تتجلى الجهات للعابر، المسافر كي يراها واضحة لإكمال طريقه لكنها تبقى عصيّة على الوضوح التام وكذلك هو الوصول إلى نهاية الطريق، ربما لأن الوضوح حالة كشف تعني أن الحياة الشخصية لبني البشر ليست سوى تجليات لحالات الفرح والحزن والحب والكراهية التي هي الوجود الحق كما ينوّه الكاتب عن ذلك باستعارته لقول من وليم بليك. فالحالات التي نحن مجرد تجليات عابرة لها لا تعرف معنى للنهاية والموت. الفناء نهايتنا الحتمية والموت نهاية كل حياة غير تلك الأبديّة والتي لها قوانينها المجهولة التي يعجز الكثير منّا على فهمها لمحدوديّة مداركنا التي تخضع لحركة الزمن والتاريخ الماديين المرابطين معاً.
يحاول الكاتب حسن ناصر في مجموعته القصصيّة الجديدة الصادرة عن دار خطوط وظلال للعام ألفين وواحد وعشرين أن يخلق نصاَ سرديّا خارج التسميات الشكليّة التي تحدد كل فن ابداعي بمسمى خاص ربما لأن نصوصه الجديدة مكتوبة بلغة فنيّة قائمة على التفسير والتحليل بضمير المتكلم وليس عبر الأحداث الدرامية التي تتشابك علاقاتها صعودا إلى قول المعنى من خلال سلوك الشخصيات التي تتكون منها كل قصة أو اقصوصة وفي حالة الكاتب، النصوص التي جاءت بأزمان وأمكنة مختلفة أغلبها من تجارب الماضي الذي عاشه الكاتب في فترات مختلفة ربما أصعبها لحظات المواجهة مع وجوده الذي كان من الممكن أن تنهيه الحرب الطائشة التي وجد نفسه فيها جنديا يؤدي خدمته الإلزامية مترجما بين طرفين متخاصمين لا لغة للتفاهم بينهما قساة لا يرحم أحدهما الأخر وهو العاشق للحياة الباحث عن معناها في نصوص الشعر العرفاني وتجليات المتصوفة التي يحفظ الكثير من نصوصهم.
لقد تعمّد الكاتب أن تكون شخصيات قصصه متفردة بسلوكها غير المألوف والعادي النمطي كون أغلبهم شخصيات نادرة بقلقها الوجودي المعرفي الذي يسخر من جدية ورتابة الحياة وقوانينها وأعرافها التي أرستها السلطات ومن ثم الديانات كما ورد في بعض نصوصه. هناك نصوص تخرج على التابو الديني وتنزع الى تفسير إشكالي لشخصيات دينية تاريخية كما ورد في نص " الغريب صاد" الذي يستحضر التاريخ بطريقة نقدية جريئة فيما يخص أهم شخصية في التاريخ الإسلامي. ولعل حالة التمرد والاختلاف التي يتمثلها الكاتب في نصوصه هي ما يجعل أغلب الشخصيات في نصوص الكتاب اسطورية بطريقة ما تتحرك في بيئته ومحل ولادته في مدينة العمارة جنوب العراق والتي كما يبدو شكلت بمعالمها وأناسها أول تجليات خياله وذلك بتعدد طوائفها وأديانها واسطوريتها التي تتأتى من كونها ليست مكانا واقعيا بل هي مزيج من الواقع والخيال لدى الكاتب. لنأخذ علي سبيل المثال شخصية :حسين النبي صاحب الدراجة في قصة نبي على دراجة هوائية الذي جعل منه الكاتب نبيا يتحرك بنسق أرضي مألوف في مكان وزمان معلوميين لكن بربطها بثيمة لها خصوصيّة في المكانة الدينية التاريخية المقدسة المتمثلة بالنبوة وما يرافقها من تضمينات تجعل الحدث رغم كوميديته استثنائيا يسخر بطريقته من مزيا الاصطفاء التي يجب أن تكتمل عند الشخص قبل بلوغ النبوة حسب المفهوم الديني. حيث صور الكاتب الحدث على شكل حادثة عرضيّة يمكن أن تحدث مرارا وفي أزمنة وأماكن مختلفة وحديثة. كذلك وفي نصه السردي " ضحكة في مأتم" وهي قصة حقيقية مازال أبطالها أحياء يرزقون كما يورد الكاتب لكن مغزاها يندرج ضمن معنى التجلي الذي يشتغل عليه الكتاب مجردا الموت من سعته وجبروته وبأسه من خلال الإشارة للطبيعة والأبدية الكامنة في الأحوال وفي الطبيعة ذاتها والتي يكاد هو وصديقه المعزي أن يتضاءلا بوجودهما أمام حجمها الواقعي ليكونا مجرد تجليات عابرة لن تطف عن التكرار نفسه فالحزن على الموتى مثلا يتضمن أبدية ما. وهكذا تتمثل او تستعيد النصوص محاولات ترنو إلى تفسير حيوات متصوُفة وشعراء حقيقين عاشوا في التاريخ مثل شخصية المتصوف الكبير الحلاج مؤسس الطريق الآخر للوصول إلى الحق عبر العرفان الذي أودى به إلى الصلب والشاعرين المتنبي وأبي العلاء المعري وأهميتهما كنقضين في نظرتهما للحياة التي سعى الأول لامتلاكها والآخر بالتعفف عليها بمقولة " هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد "والمطربة فيروز الذي يحاول أن يكتبها عبر حياتها مع الأخوين رحباني في اللحظة الأولى للقائهما تاركا الحديث عن أغانيها والتفاصيل التي يغرم بها الآخرون. كذلك الروائي الألماني الشهير فرانز كافكا صاحب الرواية الشهيرة: المسخ الذي يحاول الكاتب أن يشرحه بشكل نقدي يخرج فيه على السرد الحكائي القصصي المعروف في الكتابة وبعدها لا يتردد أن يتحدث عن بعض يومياته ومصادفاته في فترة من فترات حياته والتي اجتمع بها بشخصيات أدبية عراقية مرموقة لها خاصيتها الابداعية مثل الشاعر والناقد الراحل الدكتور محسن اطيمش والقاص الراحل لطيف ناصر أخ الكاتب كذلك الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي أثرى حسن ناصر بالكثير من معرفته الهائلة بالشعر العالمي خاصة الروسي الذي ترجم الكثير منه للغة العربية في فترة السبعينات والثمانينات في بغداد.أمّا في المجموعة الأخرة من نصوص الكتاب (ألواح) فلعل كتابة الألواح بروح عصرها الذي يعود لحوالي ثمانية آلاف في الماضي التليد فهي بشكل عام ميزة تحسب للكاتب الذي نجح كثيرا في إدخال القارئ بلعبته مدعيا بأنها تركت بحوزته بعدما تخلى عنها محققها ودخل الصوفية التي جعلته يسخر من أهميتها.

وفي النهاية أريد أن أعرّج على الجملة التي وردت في قصة: غريب عند دار الأوبرا وهي كالأتي: " ألا تدرك من النظر في الصورة الآن أنك مهموم تحرم نفسك فاكهة الحاضر مشغولا بتصيحح الماضي."ما يسعى إليه الكاتب في عمله الجديد هو اعادة تدوين لمعرفته وخبرته في هذا العالم وذلك من خلال رؤيته وسجيته التي يطلق لها العنان للخروج من نمطية الكتابة القصصية كما ذكرت في مقدمة المقالة. يتجلّى هذا خاصة في سرده لأحاديثه الواقعية الحقيقية مع زميل دراسته الايزيدي خدر في قصة: لغز الطاووس وعدي بن مسافر ومن ثم شرح الديانة الايزدية الغامضة للكثير منا وقد تحولت الكتابة هنا إلى مقالة وبحث ولا تختلف عن قصة ؛تماثيل بلا رؤوس التي يسعى الكاتب إلى ايجاد معنى واف لميزة قطع الرؤوس ولا يتوانى أن يذكر ما حدث لبلاده العراق أيام دخول عصابات داعش من القتلة والارهابين لتثبيت موقفه من الأحداث. ولعل هذا ومن معرفتي الشخصية بالكاتب يأتي من الأثر الذي تركته عليه قراءة ميلان كونديرا واهتمامه الخاص ببورخيس. ولا بد أن أشير بأن ملاحظاتي هذه مبعثها معرفتي الشخصية بالكاتب وصداقتنا التي تمتد لما يقرب الثلاثين عاما. ما أود أن أقوله هو أن الكتاب يتضمّن قصصا فيها من العمق المعرفي والطرافة والغرابة ما يثير الانبتاه مثل قصة؛ شاحنة المجانيين والخوثان وقصة: الوجود وجوهره زنجبارالتي تتميز بصدقها في الإشارة إلى أصدقاء من المثقفين والكتاب من السهل الاستدلال عليهم رغم محاولة الكتاب التعتبيم على هوياتهم الحقيقية. كذاك قصة: فيسبوك التي يحاول الكاتب توظيفها باعتبار الفيسبوك مكانا حداثويا جديدا لأرضية الكتابة التي اعتادت على مكان وزمان وأشخاص معروفين.
أرى أن الكاتب استطاع عبر اختلاف قصصه أن يكتب نصاَ مفتوحاَ ممتعا وعميقا متداخلا بين القصة القصيرة والاقصوصة واليوميات والشعر والبحث الأدبي. وهذا نمط جديد من الكتابة ربما سيكون أسلوباَ سيعتاد عليه قراؤه في المستقبل
ملبورن. ٢٠٢١