عندما قرر <شارل- أدور جانيريه> (1887 – 1965) Charles-Edouard Jeanneret (الذي سيكون لاحقا "لو كوربوزيه" Le Corbusier ، مستخدما في عام 1920 اسم عائلة جده لإمه لقبا جديداً له، مبررا "فعلته" تلك، قائلاً <بان بامكان اي شخص إعادة اختراع نفسه!>)، عندما قرر في سنة 1911، ان يقوم بجولة تعليمية ذاتية يطلع من خلالها على خصائص عمارة بلدان مختلفة عبر زيارة ميدانية لتلك الدول. كان ذلك القرار بمثابة اضافة نوعية اخرى لاسلوب "تعليمه" المعماري المتفرد؛ ذلك "التعليم" الذي لم يكن درساً مدرسياً عاديا "يتلقاه" في مؤسسات اكاديمية، وانما "يحصل" عليه من تعليم ذاتي، ومن تجارب واقعية في ممارسات مهنية بمكاتب معمارية مرموقة. معلوم ان "لو كوربوزيه" لم ينتسب كما لم يدخل في حياته كلها اية مدرسة معمارية لتعلم المهنة المعمارية. بيد ان الامر اللا فت في تلك الرحلة، باعتقادي، لم يكن مقتصرا وحده على هذا هذا الجانب التعليمي برؤية الامثلة المعمارية ميدانيا فحسب، وانما تخلي كوربوزيه كمثقف طليعي عن مزاج ما يعرف بـ "المركزية الاوربية"، ويعلن بجرأة نادرة بانه قادر لان يتعلم من "آخرين"، حتى وان كانوا غير اوربيين، بل ويذهب بعيدا في ابداء رأي مثير للاهتمام، بانه على عكس المزاج الذي ساد طويلاً في القرن التاسع عشر، يمكن ان تكون خصائص الثقافة "الآخرى"، بمثابة اثراء لثقافته المكتسبة. وبهذا فانه يؤكد بطريقة واخرى على أهمية "التلاقح" المعرفي، اكثر بكثير من النظر باستعلاء نحو الثقافة المختلفة، وحتى رفضها. وفي ظني، فان هذا "الدرس" التنويري والمعرفي المهم المستخلص من مقاربة كوربوزيه نحو الآخر المختلف، ابان نوعية "طينة" ذلك الشاب السويسري، وتطلعاته المخلصة في التعلم من "مرجعيات" ومصادر لم تكن مقبولة ولا متعارف عليها ابان تلك الفترة الزمنية من بدايات القرن العشرين التى نتكلم عنها.
يمكن لنا ان نتحدث كثيرا عن "دروس" (وليس درساً واحداً) عن تلك الرحلة المثيرة التى قام بها لوكوربوزيه، وما تمخض عنها من نتائج اسهمت لاحقا في تكريس مبادئ عمارة الحداثة في الخطاب المهني والمعرفي. لكن زيارته لتركيا "العثمانية" آنذاك كمحطة اخيرة في تلك الجولة الطويلة ولفته الانظار الى ما يمكن ان تقدمه "العمارة الاسلامية" (او بالاحرى "العمارة العثمانية" وهي احدى تجليات تلك العمارة المعتبرة) من معارف وتأملات وإعادة قراءة، يمكن ان يكون موضوعا معرفياً آخرا: شيقاً ومفيداً. لكننا سنكتفي الآن بعرض كتاب البروفيسور "د. أنيس قورطان" (1932) Dr. Enis Kortan، الذي اهدى لمحبي العمارة الاسلامية ومتابعي لو كوربوزيه هدية مدهشة، ومثيرة للاهتمام بجمعه في كتاب "التخطيطات" المرسومة من الطبيعة مباشرة التى عملها كوربوزيه الشاب وكذلك سرد نصوص ملاحظاته فيما يخص مشاهداته الفطنة للعمارة والعمران التركيين وقراءتهما قراءة مهنية بحيث تكون متسقة مع اشكاليات العمران والعمارة الحديثين. وقد عنون كتابه الممتع "العمارة والعمران التركيان في عيون لو كوربوزيه" Turkish Architecture and Urbanism through the Eyes of L. C. ، وصدر في 2018 بطبعته الثامنة، وبثلاث لغات: التركية والانكليزية والفرنسية؛ عن دار "بيوت" Boyut في اسطنبول (صدرت طبعة الكتاب الاول بالتركية عام 1983) . لقد اشار مؤلف الكتاب (وهو استاذ جامعي تركي <تولد 1932>، معروف على نطاق واسع في الاوساط المهنية المحلية وخارجها، وحصل على شهادته الاولى في العمارة سنة 1953 من كلية العمارة في جامعة اسطنبول التقنية، وعمل في مكتب المعمار العالمي "مارسيل برير" ثم في مكتب "سوم " SOM في نيويورك تحت إشراف "غوردن بونشافت" G. Bunshaft. كما عمل استاذا في جامعة الشرق الاوسط التقنية في انقرة ، واصبح بروفيسورا، عام 1978 ثم نال شهادة الدكتواره عام 1985. وبالاضافة الى تأليفه عدة كتب في مجال العمارة فقد شغل عميدا لمدارس معمارية تركية)؛ اشار "د. انيس قورطان" في كتابه الذي اراه مميزا، بطبعته الثالثة (1997)، من ان لو كوربوزيه "شغل مكانة بارزة في تاريخ <العمارة العالمية>، ويسعى معماريون كثر وراء فهمه مرة اخرى. كما ان طلاب العمارة يعرفون جيدا بانه من دون إدراك تام لاعماله وأفكاره فمن الصعب بمكان إجتراح عمارة ناجحة!"
يتضمن الكتاب اضافة الى المقدمة القصيرة (والكتاب يتسم بصفة الاختزال "المدرسي" لفصوله، الذي ينزع مؤلفه ان تكون تلك الخاصية حاضرة بقوة في نوعية نصوص كتابه)، فانه يشمل ايضا، وباختصار، فصلا عن "سنوات تعليم <جانيريه> الذاتية (1887 – 1911)ـ" ثم يليه فصل اخر عن "العمارة والعمران التركيان في عيون لو كوربوزيه" وهي مادة الكتاب الرئيسية ويتضمن هذا الفصل المهم التعاطي مع افكار مهنية يتوق مؤلف الكتاب ادراجها ومناقشتها مع قارئه، كمواضيع مثل "المخطط الذي يبدأ من الداخل نحو الخارج"، و"المساجد والنقاء الشكلي" و "المدينة الخضراء" و "جماليات المدن", و"بنية المدينة المورفولوجية" و "زيارة لو كوربوزيه لتركيا مرة اخرى" وغيرها من المواضيع التى تضمنها الكتاب الذي جاء بـ 156 صفحة من القطع المتوسط.
بالطبع تبقى "تخطيطات" لو كوربوزيه الاستثنائية في فنيتها واهميتها المهنية والتاريخية، تبقى من اهم "مواد" الكتاب. انها تخطيطات صافية وطازجة وهي بخطوطها المختزلة المعبرة، تشي بنشاط رسامها المفعم بالدهشة والجديد لما يحيطه ويراه من عمارة وعمران جديدين على ذائقته الفنية. انها بمثابة "وثائق" تشكيلية لمرحلة زمنية جد مهمة ان كانت لجهة العمارة ومسارتها ام لناحية التغييرات الكبرى في مفاهيم الفن ومدارسه العديدة. ونأمل ان نعود لاحقا في مقال آخر، للتوقف ملياً على دراسة نوعية تلك التخطيطات وقيمتها الفنية الكبيرة في مسار المعمار ودلالاتها في احراز نماذج عمارة الحداثة، ذلك لان مقالنا هذا مكرس، في الاساس، لعرض الكتاب اياه الى القراء وتبيان مضامينة.
ثمة نصوص في الكتاب تذكّر القراء بمقولات لو كوربوزيه التى استخلصها عبر فهمه العميق وتأويله لما يشاهد من بيئة مبنية مميزة، ومن دراسته العميقة و"حفرياته" المعرفية في كنه مخططات وجوهر عمارة تلك البيئة ومحاولة ادراك قيمتها المهنية. وتعد تلك الاقوال التى سجلها مؤلف الكتاب الى جانب تلك التخطيطات والمثبتة ايضاً في متن فصوله العديدة المختصرة، خلاصة "الدرس الكوربوزيوي" وانطباعاته عن سفرته التركية المثمرة. واذكر باني، شخصيا، كنت اعيد على مسامع طلابي لسنين عديدة مقولة لو كوربوزيه المجنحة، المستلة عن دراسات خاصة بمنجز لو كوربوزيه المعماري، والتى قالها وهو تحت تأثير مشاهداته في اقامته باسطنبول: <انتم ايها المخططون، سجلوا في دفاتركم "السيلويت" Silhouette>. وهي ذات العبارة التى سجلها مؤلف الكتاب، مستنسخا اياها من تخطيط رسمه لوكوربوزيه وهو يشاهد المنظر المدهش من شباك غرفة فندقه الاسطنبولي، عندما كتب "الاسوار البيزنطية، ومسجد السلطان أحمد، وايا صوفيا، و"السراي " الكبير ؛ هيا مخططي المدن، سجلوا في دفاتركم: " السيلويت!" (صفحة 87). يشرح مؤلف الكتاب في فصل "جماليات المدن" (ص.79 -85) مزاج لو كوربوزيه ويذكرنا بانطباعاته التى سجلها في دفتر يومياته، في نقاط محددة تدلل عن تلك الجماليات. كما يشير الى فكرة لو كوربوزيه، التى اراها جد هامة وجد آنية وواقعية عندما يقول: "اعرب لوكوربوزيه بصورة واضحة وجلية، ان على المرء ان لا يستنسخ او يقلد الاساليب المعمارية التاريخية. وسيكون خطأً فادحا اذا اعتبرنا تاريخ العمارة بمثابة "مستودع للاشكال" نستعير ما يعجبنا منه. فمثل هذة المقاربة السلبية تؤدي بالنتيجة الى ايقاف الابداع وتدهوره، مثلما تقود لا محالة الى "الرومانطيقية" الكاذبة وتكرار القديم والى التقليد فضلا على انها تدفع نحو "الاكاديمية" والى كثير من انواع الاحياء نيو – الكلاسكية". وفي نصوص كتابه الممتع يتوقف "د. انيس قورطان" مرارا وتكرارا عند تلك الافكار الطليعية التى ارتبطت باسم لو كوربوزيه واسهمت في تقدم العمارة وترسيخ مبادئها الحداثية في المشهد وفي الخطاب المهنييّن. وسنرى بان المعمار الرائد لا يتردد الى ذكر ما تعلمه من اراء وافكار عبر مشاهداته التى وفرتها له مدينة اسطنبول وعمارتها الثرية الزاخرة بالقيم الجديدة والافكار الذكية التى يمكن تأويلها وتفسيرها لتضيف اضافات لافتة الى ذخيرة الفكر المعماري الحداثي.
لقد قدم د. انيس قورطان لمحبي العمارة ومتابعي لو كوربوزيه كتابا ممتعا وشيقا وبالطبع مفيدا. انه احد الكتب التى ما فتأت تبين بان ظاهرة التلاقح الثقافي هي ظاهرة صالحة ومثمرة، وبمقدورها ان تغني بقيمها الجديدة وتضيف كثيرا الى الفكر الانساني منوعة مصادر المعرفة ومسهمة في توسيع مرجعياتها. بيد ان الامر اللافت في هذا الكتاب القيم يبقى التعرف ومشاهدة نماذج التخطيطات البارعة والماهرة التى انجزها لو كوربوزيـه، ورؤيتـها جميعاً في مـكان واحد. انه كتـاب جـدير بالقـراءة، مثلمـا هو حَرِيُّ بالمشـاهدة والاطـلاع من قبل المعماريين وطلاب العمارة وكذلك القراء المهتمين!
معمار وأكاديمي
الصور:
1- غلاف الكتاب
2- "مسجد السليمانية" (جامع سليمان القانوني) تفصيل، تخطيط لوكوربوزيه، اسطنبول، 1911.
3- شارع في اسطنبول
4- خط سماء Silhouette اسطنبول.
5- "د. انيس قورطان" (1932) Dr. Enis Kortan: مؤلف الكتاب.