بطلب من صديق وافقتُ على الحضور كضيف في برنامج تلفزيوني يدور حول شخصية تنويرية مرت ببلادنا وأثرت فيها، أخبرني أن مكان التصوير يمكن أن أحدده، فلمعت منطقة الحديبية في ذهني مباشرة، هذا التنويري واجه مقاومة من داخل مؤسسته التي كان يديرها، ذلك أن المنتمين لتلك المؤسسة والمستفيدين مما تقدمه من خدمة لم يؤمنوا بقوة التغيير السلمي وأهميته، وليس سوى الحديبية تصلح رمزا لذلك. مع نهاية الأسبوع، وكنت في مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة اتصلت بي منسقة البرنامج وأخبرتها أنني في طريقي إلى القاهرة، وسأعود في غضون أسبوع وحينها سنتفق على التفاصيل. بعد وصولي للقاهرة بيوم واحد وصلتني رسالة من المنسقة تطلب منّي اسمي الرباعي ورقم هويتي لتقديمها لوزارة الإعلام لإجازة مشاركتي في البرنامج. كانت هذه الرسالة هي ما أعادني إلى فيلم "المرشحة المثالية" للمخرجة هيفاء المنصور، وبطولة ميلا الزهراني: بل أعادتني إلى ما هو أبعد، الأمسيات الشعرية التي رفضتُ المشاركة فيها بسبب رقم الهوية وجواز مرور الرقيب في وزارة الإعلام.

كنتُ قبل ذلك بأسبوع مسكون بآخر ملوك البابليين "نابونائيد" ونهاية الدولة البابلية بسبب مشاركتي في عمل بحثي حولها، وبعد رسالة منسقة البرنامج عدت بهدوء إلى عالم البابليين، لكن غصةً كانت تقف في الحلق حول الرقابة والإجازة وما يبتدعه الإنسان من أنظمة يصفها فرويد بأدق وصف حين يقول: "القانون شكلٌ من أشكال الإكراه الاجتماعي". نعم، يمكن للقوانين أن تنظم حياة الأفراد داخل الجماعة، ولكنها حين تتكاثر وتصبح غير مفهومة تصبح مجرد إكراهات اجتماعية هدفها السيطرة والإقصاء وكسر الآخر. هذا ما جعلني أعود لفيلم المرشحة المثالية، ما شعرت به لحظة تلقي رسالة منسقة البرنامج جعلني أشعر بما شعرت به الطبيبة في ذلك الفيلم حين وقفت أمام موظف الجوازات وهي في طريقها إلى دبي لحضور مؤتمر طبي، حين أخبرها الموظف بعدم إمكانية سفرها لعدم وجود تصريح سفر.

في رحلة العودة من القاهرة شاهدتُ الفيلم مرة أخرى، وكان قد كوّن لديّ انطباعا جيدا في المرة الأولى، لكنني هذه المرة تابعتُه من زاوية "الإكراهات الاجتماعية" التي يتم ابتكارها من أجل إقصاء فئة بعينها وكسرها والسيطرة عليها. ليست قضية المرأة وحدها ما يتحدث عنه الفيلم، بل عن قضية "الفن" في مجتمع متعصّب، وقضية الانتخاب في وسط اجتماعي أحادي. كل هذا تقدمه مخرجة الفيلم في جو من التدين "الطبيعي" لأسرة فنيّة تصوم شهر رمضان، ويذهبُ أفرادها إلى المساجد للصلاة، وينجح أفرادها في الوصول إلى أرقى مستويات التعليم، ومن أفرادها من يعمل بجهد لكسب قوته. وهي الرسالة التي يقدمها الفيلم بصورة سلسة ليتضح منها أن المشكلة دائما في الآخر الذي يحرص على بناء القوانين المكتوبة أو يقر الأعراف غير المكتوبة ليضمن سيادته كرجل أو ناخب أو متدين يحرّم الفنون أو كرقيب يجيز ويمنع. القصة التي تتكرر حتى في مشاركة تلفزيونية يجب أن تمر بقوانين الرقيب.

عدتُ للبحث في حياة "نابونائيد"، الملك الهارب إلى تيماء من مملكته، فلعل قضاؤه لعشر سنوات خارج مدينته حران ومقاطعته حضور أعياد الإله مردوخ يعدّ شكلا من أشكال هروبه من إكراهات تتعلق بإيمانه بالإله "سين" إله القمر الحراني، بعد أن احتكر رجال الدين في مملكته السرّ المقدّس ورفضوا مساعدته على إعادة بعث عقيدته الوطنية من جديد في مواجهة المعتقدات القادمة من مملكة آشور المعادية.