يعتقد العديد من علماء النفس بأن الحديث الأُحاديّ لدى الإنسان، ما هو إلا ملهاة ذهنيَّة نُسلِّي بها أنفسنا بين الحين والآخر، مستشهدين في هذا الرأي بالكيفيَّة التي يُدبِّر بها كلٌّ من الأطفال والحيوانات شؤونهم الذهنيَّة والسلوكيَّة، بمعزلٍ عن المفردة واللغة. وبمعنى آخر فإنَّ التفكير، برأيهم، أعقد بكثير من عمليَّات الأحاديث الأُحاديّة. إنه رأيٌ يحاول تشارلز فيرينيهو، وهو أستاذ علم النفس وصاحب أبحاث عديدة في الطفل والذاكرة والهلاوس، إثبات عكسه، أو على الأقلّ محاولة إعطاء الحديث الأُحاديّ دوراً أكبر من مسألة تسلية الذات في انتظار الحافلة، أو عند الاستلقاء على الأريكة، من خلال كتابه "الأصوات الداخليَّة". يرتكز فيرينيهو في الكتاب على وجهتَيْ نظر متضاربتَيْن لكلٍّ من ليف سيمونوفيتش فيكوتسكي وجان بياجيه. إضافة إلى خبرته في مجال "علم الأعصاب الإدراكيّ". حيث يرى بأن الحديث الأُحاديّ الذي يُمارسه الإنسان مع ذاته، يتميَّز عن الحديث الجاري بين شخصين، وذلك من خلال سمات عدَّة أبرزها: خاصيّة التوجيه، أي المسار المرسوم مسبقاً والذي يقود الحديث أو يجذبه. وأيضاً الجُمَل المضغوطة، فأنت لاتضطر (ذهنيَّاً) إلى إكمال الجملة، حيث يكفيك التلميح بها، أو ملامستها فقط.
يُقدِّم فيرينيهو أشكالاً متعدِّدةً للحديث الأُحاديّ، كالحديث الخاص (المسموع)، والحديث الذاتيّ بشقّيه الحواريّ والذي يأخذ شكل الحوار التبريريّ للسلوك، وغير الحواريّ كترديد المقولات المُحفِّزة أو بيت من الشِّعر (ذهنيَّاً). ويُرجِّح فيرينيهو الكفَّة لصالح فيكوتسكي، من خلال الكتاب. معتمداً في ذلك على عديد التجارب في مسح المخ البشريّ، التي قام بها رفقة زملائه. فرأي بياجيه القائل بأن "الطفل وأثناء ممارسته أحاديثه الخاصَّة، لا يأخذ منظور الآخر في الاعتبار، وبأن الحديث الخاص مرحلة عابرة لامستقبل لها"، هو رأي خاطئ. أما الرأي الأصح فهو رأي فيكوتسكي الذي يرى بأن "الحديث الذاتيّ هو ذاته حديث الطفل الخاص سابقاً، والذي تم نقله إلى الداخل، وبأنَّ الحديث الذاتيّ هو حديثٌ فعليّ". الأمر الذي أثبتته التجارب، وتمَّت ملاحظته تجريبيَّاً، وذلك من خلال استثارة المركز العصبيّ الذي يُنسب إليه "أخذ منظور الآخرين في الحسبان"، بالتزامن مع نشاط منطقة اللغة (بروكا). وعلى الرغم من ذلك كلّه يظلّ الباب مفتوحاً على مصراعيه، في مسألة تأكيد الدور الجوهريّ الذي يؤديه "حديثنا إلى ذواتنا" في عمليات التفكير من عدمه. أما السؤال إذا ما كان مجرّد شكل ظاهريّ يُغلّف خوارزميات أكثر تعقيداً، فجوابه سيظلُّ محطَّ جدلٍ طويلٍ. وفي محورٍ آخر يتناول الكتاب ظاهرة "العبور التجريبيّ"، والتي تعني محاولة كلٍّ منَّا تقليد شخصيَّةٍ ما أُعجب بها والتماهي
اللاشعوريّ معها في حياتنا اليومية. وهذه الشخصيَّة قد تكون خياليَّة قرأنا عنها في روايةٍ ما، أو شاهدناها على شاشة التلفاز. ثمَّ أصبحت بعد ذلك قدوتنا، وصرنا نقتفي أثرها في كل مكان، وفي أي سلوكٍ نقوم به.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.