كتابة - إيمان البستاني

عندما يطالعك فجأة منظر مضيف قصب يلمع كالذهب تحت أشعة الشمس، باذخ في حياكته، سعة مساحته، تكرار أقواسه ودلال قهوته الفضية، بناء لا يليق إلاّ بمضيف شيخ عمارتلي من أهوار العراق، تجده هكذا دون مقدمات وسط غابة في الولايات المتحدة الامريكية، حتى تقفز أغنية ناظم الغزالي إلى ذهنك حين تعجّب وقال (من علم الخود ضرباً بالنواقيس) لكان لسان حالك يقول ( من علم الأمريكان بناء المضايف ) وإذا أردت أن تعرف اقرأ الحكاية :

فيلادلفيا - على بعد عشرين دقيقة من الطريق الرئيسي، مروراً بملعب بيسبول وأسفل درب ترابي متعرج، يقوم فريق من المتطوعين ببناء مضيف من القصب في مساحة محاطة بأوراق الربيع الخصبة على أرض تعود ملكيتها لأسلاف (ليني لينابي ) وهم من السكان الأصليين الذين عاشوا في الولايات المتحدة وكندا.

والبناء تصميم موجود منذ آلاف السنين في بلاد ما بين النهرين يدعى (المضيف) اشتهرت به مناطق الأهوار وسط وجنوب العراق وهو الأول من نوعه في أمريكا، بفضل مبادرة لاجئ حرب عراقي والاجتماع الذي انعقد بالصدفة في محاضرة عشية حدوث الجائحة .

في صباح يوم الإثنين من شهر يونيو حين التقت (سارة كافاج ) الفنانة البصرية والمخططة الحضرية في سياتل و(يعرب العبيدي) في محاضرة استضافتها كلية مور للفنون والتصميم قبل أن تصبح عمليات الإغلاق جزءً من الحياة، كانت كافاج في فيلادلفيا للحديث عن الفراجميت غير الأصلي أو (القصب) الذي ترسخ في الساحل الشرقي في وقت ما في القرن التاسع عشر وانتشر منذ ذلك الحين في جميع أنحاء القارة الامريكية.

سعت محاضرة كافاج إلى إلقاء الضوء على القصب، ذاك النبات المتواضع حيث لاحظت بالرغم من تصنيفه في أمريكا بالمزعج بشكل رهيب تبين استخدامه في البناء وتوفير المأوى. خلال بحثها، اكتشفت كافاج المضيف، وهو أسلوب بناء شائع في جنوب العراق مبني من الألف إلى الياء باستخدام الفراجميت. تضيف كافاج: "لقد كان أحد أجمل الاستخدامات التي وجدتها."


لكنه لم يكن اكتشافاً جديداً لجميع الحاضرين (يعرب العبيدي) المحاضر السابق في التصميم الصناعي في جامعة بغداد، تخرج مؤخراً من كلية مور وقد أثار اهتمام كافاج عرضه، قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة كلاجئ في عام 2016 ، كان قد عمل مع القصب بنفسه وشاهد عن كثب المضايف الشائعة في بلده الأصلي، حيث كانت تُستخدم غالباً كمساحة احتفالية للتجمعات المجتمعية. اقترب العبيدي من كافاج بعد المحاضرة. قال لها: "أعرف ما كنت تتحدثين عنه، إنّه المضيف وأعتقد أننا سنبني واحداً هنا! "


جاء يعرب العبيدي إلى الولايات المتحدة كلاجئ في عام 2016 مع ثلاثة من أشقائه. لا يوجد الكثير من الأشخاص من أصل عراقي في منطقة فيلادلفيا، حيث أعيد توطين العبيدي في النهاية بعد فراره من العراق في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003 (بعد توقفه في سوريا وماليزيا).

وكما معروف أنّ العراقي لا يهنأ بالعيش بعيداً عن موطنه، كائن لا يحب الهجرة، ملتصق بأديمه، وإذا ما اضطر ستجده يأخذ معه قطعة من وطنه، حبله السري الذي لا ينقطع، العبيدي كانت قطعته؛ المضيف، ذاك الجزء من العراق، بناه في أمريكا حيث يقيم، لم يكن يعلم حتى التقى بكافاج أنه محاط بالقصب ومواد الخام وإمكانية تحقيق حلمه باتت محققة.

اجتماعهم في كانون الثاني / يناير أدى إلى مشروع المضيف، على مدار أسبوعين قامت كافاج والعبيدي ومجموعة من المتطوعين بالتخطيط لبناء المبنى العراقي التقليدي (المضيف) كجزء من مبادرة، التي يستضيفها مركز (سكوكل للتربية البيئية ) وما يقرب من عشرين محمية طبيعية أخرى غير ربحية، كثيرون التحقوا كمتطوعين، واحداً من المشاركين كان من كندا ؛ شاب من مقاطعة كيبك يدعى (خوزيه ) التحق بالمتطوعين في بناء المضيف اضافة الى جنسيات مختلفة ولم يغيب حضور سكنة الارض الأصليين لا في البناء ولا في الافتتاح فالرسالة كانت موجهة لهم أولًا ؛ رسالة الحب العراقية بالتعايش السلمي .

باستخدام المواد التي جمعها المتطوعون في مركز سكوكل ومن المستنقعات القريبة من محمية John Heinz National Wildlife Refuge - حوالي 1400 رطل من الفراجميت، تم تشييد المضيف بأشراف العبيدي و كافاج و بسواعد السومري الحزين (مهند) شقيق العبيدي، حيث تجده في كل الصور يشد القصب ثم يشذبه في حزمات ثم يصفها ويرّوضها لتصبح أقواساً، عمل يحتاج صبر وعزيمة وأغنية شجن عراقية بين مقاطعها وقفة لارتشاف الشاي.

كانا حريصين ابناء العبيدي على مراعاة تكنيك زخرفة حياكة القصب، للمدخل نقش يختلف عن الجدار، الجدار يختلف عن سقفه وربط الاقواس اتخذ حزم القصب هيكلية المضيف ودعاماته، بعض النقوش تشبه شبكة صيد السمك واخرى كأنها كوفية غطاء الرأس التقليدي للرجل العراقي.

المضيف ليس بناءً شاهقاً، هو من طابق واحد يلامس الأرض وكل ما تحتاجه هو القصب كما يسميه العراقيين أو الفراجميت بلغة الامريكان وهو خامة طبيعية بسيطة متوفرة ليصبح مكان لزيارات وعلاقات اجتماعية وثقافية متكاملة .

المضيف هو بيت الضيوف ومشتق من كلمة ضيف وهو قيمة عليا في حياة أهل العراق لما يجب أن يلقاه من الترحيب الحار.
المضيف هو عبارة عن مدرسة اجتماعيه مهمة يتعلم رواده الكثير من قيم المجتمع وعاداته.
المضيف هو محكمة للفصل بين الناس وحل المشاكل بالاحتكام إلى أصحاب الخبرة والحكمة .
المضيف هو المنتدى الذي يعطي مساحة لأبناء المكان بالتعبير عن آرائهم .
المضيف هو عبارة عن مكان اللقاء في الأفراح والأحزان.
المضيف هو الملاذ الآمن الذي يجد فيه الشخص صاحب الحاجة ضالته.
المضيف الذي يجد فيه الزائر الترحاب والضيافة وكل ما يحتاج إليه من طعام وشراب ولعدد غير محدود من الأيام كلما طالت كلما كان صاحب المضيف أكثر سعادة.
للمضيف قواعد يجب اتباعها أولها أن المصافحة تبدأ من اليمين وهذا من أوليات الحياة الاجتماعية داخل المضيف.

أمّا الدرس المهم الثاني فهو درس تشفير وفك الرسالة من خلال إيصال رسالة كبيرة بدون كلمات، عندما تدخل المضيف ويتم تقديم القهوة لك كترحيب بمقدمك وتكون لك حاجة أو تريد قول شئ معين فما عليك إلاّ أن تضع القهوة جانباً عندها سيفهم الجميع ان لك حاجة يجب أن تقضى وهو التقليد المتبع لأهل العراق .

تعد هذه التجربة الفريدة نجاح و تحقيق لحلم العبيدي وأشقائه بجهود سارة كافاج والمتطوعين من إيصال (رسالة القصب ) حيث أنّك بمجرد أن تشاهد المضيف أو تدخله ستصلك رسالتهم المتمثلة بالخامة وتأثيرها وما أن ينتهي البناء منه حتى يبدأ المضيف في بث رسائله.