نورة البدوي/ تونس


تأتي رواية ظلّ الشوك " دار القلم للنشر و التوزيع 2020" لتشكل المنجر الثالث لروايات الكاتب التونسي الأمين السعيدي، يجعل كاتبنا في روايته من الذات الإنسانية -بمختلف القضايا التي تؤرقها - عنصرا محوريا في نسيج السرد و دفع الأحداث و الوقائع، وفق نسق غير منفصل عن سياقات سياسية و اجتماعية تمر بها البلاد " تونس"من جهة، و في ارتباط بما يعيشه العالم من اضطراب بسبب كوفيد 19 من ناحية أخرى.
أول ما يشدّنا في الرواية هو العنوان، حيث اختار الكاتب عنوانا ذات وظيفة إيحائية تلخيصية بعبارة كولدنشتين فرغم بساطته الظاهرة و اقتصاده الواضح إلا أنه يحمل دلالات قيمية و أخلاقية، أطرها السعيدي بالعلاقة التي أوردها بين "الدال والمدلول".
فان كان دال " ظل" ورد نكرة، فان المدلول ورد معرفا " الشوك"، بهذه الرمزية التي يحملها معنى الشوك، يفتح الكاتب أمامنا باب التأويل بأن يكون الظل انعكاسا لمنظومة من العلاقات و القيم الجامعة بين أفراد الأسرة أو وجع الذات إزاء ما تعيشه في واقع مغاير للأمنيات أو علاقة الأنا بمؤسسات الدولة.
بهذه التأويلات يدفع العنوان القارئ إلى طرح الأسئلة لتفكيك معانية و دلالته المنفتحة على قضايا متنوعة، قضايا طرحها السعيدي في روايته من خلال مجموعة من العلاقات بين الشخصيات بدءا من الأسرة التي تجمع هنية و زوجها بشير و ابنتهما زبيدة، مرورا بعلاقة بشير بالأمكنة القرية و المدينة، و بين يسرى و شرارة و بين المؤسسات السياسية في علاقتها بالمهمشين و بين هشاشة الإنسان مع الكوفيد19.
من هنا يمكن القول إن العنوان ألقى بضلاله على كلية النص ليبلور مضامين و معاني الرواية.

مشهدية السرد:
تنطلق الرواية من حدث بسيط ظاهرا عميق رمزا، و هو المخاض الذي فاجأ هنية ليلا لترزق و زوجها بشير بطفلتهما زبيدة، ينزع بنا الكاتب من خلال هذا الحدث إلى اعتماد الوصف كتيمة لإبراز مؤثثات المكان مرافقا إياه بسرد مشهدي للشخصية بشير" اعتاد بشير النهوض من نومه باكرا على نغمات الديك و قد نسي ذلك نتيجة سعادته بأول مولود،ص9". ""خرج الزوج إلى الزريبة أين يجتمع الدجاج المتنعم بالظلمة و السبات ص "8" و هو المتعود على النهوض مع خيوط الفجر ليتنقل إلى سفح الجبل ليجمع الحطب ص 9".
بهذا التأطير المكاني " بساطة العيش في القرية" و حدث الولادة، تتفرع الحكاية إلى دوائر مختلفة من الحكايات وفق نسق تصاعدي للأحداث التي تدور على اتجاهات متنوعة من حيث المكان القرية / المدينة و الشخصيات في تلاقيها ببعضها ثم انفصالها ثم العودة إلى خيوط العلاقات الأولى، و كأن السعيدي يجعل من شخصيات الرواية كل منها ينسج خيوط حكايته من خلال دوائره الخاصة.
فعبر 15 فصلا موزعا على فضاء 160 صفحة، جعل كاتبنا من شخصياته تتحرك في اتجاهات مختلفة مكانيا و زمانيا وأخلاقيا و فكريا و قيميا فنجد " بشير و زوجته هنية و ابنته زبيدة" و في المقابل نجد شخصيات المدينة يسرى و شرارة و الخادمة و أهل القرية حامد العسكري و الشيخ حمزة ..أما شخصية الحمار فكانت تشكل صوت الضمير و السؤال العابر لمنطق الجهويات و الاستغلال و الخيانة و المرتكز على العودة إلى أصل الكون الذي جبلى على البراءة.
فبشير بعد عثوره على كنز في سفح الجبل غادر إلى المدينة دون إخبار زوجته، ليقع في شباك يسرى التي جعلته يستعني عن حماره و بعد ذلك استحوذت على كنزه و تخلت عنه ليحتل مكانه شرارة الذي أصبح بفضل كنز بشير رئيسا للحكومة، " غير أن الجمال الفاتن الذي اعترضه في لحظة اتقدت فيه الحواس و الغرائز جعلته ينسى الأصل في السعادة" ص 27...اعتقد يوم عثوره على الكنز أنه سيقطع مع الكآبة و المأساة و الحيرة و التشرد إلا أن الأقدار أبت دون ذلك" ص 28.
"كيف ينسى زوجته هنية و ابنته زبيدة و يترك حماره في الشوارع الآدمية و هو العاشق لكل هذه الأشياء؟ "
لقد جعل السعيدي من حضور الحمار و غيابه في شوارع المدينة، إيقاظ لثنائية الخير و الشر في الذات الإنسانية و أمزجتها المتقلبة تقلب الأزمنة و الأمكنة و المتغيرات التي تطرأ على سلوكها حين تستحوذ المادة على الأخلاق.
كما أضفى كاتبنا في هذا التنقل المشهدي حضور آخر لنسيج من الشخصيات كالمارة في المدينة و صعاليك الليل و حراس المحل و أهالي القرية كلها لا تحضر إلا لدفع السرد في مستويين مختلفين هما: مشهدية السلوك الإنساني و دائرة المهمشين بين أبواب المدينة و سكان القرية المنسية.

العودة إلى قيم الفلسفة:
عبر هذا النسيج من العلاقات يضع السعيدي شخصيات روايته في أحداث واقعية تمر بها تونس حيث تحضر أناه الراوية كمخزن للذاكرة المواكبة لأحداث و وقائع لمختلف مراحل البلاد من سقوط نظام فاسد إلى استمرارية سياسة الفساد و تعال لقيم الفردانية في تجلياتها الانتهازية و الاستغلالية و الأنانية الخالية من كل القيم.
تقول زبيدة لأمها هنية لقد صنع العلم في عقولنا حب الذات و حب الملك و عشق السلع فأنسانا حب الآخر و حب الآخرة إن ما يدفعنا إلى الحياة الحيوانية استهلاك و لذة و موت. ص 117.
بهذه الثقافة الاستهلاكية التي ساهمت في بناء الإنسان النفعي تحضر الأنا الراوية تفاصيل الأحداث عبر نقلها لمشهدية الأفعال و الهواجس و تقييمها و نقدها باستحضارها للنصوص‭ ‬القرآنية‭ ‬والأحاديث‭ ‬النبوية‭" من جاء بالحسنة فله خير منها و هم من فزع يومئذ آمنون" سورة النمل الآية 89.
‬وفي‭ ‬أحايين‭ ‬أخرى‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ مقاربات‭ ‬فلسفية‭ ‬و إبراز قيمها الجمالية تلميحا لا تصريحا و القائمة على المساواة و العدل و الخير" المؤلم هو أن تعبنا و تعب أجدادنا في محاولة إنشاء قوانين سليمة تسير عليها الإنسانية" 64ص، ....الإنسان حبيب لأخيه الإنسان و صديقه المخلص لا حسد و لا ظلم" 59.
و كان السعيدي في مقارنته بين تعالي للقيم الفردانية و استحضاره للنصوص القرانية و الفلسفية يوازن بين الفعل الدرامي للسلوك الإنسان، داعيا على لسان شخصيته زبيدة التي اختارت الفلسفة لاستكمال دراستها و بناء علاقتها بالإنسانية .