اطلق العرب المسلمون، اسم "بلاد ما وراء النهر" على الاراضي الواقعة مابين" نهر جيحون (الذي يسمى الآن: بـ "آموداريا")، ونهر "سيحون" (يسمى، الآن، بـ سيرداريا). وقد عرف الاوربيون هذه المنطقة، حتى القرن العشرين، باسم (ترانساوكسانيا) Transoxiana. وهي ترجمة لاتينية للاسم اليوناني القديم الذي يعني "ما وراء نهر الاوكسوس" Oxus .
ظل نهر "جيحون"، لعقود كثيرة، يمثل الحد الفاصل (الفاصل الطبيعي، وليس التاريخي، بحسب فيليب حتي) بين الشعوب الناطقة بالفارسية وتلك الناطقة بالتركية، اي بين "ايران و"طوران" (توران). وتكمن مأثرة العرب المسلمين في فتحهم لهذه البلاد ، بإزالة هذا الحاجز الطبيعي، واتاحة الفرصة لتلك الشعوب الساكنة في شرق جيحون، ان تسهم اسهامات كبرى وإن يؤدوا دورهم اللافت في الاضافـات الحضرية والثقافية، التى اثرت الحضارة الاسلامية.
تعد واقعة فتح بلاد ما وراء النهر التى اضطلع بها المسلمون، من المآثر الحربية التى شهدها تاريخ الفتوحات الاسلامية. اذ يعتبر "قتيبة بن مسلم الباهلي"، الشخصية المحورية في ملحمة فتح بلاد ما وراء النهر، هو المولود في البصرة سنة 669 م.، والمتوفي في فرغانة سنة 715 م. وكان في جيش قتيبة، حسب البلاذري، اربعون الف مقاتل عربي من البصرة، وسبعة آلاف من الكوفة، وسبعة آلاف من واسط. ففي الحملة الاولى استولى قتيبة على القسم الادني من طخارستان، وعاصمتها بلخ، وبين سنة 706 و709 ، اكتسح بخارى من بلاد الصغد، والمنطقة المجاورة لها. واستولى بين 710 و713 على سمرقند، من بلاد الصغد ايضا، وخوارزم الى الغرب. وفي غضون العامين التاليين قاد حملة الى مناطق نهر سيحون لاسيما فرغانة. واقام حكما اسلامياً. وكان الكثيرون من سكان تلك الاصقاع على البداوة، لكنهم امسوا بسبب الدين الجديد، على درجة عالية من التحضر، واسهموا في انتاج الحضارة الاسلامية لاحقا، بكل تفرعاتها ومواضيعها الدينية والدنيوية، بضمنها العمارة والفنون.
حكم بلاد ما وراء النهر بعد قتيبة عائلات حاكمة كانت تدين بالولاء الى الحكم العباسي ومقره بغداد، ثم توالي على حكمها بعد سقوط الخلافة سنة 1258، كثر من العائلات المحلية الحاكمة اهمها "التيموريون"، و"الشيبانيون" و"الاوزبك"، و"الاشتراخانيون"، بعدها ظهرت الخانيات وهي بمثابة اقاليم ذات حكم مستقل مثل خانيه خيوة (خوارزم) وخانية بخارى وخانية خوقند، اعقبها الاحتلال الروسي الذي ازال تلك الخانيات وضم اراضيها الى روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في حواضر بلاد ما وراء النهر الثلاث الرئيسية وهي: سمرقند وبخارى وخيوة، نشأت وترعرت وازدهرت عمارة بلاد ما وراء النهر كمقاربة متميزة ضمن منتج العمارة الاسلامية وإضافة نوعية الى خطابها. وقد قمت بتأليف كتاب عن تلك العمارة الاسرة ( 566 صفحة من القطع الكبير)، كما سعيت وراء نشر حوالي 750 صورة في هذا الكتاب، اخترتها من بين 2500 صورة، كنت قد التقطتها شخصيا اثناء زيارتي الميدانية الاخيرة لتلك البلاد البعيدة... والقريبة الى فؤادي! وهي بمجموعها تعكس طبيعة العمارة المصممة ونوعية الخامات المستعملة بالإضافة الى عرض أساليب زخرفتها وتزييناتها، فضلا على حضور اللون فيها، كجزء مهم من الحل التكويني لتك المباني. وقد تمّ نشر الكتاب عام 2018.
ما يميز تفاصيل تلك العمارة (ومقالنا الحالي مكرس لعرض <باقة> او <مختارات> Anthology من تفاصيل عمارة ما وراء النهر)، ما يميز تلك التفاصيل (مثلما ما يميز تفاصيل العمارة الاسلامية اجمالا)، هو التكرار المدهش للوحدات التزينية المستخدمة، في مقابل التنويع الذي لا يقل اثارة للدهشة في تشكيل تلك "االتوليفات الفنية" التى تملء جميع اسطح وجدران وسقوف تلك العمارة المبهرة. والامر المثير هنا، من أن تلك الجمالية الآخاذة ، قد لا تنبع من دقة وضبط تنفيذ تلك الوحدات وشغلها المحكم (كما هو المتعارف عليه لدى ثقافات آخرى!)، بقدر ما "تفوح" تلك الجمالية من حضور الاختلافات الطفيفة في منتجها النهائي، الناجم عن اشتراطات "العمل اليدوي" لتلك الوحدات واحيانا من اخطائها اليسيرة اثناء عملية تنفيذها، التى تذكـّر بالجهد البشري المبذول في انجازها، مضفية تلك الاخطاء العابرة مسحة جمالية فاتنة!
في "تفاصيل" عمارة بلاد ما وراء النهر ، تحضر الخطوط المكتوبة، لتشكـّل ظاهرة مؤثرة في تأليف لوحات تفصيلية فنية مثيرة. وكلمات هذة "الخطوط" المستلة، في الغالب الاعم، من نصوص دينية او من قصائد شعرية او مأخوذة من جمل وتعابير فلسفية، تعمل على تكريس خصوصية تلك اللوحات المميزة مانحة اياها فرادتها. لقد دأب معماريو بلاد ما وراء النهر و"معلموها" من الصناع المهرة الى جعل مبانيهم العديدة والمتنوعة في وظائفها، زاخرة بالتفاصيل الملونة المكسوة بتربيعات خزفية ذات بريق معدني. واذ بدت نوعية الفعاليّة المعمارية الفطنة في حواضر بلاد ما وراء النهر على درجة عالية من الاتقان والجودة، فما هذا سوى نتيجة استحضار ما تمّ انجازه سابقاً، والتعلم منه، خصوصا ذلك النشاط المؤسس والرائد في حواضر اسلامية بعيدة عن هذا المكان، ساهمت في ترسيخ قيم تلك العمارة واحيانا ابتكار تنويعاتها، وتحديدا في "سامراء" العباسية وقبلها "ببغداد" عاصمة الخلافة وحاضرة الاسلام المؤثرة. وليس صدفةً ان يدعو بعض النقاد المهتمين في العمارة الاسلامية، منجز عمارة ما وراء النهر (بالمرحلة الثالثة) في مسار <العمارة العباسية>، بعد مرحلتي "سامراء" و"بغداد"، نظرا لتماثل المقاربات التصميمية وتشابه استخدمات نوعية المقياس الضخم المميز، وتوظيف ذات المواد الانشائية في تنفيذ تلك العمارة، وتطابق اساليب تفاصيليها وطرق تكسيتها.
واذكر عندما كنت في زيارة لتلك الامكنة وانا محاط باجواء تلك العمارة الساحرة، ومفتون برؤية نماذجها التصميمية، كتبت في دفتر مذكراتي مايلي ..(..ان تكون في بلاد ما وراء النهر، يعني ان "تكون" هناك؛ في الأراضي المتخيلة، التي لطالما حلمت ان تكون عندها واقعياً! ان تكون "الشاهد"... و"المشاهد " لذلك الإنجاز المعماري الفريد، الذي عكست نجاحاته التصميمية، ما كان يفترض ان يكون "مشهداً" عاديا ومألوفاً في بيئة "بغداد العباسية" المبنية، وهي في اوج تمدنها، واوج تحضرها "كحاضرة" لعالم إسلامي مترامي الأطراف! فما هو مجترح هنا، ليس الا سوى قبس من ذلك الفيض الإبداعي الذي رسخته "بغداد/ الحاضرة" يوما ما! أيكون حبك، وعشقك... وتماهيك مع هذه العمارة الآسرة، مبعثه ذلك "الحنين البغدادي" الذي لا ينفك يذكرك، بانك جزء من ذلك المنجز الحصيف! وها انت شاهد عن ذلك! فلكونك هناك، تنتفي حيرة التساؤل الشكسبيري، مكتفياً بمنطوق الجزء الأول من تلك الحيرة "تكون...!" من دون ثمة حاجة لتكملة جملة ذلك الالتباس المربك، هو الذي ولدّ قلقاً انسانياً ظل حاضراً عبر مسارات الزمن، ذلك الزمن المستعاد هنا، من خلال هذه العمارة الاستثنائية!)
في الصور المرفقة مع المقال، ثمة باقة "تفاصيل" مستلة من مبان عديدة مشيدة في حواضر بلاد ما وراء النهر، اجد فيها انعكاسا لمزاج تلك العمارة الاثيرة لديّ، والمعبرة بوضوح كاف عن مستوي الشغل الحرفي واساليب تنطيقه فنيا وجمالياً. كما ارى (مثلما آمل ان يرى، ايضاً، القراء الاعزاء)، في التفاصيل المختارة تماهي وافتنان معلمي و"أُسْطَوات" الاعمال الحرفية ومعمارييها بما صنعت "اياديهم"، وبما اجترح فكرهم الخلاق من انجاز مدهش!□□
معمار واكاديمي

الصور:
1- تفصيل، مبنى في سمرقند، مجمع شاه- ي زنده ، (النصف الثاني من القرن الرابع عشر)، بلاد ما وراء النهر.
2- تفصيل، مبنى في بخارى، منارة كاليان (1127م.)، بلاد ما وراء النهر.
3- تفصيل، مبنى في خيوة، مسجد خيوة الكبير، (945 – 991 م.)، بلاد ما وراء النهر.
4- تفصيل، مبنى في سمرقند مجمع شاه- ي زنده ، (النصف الثاني من القرن الرابع عشر)، بلاد ما وراء النهر.
5- تفصيل، مبنى في خيوة، ضريح محمود البهلوان، (القرن السابع عشر –التاسع عشر)، بلاد ما وراء النهر.