قبل دقائق.. رحلت سيدة بيتي مرافقةً رجال الإسعاف، لم أفكر بذاتي ومدى سلامتي، كنت مقتنعاً تماماً أنني معافى.. الستون التي مضت لم امرُّ بها على طبيب ولو بزيارة.. اللهم إلّا الربو الذي لم أهبه اهتماماً بالمطلق..

هُجرتُ مع صغيرتيَّ اللواتي اربكهن الوضع فبدونَ مضطربات وإن حاولن ابداء التماسك عقب أن طمأنتهن إلى أن ال "ماما" ستعود غداً بالسلامة، لحظات وانشغلن بمتابعة أفلام الرسوم المتحركة.. اندمجن مع الرسوم المتقافزة هنا وهناك بين الحقول والجبال ونسينني.. وما أسرع ما ينسى الأطفال...!!

استلقيت على سريري.. شعرت بثقل في صدري، خدرٌ في ساقيَّ، سعال متقطع وجفاف في الريق.. نهضت جاهداً التماسك.. رنوتُ إلى الغرفة الأخرى حيث الصبايا آمنات.. شعرت بثقل المسؤولية.. حسناً.. ما حصل قد حصل.. يجب أن أتغلب على الوضع الخانق.. نحن غرباء في بلد رائع لكن.. لا أقرباء حميمون ولا أصدقاء...!

غالبت إجهاد جسدي وارتفاع حرارتي بالشروع بالمسير جيئة وذهاباً مع ترديدي عبارات إيحائية إيجابية.. انا قوي.. انا قوي..أنا واثق من نفسي..أنا سعيد الحظ.. أنا محظوظ..أنا...أنا..

حين بلغت باب غرفتي، رمقت بعين تائهة ذابلة سريرنا.. اندفعت صوبه.. استلقيت ثانية.. حافظت على عينيَّ مفتوحتان.." البنات صغيرات ولا مناص من أن أحافظ على وعيي من أجلهن"..

الليل يقترب.. الصبايا جئن خلسة.. عمدن إلى تغطيتي.. قبلنني على جبهتي الساخنة.. " بابا.. هل أنت بخير؟"

-نعم ...نعم ..أنا بخير يا صديقاتي.. أنا بخير..هل أنتن جائعات؟ تطلبن شيء آخر؟

-كلا " هتفن بصوت واحد"

-حسنا ليتكم تنامون الآن..

-سنفعل يا ابي.. "هتفت الأكبر سناً"

***

رعشة باردةٌ هزّت كامل كياني..شعرت بدماغي يوشك على الانفجار..ازدحمت على شاشة الذهن حشود من الصور المتداخلة الغريبة الكثيفة.. هل غفوت.. هل أنا صاح.. لست أدرى..

" هذه المرأة.. هذه الصديقة المفترضة لزوجتي.. كم من المبالغ أخذت منّا ولم تعيدها.. اشعر أنّى أكرهها ...سنوات وهي تلاحق زوجتي، هذه العلاقة يجب أن أقف بوجهها.. إنها تستغلنا ببشاعة.. حين يكونان معاً وترغب زوجتي بشراء شيء، تشتري هي العديد من البضائع المتنوعة وتضعها مع بضائع زوجتي وتتسلل إلى الخارج.. الجشعة.. كم من المرات وهبتها زوجتي الألف والألفين ولا تردها..بل وكم من السنين ولم تعد لنا ديناً...!

" وأنتْ.. هل أعدت ما عليك من دين لأصدقائك الذين منحوك مبلغاً ليس بالقليل حين تزوجت.. سنوات ...لا.. هذا الأمر يختلف ...هم قالوا لي اوفي كل ديونك الأخرى ثم أعد لنا المبلغ.. لا بل قال كبيرهم إنها هدية زواجك.. المسألة تختلف بالكامل ...ثم.. متى نلت مالاً لأسدد ما علي.. أنا ادفع راتبي كله للإيجار ولدي ديون كثيرة للمصارف من الزواج السابق ونحن بالكاد نعيش بمخصصات الأطفال وما تكسبه زوجتي من عملها في رعاية أطفال الآخرين في بيتنا.. و."

مالكَ تقلب هذه الأمور الموجعة يا صديقي.. دعنا من هذه الثرثرة ...!!

رأسي يدور..انفاسي ثقيلة.. تتلاحق بسرعة .. يتنقل من مكان إلى آخر ثم يهبط في..

" معرة النعمان..يُسمع صوت مركبة تجهيز الماء قادمة.. يخرج الفتى ...آخر العنقود ...ابن الاثنا عشر عاماً..يخرج من بيته الطيني حاملاً جردلاً كبيراً ... تقف المركبة على بعد مائة متر أو أكثر قليلاً..ينطلق مهرولاً..تقف امه بثيابها الرثة السوداء..تتبعه عيناها وهي تدمدم بالدعاء.. تلمحه يسحب الجردل وقد امتلأ بالماء عائداً إلى البيت ...!

بضعة فتية آخرون ونسوة متشحات بالسواد يعبئن جرادلهن ويعود كُلٍ إلى كوخه ..!"

تغرورق عيوني.. تتزاحم الصور و" تأزُّ في الأفق أصوات قذائف..الأم واقفة ترتعد.. تهتف بوليدها.. "أسرع يا بني.. أسرع يا صغيري.." يتعثر الفتى بحجر.. يندلق الماء..ينهض..يقترب الصفير.. ترتج الأرض تحت قدميه.. يطير الجسد النحيل في الفضاء.. تهرول الأم .. تتعثر..تغيم عيناها.. تشد شعرها.. تصرخ بهلع " ابني.. " تتعثر..تتماسك .. تقترب.. "ابني ..ابني..حبيبي" وتلطم وجهها.. تشد شعرها.. تمزق ثيابها.. تعانق بقايا صغيرها..تطبق على وجهه..تقبله .. تمرغ شفتاها بدمه.."

و...تغيب...!!

***

اتجشأ..مرارة في فمي.. مذاقٌ كريه.. رأسي مضطرب..احسّه ثقيل..كالحجر ..

" رأسه بين يديها..ورأسها ملتحمٌ بوجهه الدامي.. كفّت عن الولولة.. ربما غابت عن الوعي أو.. وهناك في سماء الرّب يُسمع صوت نبض قلب لا زال يخفق..وئيداً يخفق..يتناهى الصوت إلى مسمع الواحد الأزلي الأبدي..

-لِم لا تهدأ يا بني.. أنت هنا في أسمى نعمة فماذا تريد...

-امي ...اريد امي...!

-امُك في عالم الأحياء يا بني.. ارتح.. ودع قلبك يغفو..

-امي يا سيدي.. لمنْ تراني اتركها.. لقد فقدت ثلاثة وأنا آخر من لديها..

-حسناً...!!

يُهمهم صوتٌ الواحد الأزلي ..حزيناً.."

يرن التلفون تلتقطه ابنتي الكبيرة:

-ماما.. كيف حالك؟ بابا.. إنه بخير ...كان متعباً وتركته ينام..هل اوقظه..

طيب.. حين ينهض..

اغلق بابٌ.. وعمَّ الهدوء ثانية.. و..

"طائرٌ كبيرٌ غريبٌ ...ما هذا.. بلى.. طائرٌ اسطوري كبير يهبط على ارض ساخنة مشبعة بالبارود.. يقترب من الجسد المعطوب ... من الآخر المستلقي فوقه..ينكمش .. يتضاءل يدس رأسه بين الجسدين المتلاحمين.. يستقر جسد المرأة على ظهره ..و..يقلع ضارباً الهواء بجناحين جبارين...!

يعبر صحاري وبحار وجبال ويهبط في ارض خضراء..قصية..!"

***

ابتسم لنفسي..أو يُخيل لي.. ربما.. اسعل قليلاً..امسح دمعة..دمعة حزن..فرح .. لست أدري..

" يلمح أحد المزارعين على البعد هيئة جسد ملقى على العشب في حقله..يدنو .. ينحني.. يلتحق به آخرون..

-منْ هذه السيدة الغريبة.. يبدو أنّها افريقية أو آسيوية.. كيف جاءت هنا؟

يجب ابلاغ البوليس..يهتف آخر.. يسارع فتى بالهرولة إلى المخفر.. تجتمع ناس كُثر..

تأتي سيارة الشرطة مرفقة بسيارة اسعاف..يهبط الطبيب يدنو من الجسد المُسجى ...يمسك المعصم ...يجس النبض.. ينطق وجهه بالبشر..إنها حية ..!

" يتسارع نبض القلب الآخر ..يهبط..النبض .. يسترخي الجسد المهشم.. ويغيب عن عالم الأحياء..الوحوش..!

***

-بابا.. صباح الخير

ونهضت وقد غمرني العرق البارد..في ذات اللحظة التي رنّ فيها التلفون

-ها حبيبتي.. صباح الخير..كيف الحال..آسف لم أتصل بك..

-انا بخير يا حبيبي.. اوكسجين طوال الليل ونمت نوماً هادئاً..كورونا يا حبيبي..عندي كرونا وأنت ..؟

-لا أدرى بالضبط..أظنني لاحقٌ بكِ..هلوسة طوال الليل وسعال واحلام غريبة ووو

-والبنات؟

-سأتصل بالإدارة المحلية وأطلب منهم اخذ البنات إلى رعاية الأطفال..

-لا.. لا.. بناتي لن يخرجوا من البيت.. اطلب منهم ان يبعثوا من يرعى البنات وهم في البيت..!

-حسناً ..حسناً..سأتصل وحالما يبعثوا من يرعى بناتي سأتصل بالأسعاف..!

أوسلو في الثالث من أكتوبر 2021