياة" إلى "كحول" فاشتهرت بسبب هذا العنوان... ذلك أن Alcools تنطوي على شحنة طليعية عصرية تفتقر إليها كلمة Eau de vie... وبكونهم يتابعون بشكل دؤوب حركات الأدب الطليعي فإنهم يعرفون كم من دور حاسم لكلمة واحدة في بناء أدبي اختيرت بشكل صائب... فـ"الكلمة"، كما يقول مازن "هي كل آلة

المخيلة"... يقرؤون كل ما يقع تحت أيديهم من أدب مترجم؛ يقدحون زِنادَ فكرهم تحت وهج الشمس، هذا يتباهى أنّه قرأ يونسكو، والآخر رامبو وذاك جاك كيرواك... مقهقهين من حين إلى حين، وأحيانا بصوت عال، غير مبالين، بل فرحين، في أنّ يُنظر إليهم كبوهيميين... وأن محياهم يدلّ على ارتياحهم في كونهم من جيل هذه الفترة الحاسمة من تاريخ بلدهم الضائع بين الأمر الواقع، وبين أحلام غالبا ما تنقشع انقشاع الغيوم في أفق النهر، رغم أميال من الورق وانهارٍ من الحبر المُسال، والمقهى الصغير الواقع في مركز المدينة هو الدليل على أنّ لهم مكانة أدبية عالية بحيث حين يدخلون المقهى ليلا يشعرون بتعاليهم، وهم يضحكون في أعماقهم، أمام هواة يبحثون عن الشهرة عبر صداقات وهمية معهم!

لقد تعارفوا في مؤتمر غريب، إذ تلقى مازن، ذات يوم، دعوة لحضور "مؤتمر البطرانين" جاء فيها: "... بعيدا عن التنظير والادعاء بتقديم حلول... دائما كانت كارثية... وانطلاقا من أنّ للقطيعة مع الذهنية الماضوية بدايةٌ وما عداها شرحٌ وإسهاب، ندعوك إلى مؤتمر البطرانين العادي الثالث الذي سيجري في منطقة نائية... وإذا وافقت على المشاركة، ستزود بعنوان مكان اللقاء والموعد المحدد للمؤتمر، وهويتك الرقم 19... وعليك أنْ لا تكشف عن رقمك أبدا، وإنما أن تتعارف في المؤتمر مع الآخرين بواسطة اسمك الحقيقي، وأن تحتفظ دائما بسرية هويتك؛ رقمك، لنفسك". وأجاب مازن بأنه موافق، فوصلته رسالة ثانية فيها عنوان وموعد اللقاء ومجموعة الأرقام المدعوة ما يقارب أربعون رقما... نظر مازن في الأرقام وقال في نفسه يا ترى من هو رقم 14، أو 87 أو 3... وراح يتأمل في الفقرة الموضوعة بين أقواس صغيرة تحت العنوان: "البطران هو الكائن السائب الذي له حقوق وليس عليه واجبات. كحق تأمل ما هو مبتذل ومستهان به ومألوف لا غير"... طوى الرسالة وأدرك أن عليه أن ينتظر يوم موعد انعقاد المؤتمر... فيأخذ قطارا ثم باصا وينزل في المكان المحدد في الرسالة، وهو منطقة معزولة أشبه بغابة... سار مسافة بين الأحراش، شعر بهواء منعش راح يزيد من طاقة مخيلته وضجيج أصوات يتناهى إلى سمعه... فرأى كشكا لبيع مشروبات الفواكه والمياه المعدنية وبعض السندويتشات... واشخاصا على شكل حلقات تضم كل حلقة أربع أو ست يتبادلون الابتسامات والكلام: "لا محاضرة ولا مناقشة؟" علّق أحدهم، فأجاب

آخر: "مجرد تعارف وتأمل هذه الأعشاب والأشجار!" اشترى مازن قنينة ماء وسار بضع خطوات حتى قارب حلقة من شخصين، وقدم نفسه: "اسمي مازن الراوي (إذ يجب على كل مدعو أنْ يقدّم نفسه باسمه، وأنْ لا يكشف عن رقمه أبدا) فأجاب الأول "أنت مازن الراوي، الشاعر؟ أنا علاء سالم... أنا واحد من المعجبين بك... لم أكن أتصور إني سألتقي بك هنا..."، وقال الثاني: "أنا أحمد فنجان، سعيد بكما الاثنين... لقد قرأت بعض ما نشرتموهما"، تدخل علاء قائلا: "لقد قرأت روايتك حول أطفال المستنقع، وقد وجدتها معالجة باهرة بأسلوب حديث لمشاكل تعتبر تقليدية..." قاطعه مازن "ماذا تحبون أن تشربوا؟" "كوكا..." قال علاء، "ماء معدني..." قال أحمد وتابع قائلا وهو يتأمل المكان يمنة ويسرة: "مؤتمر جميل لا ثرثرة فيه ولا اقتراحات مزعجة، لا ينطوي على أي شيء سوى تأمل المكان لفهم الأشياء المستهان بها كأشياء عادية مبتذلة، واللقاء بأشخاص لا تعرفهم وتدردش معهم وكأنهم رفاق منذ زمان طويل والغريب تجد نفسك على اتفاق حول أية نقطة كانت مع هذا الذي تتناقش معه... وثم... كلّ يودع الآخر عائدا أدراجه... إنه التعارف بأنبل الطرق!" وفجأة وقف أحد منظمي هذا المؤتمر فوق جذع شجرة كبير، طالبا من الجميع الاصغاء إلى ما سماه بـ"بيان المؤتمر": "جرت وقائع مؤتمر البطرانين العادي على النحو التالي: انتظرَ المشرفون حضرة المدعوين وبعد الترحيب بهم، راح المدعوون يتعرفون واحدا إلى الآخر. هذا كل ما في الأمر... وإذا فكر أيُّ عضو أنّ هناك شيئا آخرَ وراء كلّ هذا، فسوف تُنزع منه صفة البطران ويُمنع من حضور المؤتمرات المقبلة... لكن البطرانين الحقيقيين سيجدون المؤتمر متلائما مع أهدافه الراهنة وهي: لقد شبعنا نظريات حل المشاكل ولا نريد إضافة فصل جديد في باب الحلول... هذا كل ما في الأمر ليس هناك شيء آخر... سوى واقع أشبه بغاب مفتوح على كل الآفاق! ذلك أنّ ثمة لحظات تاريخية يجب أن تعاش ضمن سيرورتها هي أي أنْ لا نحبسها في حضيرة ايديولوجية وكأنها بقرة يجب حلبها!" وبعد أن شكر الحاضرين على مجيئهم، نزل ملوّحا بيده تحياته وهو يقول بصوت عال: "نراكم في المؤتمر المقبل..."، ثم اتجه صوب موقف الباص، وهناك من تبعه مباشرة وهناك من بقي وقتا يتناقش مع آخرين... وكان هناك أشبه بثلاثي غنائي. راحوا يغنون أغنية مكونة من

بيت واحد يكررونه مع دق رتيب على طبلة: "هذهْ ليستْ أغنية حب، هذهْ ليستْ أغنية حب، هذهْ ليستْ أغنية حب، أغنية حب، أغنية حب..."! اقترح مازن، قبل أن يفترقوا، على أحمد وعلاء أنْ يلتقيا في بيته في يوم الغد قائلا لهم: "... هذه فلتة صداقة قلما تحدث... لقاء فالت من كلّ تصميمٍ مسبق كهذا استطاع أن يجمعنا أكثر من كل المنابر التي ننشر فيها... أشعر أني اطفح بأفكار وصور لم يكن لي وعي بها من قبل... بفضل هذا المؤتمر أخذت تبرز هذه الأفكار..." ورد علاء، "بالفعل لدي الإحساس نفسه شخصيات وهمية غريبة تلعب في رأسي..." قاطعه مازن معقبا "يجب أن يتعرف واحدنا إلى الآخر بشكل أعمق..." والتقوا، فعلا، في بيت علاء على الغداء وبعد مناقشة طويلة اقترح أحمد على أن يكتبوا الآن بيانا يعلنون فيه تشكلهم كعصبة أدبية لها أهداف جديدة، أنهوه بالعبارة التالية: "يجب أن يكون للكتابة دورها هي لا الدور الذي يعطى لها من الخارج؛ أي أن تختار ذاك المرمى الممنوع لتثبت فيه بالذات سهمها!" وتم نشره في الملحق الثقافي لجريدة "الزاوية"... هكذا باتت أواصرُ الصداقة بينهم متينة منذ ذلك اللقاء... يدافع واحدهم عن الآخر، يقاطعون معا المجلة التي لا تعجب أحدهم، هذا يمدح ذاك، واحدهم يطلع على نص الآخر... وكتبوا، ذات يوم، نصا مشتركا يبدأ الأول بكتابة فقرة لا يهم قصيرة أو طويلة يكملها الثاني بفقرة جدية وينهيها الثالث ويعيدوا الكَرَة إلى أن يشعرون بإعياء ويتوقفون عن الكتابة. وحين نشروه تضاربت الآراء فيه، هناك من اعتبره نصا رؤيويا والآخر اعتبره مجرد ثرثرة... هكذا كرت الأيام في حركة دؤوبة؛ لقاءات ونقاشات وكتابات أشبه ببيانات ومعارك شبه يومية مع أعوان الثابت. لقد ضمهم معا حلم تتخلله أشعة الخيال الباهرة ففتحت لهم آفاقا كتابية لم يعرفوا مثلا لها من قبل... لكن مجتمعهم ظل كما هو مسدود، يتصرف فيه الكائن كبقية الناس؛ وكما يقول المثل ما كان الإبداع يوما سريرا من الزهور وإنما هو دوما منطقة محفوفة بالمخاطر، مخاطر تسببها أشياء عادية تافهة، مكتسبة.

وها هم اليوم يلتقون هنا عند هذا الجسر العتيق على أمل أنْ يلهمهم، كما في المرات السابقة، بأفكار يظنونها جديدة فيدونونها رؤوسَ أقلامٍ يشتغلون عليها فيما بعد، فرادى، في غرفهم المنعزلة الشبيهة بأكفان...

راح نسيم يهزّ أوراقَ أشجارٍ على مبعدة من الجسر، أحدث حفيفا غريبا كما لو كان نذيرا... حفيفا لم ينتبهوا إليه، إذ كانوا في حمّى أثيرهم التنظير... تابع علاء قائلا: "المهم أنا لا أشرع في الكتابة إلا عند الغروب، لأنه مطابق لمنصة المسرح: انطفاء الأضواء ورفع الستارة... ودخول جوقة الممثلين!"

قال أحمد معارضا:

- لا وقت أصفى من الضحى للتركيز على كتابة ورقتين أو ثلاث من رواية طويلة... بسرد تخييلي يحوّل شخصيات وهمية إلى أبطالٍ حقيقيين!

أما مازن فقال:

- طبعا أنتما تعرفان... أنّ الشاعر شيطانه القمر. أبدأُ بالأبيات الأولى في مآخير الليل حين يضيء القمر السماء، وعند تباشير الفجر الأولى أنتهي منها...

صمت ثوانيَ، ثم تابع مستدركا:

- لكن في أغلب الأحيان، تأتي الأفكار الناضجة والجديدة في أوقاتها هي، ومن دون انذار: ليلا وأنت على وشك النوم، ظهرا وأنت تتغدى أو عصرا وانت تتمشى... لا وقت محددا للقريحة الإبداعية...

عقّب أحمد قائلا:

- خذ رزمة أوراق بيضاء وابدأ بكتابة كلّ ما يمر في ذهنك... لا تعرقل سير ما تجيئك من أفكار... التنقيح يأتي فيما بعد...

أخرج أحمد كتابا مغبر الشكل تكاد صفحاته تتفتت، وقال:

- مرّيت البارحة بمكتبة بن خلدون... احزروا ماذا وجدت؟

"ماذا؟" سأله علاء.

أجاب أحمد وهو يريهم الكتاب:

- طبعة انجليزية قديمة لكتاب عبد الله الحظرد "العزيف"... يقال إنه كان يستنطق، تحت تأثير المخدرات، الموتى فيكشف عن جغرافيات قديمة لم يعرفها التاريخ البشري...

وجه علاء سؤالا إلى أحمد:

- وماذا تعني كلمة "العزيف"؟

رد عليه أحمد موضحا:

- كلمة "العزيف" تعني صوتا في الرمل لا يُدرى مأَتاه، وتعني أيضا صوت الأرواح والجن... أي عويل الموتى.... وهذا عنوان ذكي يربط بين الرمال والأرواح فيوحي بعالم القبور... المهم مفتاح الكتاب هو هذا البيت الشعري المذكور على الغلاف:

لا ميتاً ما قادراً يتبقى سرمدي

فإذا يجئ الشذاذ الموتُ قد ينتهي

قاطعه مازن قائلا، وهو يسحب أوراقا من حقيبته الصغيرة:

- أوه، دعونا من هذه الخرافات... إلى اليوم لم يُعثر على النسخة العربية الأصلية لكتاب الحظرد المزعوم... القصة كلّها، في نظري، تأويل مبالغ فيه احتاجه الكاتب الأميركي لوفكرافت لتعميق حالات الرعب في كتاباته، بل يقال أنّ لوفكرافت هو الذي ابتكر البعد الأسطوري لهذا الشاعر اليمني الذي لم يعثر أحدٌ على أي شيء له في هذا المجال...

تدخل علاء في النقاش واقترح لأحمد بنبرة ساخرة:

- لماذا لا تفتش في كتاب "وَفَـيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان، عن اسم مغمور كليا تنسب له عملا من صنيع خيالك بعد تدخين عدة سجائر فيها مخدّر...

وفي هذه الأثناء مرّ بهم صديق... سلّم عليهم واحدا واحدا، ثم سأل مازن عن نسخة من ديوانه الجديد... اعتذر مازن ووعده بأنّه سيأتيه بنسخة في الأسبوع المقبل... وبعد انْ تركهم الصديق، قال أحمد لمازن:

- حقيبتك مليئة بالنسخ، لماذا لم تعطه نسخة؟

رد مازن وهو يضحك:

- هذا ليس بقارئ... إنه لص. لو أعطيتُه نسخةً لرأيتها غدا منشورة باسمه تحت غلاف آخر... أنا تعبان من قراء لصوص...

فما تمالكوا أنْ ضَحكوا ضحكا عاليا حتى انقطع فجأة حين قال مازن:

- أقدر الآن أقرأ عليكما القصيدة التي حدثتكما عنها البارحة؟

أجابه الآخران:

- كلنا آذان...

ابتسم مازن ثم قال:

- هذه قصيدة أبثّ فيها شوقي إلى كلّ ما هو حيّ... آمل أنْ انتهي منها هذه الليلة في لحظة ابيضاض القمر فوق الكون!

وفجأة صرخ أحمد وهو يشير إلى قارب يكاد ينقلب في عرض النهر:

- انظروا... إنّه منحن من جهة... أتوقع أنّه سينقلب...

قام الآخران، اتكئا بمرفقيهما على سياج الجسر ورميا ببصريهما إلى القارب متبادلين الرأي في احتمالية انقلابه قبل وصول مركب الانقاذ... لم ينتبه مازن إلى أنّ ورقة مطوية سقطت منه، على الأرض، حين أخرج مخطوطته من حقيبته... وقد رآها أحمد، فداسها بحذائه ومن ثم وضعَ فوقها حقيبته... ثم أردف، ليشغلهما في النظر إلى القارب:

- ألا توجد فرق انقاذ لمساعدتهم؟

قال هذا، وهو يرفع حقيبته، قليلا، ويدس يده تحتها، ملتقطا الورقة، على غفلة منهما، ثم وضعها في الحقيبة، وجعل يعيد ربطَ رباطِ حذائه ليبرّر انحناءه... ثم اعتدل وأخذ ينظر معهما وهو يعلّق...

- غريب... ولا حتّى قارب نجاة...

أجابه علاء:

- بلى، ألمحُ في أفق النهر مركب الانقاذ قادما...

وفيما يقلّبون انظارهم في الفضاء المفتوح أمامهم متأملين مياه النهر وضفافه الشبيهة بمرافئ اللوحات الانطباعية، وعلى امتداد الساحل، الزوارق الصغيرة وصفوف المنازل... لفت انتباههم منظرٌ كأنّه لوحة زيتية لشابتين بالبيكيني متمددتين على رمال الشاطئ... ساد صمتٌ أبانوا من خلاله عن تحسّر على شيء لا يمتلكونه، شيء له علاقة بكل ما يثيره الجسد من صور غائرة في الأعماق... فكر علاء في اللحظة الوحيدة التي كان فيها مع امرأة في غرفة مغلقة... فسهى عن الفكر غرقا في مياه نشوة لم تتكرر أبدا... قال مازن بغتة، وهو يرتّب تسلسل المخطوطة:

- اسمعا...

جلس علاء وأحمد على الدكّة بانتظاره أنْ يقرأ... لكن مازن قد توقّف حائرا... إذ انتبه إلى أنّ ورقة من قصيدته، مفقودة... فأخذ يدمدم:

- لا أجد الورقة التي فيها مطلع القصيدة... عجيب! لابد أنّها سقطت عندما أخرجت الأوراق الأخرى...

ثم أخذ يدور حواليه وهو يجيل ببصره في الأرض، بحثا عن الورقة... لم يجد شيئا. ثم أردف يقول:

- هل رآها أحد منكما؟

وفي هذه الأثناء، لاحظ أحمد، بمحض الصدفة، أنّ ورقة لونها أزرق، أيضا، تتطاير على الرصيف الأخر، فقال لمازن:

- ماذا تعطيني إذا قلت لك أين هي؟

رد عليه مازن:

- لا شيء... قلْ لي أينَ هي؟

فهز أحمد رأسه هزّة رفض، وهو يقرقش البسكويت. إلا أنّ مازن الذي لا يحب مقالب أحمد، ظل يلحّ عليه وبلهجة حادة:

- قلْ لي أين هي... هاتها وإلا أقطعُ علاقتي بك.. فهذا ليس وقتا مناسبا للمزاح...

وبعد سكوت دام دقيقتين كرر فيهما مازن تهديداته، عاد أحمد يقول:

- لا أدري إذا كانت هي ورقتك أم لا...

توقف للحظة وهو يمسد شفَتيه بأصابع يده مُزيلا ما تبقى عالقا من فتات البسكويت، ثم أردف يقول:

- رأيتُ قبل دقائق ورقةً تطير صوب الرصيف الآخر... انظر هنالك... الورقة التي يدوسها الآن برجله ذاك الأفندي. ربما هي... ألا تراها... هناك..

رد عليه مازن وعينه على الرصيف الآخر:

- أين... أوه، نعم أراها... أعتقد هي... لونها أزرق... لحظة..

ودون أن ينتبه، هبّ يركض محاولا عبور الشارع إلى الجهة الأخرى، فصدمه لوري صدمة عنيفة بحيث صار يتدحرج تحت إطار اللوري، فبدا، بعد أنْ نزل السائق ليرى ماذا حدث، كأنما يلفظ نفسه الأخير... لم يصدقا ما راءيا... ودمدم أحمد يقول، زائغ النظر:

- كنت أمزح معه... كان مجرد مَقلب...

ألقى علاء عليه نظرة مستفسرة، ثم سأله:

- ماذا تقصد...

أجابه أحمد قال، وهو يناول علاء الورقة المطوية التي اخرجها من حقيبته:

- ورقته التي ضيَّعها هي هذه وليست تلك التي ركض وراءها...

بسطها علاء فوجدها صفحة فيها أبيات بعضها معلومة بالأحمر وكأنها تحتاج إلى تضبيط وزني:

"أحلامُنا

لم يطْوِها الضّوءُ الوقيح

أحلامُنا مَلأى بأَزْهارِ البَعيدْ

تُسقى بماء القافِله

أحلامُنا

ذات الثّغور الحافِلهْ

مِن نَسغِها كونٌ يَميح"

سقطت دمعةٌ من عينه... نظر إلى أحمد شزرا وراح يغلظ له القول! ثم رفع يده اليمنى، وخطا بضع خطوات، ووجه كلامه إلى أحمد بلهجة فيها شيء من التمثيل:

- ابتعد عني... سوف لن ألبّي لك بعد اليوم أمرا!

وهذا الكلام يضمر شيئا غير مريح لأحمد... فإنّ علاء كان قد وعده بأنّه سيساعده في تضبيط حوار طويل في روايته الجديدة التي ينوي نشرها قريبا... لكن أحمد لم يُلقِ بالا إلى ما قاله علاء... فقد بات في حال يرثى لها: متجهما، مربد الأسارير؛ نادما أشد الندم على فعلته التي سيحمل جريرتَها في ذاته إلى الأبد... وفيما كان علاء يُزجي نظرة أخيرة إلى

مازن المضرّج بدمه على الأرض، كان القارب، قبالة الجسر، قد انقلب وكاد يغرق وسطَ النهر... فنشأت قطرات الماء والدم تتواثب تحت أشعة شمس على وشك الزوال.... (مجلة "الفيصل" عدد آيار)