انطلاقا من ستينيات القرن الماضي، وحتى نهاية القرن العشرين، برز في العالم العربي مشرقا ومغربا مفكرون كبار يتميّزون بمعرفة واسعة بالثقافة الغربية، وبدقة في التحليل، وبوضوح في الرؤية، وبجرأة في نقد الأوضاع السياسية والإجتماعية والثقافية. وقد لعب هؤلاء جميعا، أدوارا هامة في تطوير الفكر العربي، وجعله مواكبا للقضايا التي تواجهها البلدان والشعوب العربية، وقادرا على تحليلها وتمحيصها بجدية وصرامة.

في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أصدر المغربي عبد الله العروي كتابين هامين هما "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، و"أزمة المثقفين العرب". وفي كلا الكتابين، حاول العروي ، اعتمادا على المناهج الفكرية والفلسفية الغربية، تحليل أسباب تخلف العرب، وبقائهم خارج التاريخ. وكان من الطبيعي أن يثير الكتابان ضجة واسعة في الأوساط الثقافية العربية في المغرب والمشرق في تلك الفترة الموسومة بالمرارة واليأس بسبب الهزيمة المهينة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب صيف 1967.

وفي نفس الفترة أيضا أصدر السوري صادق جلال العظمة كتابا بعنوان "نقد الفكر الديني" مُتضمنا نقدا شجاعا وجريئا لطغيان الدين على الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية، مبرزا التداعيات السلبية لهذه الظاهرة على جلّ المجتمعات العربية، ومحذّرا من مخاطرها الجسيمة على الحرية الفكرية. كما أصدر نفس هذا المفكر كتابا آخر انتقد فيه الأفكار الخاطئة التي يعتمد عليها القادة الفلسطينيون في معاركهم وحروبهم ضد اسرائيل، مبرزا أن مثل تلك الأفكار كانت من بين الأسباب الأساسية التي أدّت إلى الهزائم التي مني بها العرب في حروبهم مع اسرائيل. وبذلك يكون صادق جلال العظمة أول مفكر عربيّ يتجرّأ على نقد الظواهر السلبية في الثورة الفلسطينية، متحررا من العواطف، ومن الأفكار الإيديولوجية الضيقة.

وقام كل من التونسي هشام جعيط، والجزائري محمد أركون، والمغربي محمد عابد الجابري بمحاولات لإحياء الفكر الفلسفي العربي اعتمادا على التراث القديم المتمثل في أعمال ابن رشد، وابن سينا، وابن خلدون، وغيرهم. وكان الهدف الأساسي لمثل هذا الإحياء هو التصدي للفكر الأصولي الذي بدأ ينتشر بسرعة مرعبة في جميع أنحاء العالم العربي، مُعطّلا النهوض الفكري الذي كانت تطمح إليه النخب العربية مشرقا ومغربا. ومن واشنطن حيث كان يعمل أستاذا في جامعة جورج تاون المرموقة، أعاد الفلسطيني هشام شرابي تخلف العرب السياسي والفكري، وانعدام الديمقراطية في جل البلدان العربية إلى ما سماه ب "البطركية" التي تعتمدها أنظمة الحكم للسيطرة على الشعوب وعلى النخب . كما تعتمدها الحركات الأصولية لنسف كل تطلع إلى التقدم والحرية. وعلينا أن نشير أيضا إلى أن هشام شرابي كان الأ كثر عمقا في تحليل العلاقة بين الغرب والنخب المثقفة في العالم العربي.

وكان من الطبيعي أن تشيع كل هذه الأفكار، وهذه الأطروحات نقاشات حامية، وجدلا واسعا في الجامعات، ومراكز البحوث، وفي أوساط المثقفين. إلاّ أن هذه الحيوية الفكرية بدأت تفقد إشعاعها خلال العقد الأخير. فقد رحل عن الدنيا كل من محمد عابد الجابري، وهشام شرابي، ومحمد أركون، وصادق جلال العظم، ومحمد سبيلا، وهشام جعيط، في حين ما يزال عبد الله العروي رغم تقدمه في السن يطلع علينا بين وقت وآخر بأفكار تتصل بواقعنا الثقافي والسياسي والاجتماعي.

والمؤسف أن هؤلاء المفكرين الكبار لم يتركوا تلاميذ وأتباعا قادرين على مواصلة أبحاثهم، وتعميق أفكارهم وأطروحاتهم. أو أنهم تركوا تلاميذ ومريدين إلاّ أنهم لا يتمتعون بخبرتهم، وتجاربهم ومعارفهم وثقافاتهم الواسعة وأرادتهم القوية. كما أن جلّ أعمال هؤلاء تقتصر في غالب الأحيان على تفسير أفكار وأطروحات معلميهم المذكورين بحيث تكاد تكون خالية من ذلك الجديد الذي يحرك السواكن، ويكون حافزا لإثارة الجدل الفكري العميق والمفيد.

لعل في كلّ هذا ما يفسر الفراغ الفكري الذي يعيشه العرب راهنا، والذي سمح للمشعوذين وللحركات الأصولية بالبروز والانتشار لينصّيُوا أنفسهم قادة للفكر والرأي، وقوّامين على شؤون الدنيا والدين. وينكشف الخواء الفكري العربي راهنا من خلال الجوائز الكبيرة التي تمنح سنويا في مجال الدراسات إذ أن مجمل هذه الدراسات تبدو في جلها "خارجة عن الموضوع" بحيث لا نكاد نعثر على واحدة أو اثنين منها تتناول بالدرس والتحليل ظواهر ثقافية واجتماعية وسياسية في هذا البلد العربي أو ذاك، أو هي تعالج قضايا ساخنة، أو تتطرق إلى أزمات يتخبط فيها العالم العربي مشرقا ومغربا. وبحسب ما أعلم، قليلة هي الدراسات الجادة التي صدرت إلى حدّ هذه الساعة عن ما سمي "الربيع العربي"، وعن ما أفضى إليه من فوضى ومن أزمات ومن حروب أهلية ، ومن نزاعات دينية في كل البلدان التي شملها هذا "الربيع".

وعندما يغيب المفكرون الجادون والحقيقيون المسلحون بأدوات النقد الجريء فإنه يكون من الطبيعي أن تتسطح الحياة الثقافية والفكرية في بلاد العرب لتصبح مرتعا للمشعوذين وتجار الدين وباعة الكلام المنفصل عن الحياة وعن الواقع...