عند ركن الشارع المحاط بالأضواء والإعلانات التجارية، انتبذ المشاهد زاوية منه مراقبا المارة بلا إنقطاع، يلمح خطواتهم التي تبتعد أو تقترب، بينما تتحرك إمرأة عجوز بخطى مثخنة، أحدهم يمسك بكتف صغيره واحداهن تترنح في مشيتها، ومابين صوت كعاب الأحذية و العجلات، تتناغم اصوات ارتشافات الشاي مع الحكايا والأساطير. سائح يعبر الشارع وآخر يبحث عن عنوان، بينما تنتشر في الفضاء روائح ثاني اوكسيد الكاربون والمأكولات المقلية والخبز المحمص، اضواء الاعمدة، اشارات المرور، ظلال الابنية والنوافذ العالية ارتسمت على الرصيف الذي ازدحم بالاتومبيلات وعجلات الركاب الملونة و الدراجات الهوائية. مقاهي ومحلات لأزياء النساء والرجال والاطفال ومداخل الأبنية. نوافذ محلات التسوق الزجاجية المزينة بازياء الخريف الصفراء المائلة للحمرة. نادلة المقهى تتنقل بين الطاولات الخشبية لتلتقط فناجين القهوة المتروكة وتأتي بالاخرى، ومابين الهمسات المكبوتة يعلو صراخ الاحاديث الهستيري مصحوبا بدخان السجائر الازرق. صخب الايقاع يستدعي الفرار، بينما امتلأ المشهد بضجيج المسافات المتماهية مع الزمن. تعددت نقاط التلاشي وتقاطعت مساقط الرؤية العمودية بالافقية. هذا العالم بتفاصيله الصاخبة، تشرف عليه بنايات سكنية بنوافذها و شرفاتها المفتوحة والأخرى المغلقة، ثمة اشخاص جالسون في الشرفات، يتاملون حركات وملامح المارة الذاهبين والعائدين في حين تتموضع في إحدى زوايا هذا المشهد ساحة خضراء تجمع عليها الناس لممارسة طقوسهم الحياتية اليومية خارج المنزل. فالشاعر منهم يقرأ شعره والمتسول يلتقط رزقه وعازف الجيتار منهمك في موسيقاه، بينما تزداد وتيرة ضجيج المارة المتعالي حول النافورات الراقصة. لعب الاطفال الصاخب يقابله سكون الكهول. في حين هناك تهتز أغصان شجرة كانها لا تقوى على حمل كل هذه النغمات الملونة، ريح خريفية خفيفة وطائر يعلو ثم يهبط مسرعا. كيف ياترى لهذه التناقضات ان تجتمع معا لتشكل هذه اللحظة الزمنية ذات الايقاع المركب؟

لم تكن هذه المقدمة جزءا من رواية، وإنما هي تجربة لأحد المارة في تذوق مظاهر المدينة المتنوعة وما تراه العين على مستوى النظر. انه المستوى الارضي والجزء الأكثر اهمية بالنسبة لحجم الانسان وتفاعله مع المحيط. هو اذن الجزء الحي والنابض بالحياة ومحيط التجارب الذي يمنحنا الشعور بالسلامة والأمان والانتماء والتفاعل الاجتماعي. الجزء الذي نعيشه بأبعاده الاربعة وهو التحدي الذي يستفز جميع الحواس لتشكيل الرؤية الخاصة بنا. فبالاضافة الى المستوى الأرضي من البنايات هناك المساحات الخضراء والحدائق والمدرجات العامة وهي الأماكن التي يمارس فيها الفرد طقوس الراحة والاسترخاء والرياضة باختلاف المستويات العمرية والطبقات الاجتماعية. إنه البيئة الحضرية التي تخاطب حجم جسد الإنسان بشكل مباشر ويقع على مستوى نظره، اما غير ذلك فهو على قدر ما غير معني به. ولكن، لماذا نشدد هنا على حجم الإنسان؟ أقول جوابا على ذلك: أن الأبراج الشاهقة والبنايات الضخمة الحديثة ذات الواجهات المعدنية البراقة وتماهي المعماري مع العمل النحتي في تصميمها بما يشترطه في تنوع مساقط الرؤية لإدراكه والاستعراضات التقنية لابتكارات الكمبيوتر والمواد المستخدمة سيكون كل هذا من شأن مسقط رؤية الطائر واهتمامات الحكومات من جهة رغبتها في تقديم صورة زائفة للتقدم. فللطائر متعة الرؤيا من الأعلى وامكانية الدوران حول هذه البنايات أثناء الليل والنهار.

وللحكومات فضاءات المدينة التي تعزز فيها الهيمنة السياسية والاقتصادية داخل وخارج البلاد حيث يحرص أصحاب المال والنفوذ المتبارون بعرض الابتكارات العلمية والتكنولوجية الباهظة الثمن. ومن الواضح أن مخططو المدن العصرية والمعماريون اعتمدوا على المبادئ الاساسية لعلم الجمال التي وضع لبناتها الأولى الفيلسوف الالماني (الكسندر بومكارتن) في القرن الثامن عشر حيث أطلق عليها اسم (الاستطيقا) وهو الاسم المأخوذ عن اليونانية والذي يعني الادراك الحسي او المعرفة الحسية، اي اشباع الحواس والشعور بالبهجة. وقد يشعر الإنسان فعلا بالبهجة وهو يرى المدينة التي ينتمي لها قد تحولت الى مهرجان من الابنية البراقة المضيئة التي تشعره بالزهو او ربما العظمة ويمكن الاحساس بالفزع والرهبة من الاحجام المبالغ فيها وهو يرى الصور على شاشة الكومبيوتر أو على صفحات الإنترنت، لكن ما الذي يشعر به وهو مار في طريقه الى العمل او التسوق او في الساحات الخضراء؟ بناية متحف كوكينهايم في بلباو في إسبانيا التي صممها المعماري فرانك كيري على سبيل المثال، اعتبرت ولازالت معجزة معمارية بسبب المساحات والسقوف الغريبة والشكل الخارجي والداخلي للبناية هذا بالاضافة الى المواد التي استعملت في تشيدها وهي بالفعل تحفة معمارية رائعة الجمال في الصور وعلى شاشات الكومبيوتر والتلفاز إلا أن تجارب المارين بالقرب منها تروي حكايا مختلفة تماما. ففي النهار تعكس الألواح المعدنية حرارة الشمس مما يتسبب بالشعور بعدم الراحة والضيق، هذا فضلا عن استحالة التمتع بهذا الصرح وهو بهذا الحجم المبالغ به، أما الواجهات القريبة من مستوى النظر فلا توحي بأكثر من أنها ألواح زجاجية. هذا بالاضافة الى ان معظم البنايات الرائعة الجمال التي صممت من قبل أهم وأشهر نجوم العمارة، لم يكن بالإمكان تحقيق أهم مبدأ من مبادئ العمارة فيها، وهو عنصر الراحة، حيث عانت هذه البنايات من مشاكل الصوت والتهوية كمثال، بالاضافة الى شكلها الخارجي، ناهيك عن أنها نفذت بعيدا عن المتطلبات الحسية والوجدانية للفرد وانقطاعها عن التواصل مع ما سبقها من إرث، مما افقدها خصوصية المكان والزمان.

كان التحدي الأول للإنسان هو الظواهر الطبيعية وفهم أسرار الوجود، فمنذ البدء كانت هناك تلك الرغبة الجامحة للسيطرة على الطبيعة لينتهي الأمر بالسعي للسيطرة حتى على ماوراء الطبيعة، وهكذا سيستمر هذا الكائن في محاولات الهيمنة وامتلاك كل ما يحيط به، بينما كانت ولازالت علاقته بالمحيط غريبة تتسم بالكر والفر، فتارة تغلبه الطبيعة وتارة هو من يغلبها، واستمر هذا التحدي الى مالانهاية، فمن قمم الجبال الى اعماق البحار حتى الشمس والقمر ومايدور حولهما، ورغم حجمه الضئيل - وهو هاجسه الأكبر الذي كان يقلقه - تغلب الإنسان على معظم ما يهدد حياته ومستقبل استمراره على الأرض، إلا أن اندفاعه الشره وطموحه الكبير دفعه الى الاستغلال الجشع للثروات الطبيعية بشكل غير محسوب العواقب، الأمر الذي أجبره على العودة الى المربع الأول. ورغم تطور العلوم والأبحاث المستمرة، إلا انه ظل حائرا أمام المعضلات الكبرى التي تواجهه بها الطبيعة لتقف حائلا بين طموحه في استعمار الكون وتصر على تحجيمه. وانطلاقا من شعور أضناه، راح يبني مستعمراته التي هي بالطبع تعكس رؤيته الخاصة لذاته، وبالاخص إبان المرحلة الصناعية وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية. ومع تزايد النمو السكاني والاقتصادي وتعدد المبررات المختلفة والمتباينة والتي تعكس الرغبات في الدفاع عن المصالح ظهرت (مدن التايتن العملاقة) والبناية ذات شحنة التأثير اللحظية الصادمة التي أتت من منظور مختلف تماما عن البناء في المناطق الحضرية داخل المدن الكلاسيكية وشُيدت من هذا المنظور المدن الأمريكية كمثال. وهكذا، فمن مدن نابضة بالحياة الى مباني شاهقة عززت الشعور بالوحدة وفقدان الطمأنينة، هذا بالإضافة إلى التكاليف الباهظة لاتمام إنجازها. وعلى غرار المدن الأمريكية التي أثبتت فشلها، شيدت معظم الدول مدنها الجديدة، معتمدة على المنظور ذاته وعلى قناعة المخططين لها والتي تجعل من المستحيل بالنسبة لهم تقدير حجم الدمار الذي تجلبه هذه المدن. فقد اعتمد المخطط المدني الحديث على نظريات تجريدية شكلانية صافية حول كيفية بناء تلك المدن، بدلا من البحث في كيفية عملها فعليا. فبالاضافة الى التقسيم الطبقي والاجتماعي والثقافي الذي ظهر جليا على ملامح هذه المدن الحديثة، برز ايضا الحجم الهائل من ثاني اوكسيد الكاربون الذي تطرده للخارج، وهو السبب الرئيسي في التلوث البيئي. “ ان المدينة النابضة بالحياة، تعتمد على مجموعة من الانشطة المكثفة والمتنوعة التي تدعم بعضها البعض ماديا واجتماعيا “ هذا ما كتبته (جين جايكوبس) الكاتبة والصحفية والناقدة في مجال العمارة وتخطيط المدن الحضرية الأمريكية في كتابها (الموت والحياة للمدن الأمريكية العظيمة) فالتنوع في المدن لا يعني ان تكون المنطقة مجرد حي سكني او مكاتب عمل حيث يتم استغلالها لساعات معينة من اليوم وتموت في الساعات المتبقية. والمقاهي والأسواق وساحات اللعب تنعش شوارع المدينة في الوقت الذي يتباطأ الإيقاع فيها بعد اغلاق المكاتب عند حلول المساء، وبهذه الحركة المستمرة تبقى المدينة مستيقظة لساعات طويلة من اليوم وتمنح سكانها الأمان والطمأنينة والسيطرة على دخول الغرباء، هي إذن الحياة في المدن المثالية بنبضها المستمر و زخمها الحياتي النابض بالحيوية. وهذا النموذج من المدينة هو بالطبع النموذج الكلاسيكي القديم الذي شيد في العصور الماقبل الصناعية، اذن، مالذي حدث من تغير لتبني رؤية جديدة في بناء مدن (التايتن) العملاقة ؟ نحن نعلم ان مخطط المدن أو المعماري هو بالأساس الفنان المعتمد في رسم القصور والكنائس والمخطط المدني لأزمنة ليست ببعيدة. وبعد ظهور الفن الحديث تم تبني حلول معمارية جديدة، هذا بالاضافة الى الامكانيات المتاحة الهائلة التي منحها العصر الصناعي. لكن ظهور الشكلانية في الفن والأدب في النصف الأول من القرن الماضي كان له الأثر الكبير على أسلوب حياة الإنسان وخياراته، ومثل باقي الفنون تأثر فن العمارة وتخطيط المدينة به. إلا أن المبالغة في الشكلانية من قبل المختصين على حساب الوظيفة ادى الى اهمال الجانب الأخير بشكل ملحوظ. والشكلانية كتيار اعتمدت على نظرية الأسلوب التي تبنتها مجموعة من الفلاسفة ومنهم أفلاطون وأرسطو وايمانويل كانت فيقول افلاطون ان هناك عالم يدعى بعالم المثل حيث توجد الجواهر المطلقة لكل أشياء هذا العالم. وفي هذه الجواهر تتمثل الصفات الكلية للأشياء وهي بصيغتها المثالية. فلا يمكن لأشياء العالم ان تصل لحد المثالية المطلقة كما هو مدون من افكار افلاطون بسبب ان اشياء العالم لا يمكن لها أن تتصف بالكمال المثالي ففيها دائما نوعا من القصور لكنها في عالم المثل لا تعاني منه، فاللون الاحمر مثلا، الموجود في عالمنا، لا يمكن له أن يكون اللون الأحمر المطلق بسبب كونه موجود في العالم ويتأثر به وتبعا لهذا التأثير لا يصبح دائما ذاته، فهو يصبح أحمرا غامقا أو أحمرا فاتحا تبعا لعلاقته مع محيطه، والحال هي على العكس مع الاحمر (المثال) والقابع في عالم المثل فهو لايعاني من المؤثرات الخارجية ويتمتع بصفة الظهور المطلق الحقيقي الذي لا يتأثر بأي عارض خارجي. فهو إذن الأحمر المطلق أو جوهر الاحمر وحقيقته الناصعة. وفي العمارة لايوجد تصميم مثالي بسبب عدم الوصول الى التوازن الكامل ما بين الناحية الوظيفية والجمالية. يقول ابن خلدون “ إن الحفاظ على مراكز المدن بتاريخها الحضاري ونسيجها العمراني وتركيبتها الاجتماعية سيكتب لها النجاح، ولن يتحقق هذا ما لم تتخذ من البعد الاجتماعي خطا ومسارا لها “، وقد أثبتت نتائج التجربة فشل المدن الهجينة او بالاحرى اللقيطة والتي ليس لها علاقة بالتركيبة الاجتماعية للمدينة. ولو افترضنا أن المقصود هو بالفعل تغير التركيبة الاجتماعية للمدينة، فان عملية التغير هذه لايمكن ان تحدث بهذه السهولة مالم تكن مدعومة بخطط اقتصادية قوية و توزيع عادل للموارد والمحافظة على البيئة واحترام التنوع الثقافي في المجتمع لتعزيز نجاح واستمرارية هذه المدن.

أما الشكلانية في العمارة وهو التيار الذي اعتمد على استخدام خليط من عناصر ومواد كلاسيكية وحديثة ليصل في النهاية الى ما يشبه النصب أو العمل النحتي. ومن هنا عوملت البنايات على أنها تماثيل نحتية ثلاثية الأبعاد يستخدم فيها الفنانون جميع التقنيات لبناء بنايات/منحوتات من مجموعة واسعة من المواد والأشياء المتاحة. وانتشرت هذه الأفكار في ستينيات القرن الماضي، ورغم ظهور تيارات وفلسفات أخرى غير التشكيلية إلا ان المضمون ظل واحدا وهو أن ثراء الشكل يكمن في عناصره والمواد المستعملة في بنائه وهي ما يحدد جودة العمل. وقد كان لمفهوم الفن المطلق الغير مرتبط بشئ الا بنفسه الاثر الاكبر على تصميمات المعماريين المنتشرة في المواقع أو الثقافات الغير المنتمية لها. وبلا شك قدم المعماريون تصاميم رائعة استخدموا فيها الامكانيات الهائلة وكان لها الاثر الواضح في تغير مفهوم العمارة وشكل المدن الحضرية مثل المباني الملونة والبنايات الراقصة والبنايات القريبة من المركبات الفضائية، الا اني غير متأكدة من أن جرعة اللامألوف المكثفة ورجاحة اختيار التوازن بين الارتباك والفوضى في الإيقاعات العمودية والأفقية والواجهات والحجوم والتي تميزت بها كانت قد أدت غرضها في التأثير الإيجابي على منظومة التذوق والقيم الجمالية بعد تعرضها لهذا الكم الهائل من الاستفزاز والصدمات، والسؤال: هل يستحق عشقنا للاشكال التضحية بالجانب الوظيفي لصالح القيمة الجمالية المبهرة ؟ هل يستحق التعبير عن المعنى في الصرح المعماري أن يضحي بالجانب الوظيفي؟

وعلى هذا الاساس ارتفعت الاحتجاجات والاصوات المطالبة بالعودة الى الماضي واحترام خصوصية المكان والتركيب الاجتماعي فضلا عن ارتفاع نسبة التلوث البيئي، ومن هنا كثفت مجموعة من المعماريين الأوروبيين والغربيين جهودهم في استعادة وتطوير عمارة الأرض ذات التكلفة المعقولة والصديقة للبيئة، فبالاضافة الى انها تعمل كجزء من الكل فهي مكتفيه ذاتيا وتنتمي للطبيعة الانسانية، ورغم ان العالم لا يزال يجهل ويتجاهل هذا النوع من العمارة إلا أن هناك الكثير من المعماريين والمهندسين والفنانين الطموحين يعملون جاهدين على تقديم الحلول الجيدة والتي تبشر بمدن جديدة اخرى غير التي شيدت في الآونة الأخيرة.

2020 ستوكهولم