يشكل عنوان الديوان الرابع للشاعرة السعودية آسية العماري " تمشي خارج الورد " ( دار رواشن للنشر، الإمارات العربية المتحدة ) دلالة مبدئية على المغايرة، وانزياح الدلالة إلى فضاء آخر، كما أنه هو النقطة التواصلية الأولى التي قد يتفاعل معها القارئ أو ينزوي عنها ويفارقها، العنوان كذلك هو :" أفق توقع" بالتعبير الجيرار- جينيتي" وهو العتبة النصية الأولى، إذا ما اعتبرنا أن العنوان يشكل المهاد النصي الأول للعمل الأدبي ويخطو بنا إلى مكنوزه الداخلي.
إنّ الشاعرة آسية العماري تضيء آفاق تجربتها الشعرية بشكل دلالي متقن، فهي تعي تماما كيف تحرك أجواء قصيدتها، وكيف تصوغها بكثافتها ورؤاها، أصدرت من قبل : (بشأن وردتين، وأغاني البرطمان المالحة، ويمكن لفستان مهجور) ، ثم أخيرًا ديوانها:" تمشي خارج الورد" ، كأن للشاعرة بهذا التتابع نسق مغاير في التسمية والعنونة، وفي الأداء الشعري يمكن أن نلحظه ونرتقبه في هذا المدار الدلالي الذي يركز على الكثافة والاختزال والتكثيف، عبر ما يمكن أن نسميه ب:" كتابة الحذف" لأن الشاعر تجرد نصوصها تماما من الاستطرادات والتفاصيل لتذهب إلى التعبيرات القصيرة جدا التي تصبح فيها الكلمة طاقة مشعة حيث يتم تسليط إشعاعات الضوء القارئ عليها وقد تكتفي بمفردها أن تشكل سطرًا شعريًا لتفيض بما تكنه من معانٍ.
أفق الورد
تسمي الشاعرة ديوانها تسمية دالة :" تمشي خارج الورد" التحديد المكاني والفعل لا مندوحة عليهما في التفهّم الدلالي الأول ، فالمعنى هنا يكون جليا واضحا، بالإشارة إلى الضمير الغائب (هي) المتضمن في الفعل عبر تاء المضارعة في الفعل (تمشي) وعبر ظرف المكان (خارج) لكن تأتي كلمة (الورد) لتقلب هذا التفهّم الأوليّ ، لتمشي بنا في نطاق الاحتمالات والتأويلات.
إن المفردة نفسها مفردة حسية تقع في دائرة المحسوسات في معناها البصري والشّمّي، وفي امتشاقها سدة الجماليّ الطبيعيّ ، هذا في البعد الأول من نظرتنا لكلمة (الورد) لكن لا نتيقن تماما في ما تثيره نصوص الديوان من أبعاد رمزية أو إشارية أو استعارية للمفردة، وما قد تضفيه عليها من معانٍ أخر .
لذلك فإن قراءة نصوص الديوان هي التي قد تحدد لنا بشكل أو بآخر طريقة هذا المشي، وأفقه الدلالي كما ستبين هوية (الورد) الجمالية والدلالية معا.
إذا استغرقنا في قراءة نصوص الديوان القصيرة المحكمة التكثيف ربما نصل إلى جملة من الخواص التي تبين القيمة المثلى أو غير المثلى لمفردة (الورد) خاصة أنها تشكل دالة بارزة في الديوان باختيارها ضمن العنوان.
استهلال ذاكرة الزمن
تبدأ الشاعرة ديوانها بنص بعنوان:" الأطفال" وهو نص يستعيد لحظات الزمن الطفولية بمختلف مراميها، البراءة، الفرح، اللعب، لتومئ إلى ذاتها الشاعرة – بمعنى ما – ودخولها إلى مجال الشعر بكل فرحها الطفولي في ربط بين الكتابة الشعرية والقلب، تقول الشاعرة:
الأطفال الذين رموا حقائبهم
وتقافزوا حولي
أخبروني أنهم قرأوا قصة
التي ولدت
ولم تكن طفلة
بل شاعرة بخطأ في القلب
تنتظر طفولتها. (ص 5)
هذا الاستهلال الطفولي الذي يحققه النص ، له مراميه الدالة، فالطفولة هنا مرتبطة بالشعر وبالكتابة وبالقلب، ومرتبطة بالأنا الشاعرة، الديوان نفسه قد يكون له طفولته الأولية حال القراءة من البدء ثم ينمو تدريجيا مع كل نص. هذه الحالة تشكل أيقونة ما لشاعرة ما زالت ( تنتظر طفولتها) كأن الطفولة أيضا لم تتحقق بعد. هي في مرحلة ترقب وانتظار لهذه المرحلة التي قد تنمو مع الكلمات، هل هو نموّ تذكّر أم نموّ تخيّل، أم نموّ حالمٌ؟
لا استرابة في أن ذلك يقلنا في التو كما ذكرتُ سابقًا إلى منطقة الاحتمالات والتأويلات.
وهو الأمر الذي قد يشكل سمة جمالية بازغة من سمات الديوان بوصفه كلا.
ولعل الهاجس الزمني ، كما نرى من هذا المستهل الطفيف، هو الذي يهيمن على الفروض الجمالية المبدئية في الديوان، وهو هاجس سيقلنا معه إلى رؤى متعددة . إن هذا الهاجس يتمظهر بشكل جليّ في هذا النص القصير المحكم بتكثيفه وتجريه، تقول فيه الشاعرة في صيغة حوارية:
- كم عمركِ الآنَ ؟
- شِعري القليل .
في المستوى الأوليّ من القراءة قد نكتفي بالقول: إن هذا سؤال عادي، والإجابة قد تكون عادية أيضا: ربط العمر بالشعر ، وهو شعر قليل، والعمر قليل أيضا ، لو ربطناه بنص الاستهلال: (الأطفال) .
النص بعنوان:" كم عمرك"(1) وهو رقم (1) أي أن صيغة هذا السؤال عن العمر سوف تتكرر ، وهو ما قامت به الشاعرة بالفعل.
إن البداية بسؤال عن العمر تؤكد على يقينية حضور الهاجس الزمني لدى الشاعرة، وربطه بالشعر.
ففي هذا النصّ الفلاشيّ القصير جدا ، تختصر الشاعرة آسية العماري كل التجربة، في سطرين -كبرق طفيف- يعبران عن خلاصة الحياة الإبداعية، تقول: - كم عمركَ الآن؟ - شِعري القليلُ الإجابة لم تكن لتوصيف الزمن، ليكون جوابا رقميا، فالرقم ليس هو الجواب النهائي للعمر بل إن وراء العمر ،حياة وتجارب، ومعايشة، وذكريات وأحلام، العمر ككتاب متعدد الصفحات، هنا الشاعرة ذهبت لحياتها الأخرى، حياة الإبداع والكتابة، وجعلت من (الشعر القليل) هذه الحياة وهذا العمر. إنه ارتباط دلالي وسميولوجي ، هذّب الكلمة في سياق تصويري، وليست أية كلمة، بل إنها: الشعر.
يرتبط الشعر هنا بالحياة، بالعمر، فيضيء مواقيته من بدئها، إلى تدرج مراحل العمر ومراحل الحياة، كأن الشعر كامن في جوهر المواقيت، في اللحظات والثواني والأيام والليالي، كأنه انطلق بلا زمن ليتوج العمر بجمالياته. الحوار هنا بين الأنا والأنا الأخرى، أو بين الوعي الكامل: الوعي+اللاوعي...
- كم عمركِ الآنَ؟ - شِعري القليلْ هكذا بدا الحوار بين الأنا المنشطرة. اختارت الشاعرة الصيغة الحوارية المتسائلة، والسؤال عن العمر ربما لا يكون محببا كثيرا لدى المرأة - بشكل أو بآخر - هنا جاءت الإفادة لتذهب إلى الشعر، وفي الشعر يتجلى البوح أكثر. هي إشارة صارخة رمزية
لاستنهاض القارئ ليذهب إلى هناك، حيث التجربة الشعرية برمتها ليتعرف على هذا العمر، وهذه الحياة، ربما كل قصيدة ، عدد القصائد هي العمر، بشكل مجازي، ربما إن تجليات الحياة مضمرة في وعي الكلمات ووعي القصائد والدواوين، هنا سيكون الاكتشاف الأمثل في الحروف لا في الأرقام.
وتكرر الشاعرة آسيا العماري سؤالها الشعري الأثير : كم عمركِ؟ في ديوانها : ( تمشي خارج الورد) سبع مرات على امتداد صفحات الديوان في الصفحات :(6/ 15/31/51/66/83/114)، أي من الصفحة الأولى للديوان حتى الصفحة الأخيرة...
وإن كان الحضور الأول مسبوقا بنص بعنوان:" الأطفال" يومئ إلى البداية نفسها، إلى الشاعرة / الطفلة . إن آسية العماري بهذا التكرار لسؤال حول العمر، تفتح مجالا لتعدد الرؤية القارئة لحضور سؤالها المتكرر عبر صفحات الديوان، كأنها توزع خواصه الدلالية على مختلف النصوص الأخرى، كأنها حين تربطه بالشعر تربطه بالديوان ، كأنه هو الصيغة الدلالية الأثيرة لديها التي تريد أن تصلنا بها نصوصها. وكما ذكرت من قبل فإن العمر امتزج بالشعر ، بالحياة، وبالعكس. ولعل قراءة مثلى لمختلف الإفادات التي تجيب عن سؤال :" كم عمرك؟ " سوف يقودنا إلى الوصول إلى رؤى دالة متعددة خاصة أن الإفادات متغيرة، تربط بين حركة المشي خارج الديوان، وحركة التنقل ( أو المشي المجازي) بين صفحات الديوان، كأنها توازن وتؤالف بين الحركتين، مع قطع الوقت والزمن الذي يتنقل من مكان لمكان، ومن صفحة إلى صفحة فتتساءل عن العمر وكم مضى عليه خلال هذا التنقل؟
دلالة تكرار السؤال
إذا كانت الملامسة الشعرية لصيغة ما تتكرر في صفحات مختلفة من الديوان، فمن اليقيني أن هذه الملامسة سوف تتجدد مع كل تكرار، وأن الأداء التعبيري سوف يختلف، وإلا فلا قيمة جوهرية لهذه الملامسة ولهذا التكرار.
إن النص الشعري حين يكون مكثفا ، ومختزلا لعناصر كثيرة من الحضور المعجمي، ومتخليا عن فكرة السياق الشعري الممتد، وإضفاء العلل والبراهين والأسباب الشعرية، والاقتصار على مفردات قليلة متقشفة ، من أجل أن تشعّ أكثر حيث يتم تركيز طاقات القراءة عليها، فإن التكرار هنا لابد أن يعدنا بجديده وأن يشكل إضافة ما تنضح بها النصوص وتفيض.
وربما كان هذا هو المقصد النصي الذي تعنيه الشاعرة في تكرار سؤال:
- كم عمرك؟
هذا السؤال الذي يلتفت إلى الذات الشاعرة ، عبر بلاغة : الالتفات، ويتوجه إليها بالخطاب، هنا نتحفز لقراءة هذا التتالي التكراري المتسائل باستحضار مختلف هذه التكرارات، فتقول الشاعرة في صفحات متعددة تالية:
كم عمركِ الآنَ؟:
1- شعري القليل
2- حُبّان – والقلب حاستي – ليس أكثر / ص 15
3- في عمر طائرة بجناحين من ورقٍ
تلفتْ تحت أقدامهم
قبل أن تبدأ الطيرانْ / ص 31
4- فوق الثلاثين حزنًا / ص 51
5- تعرفه خيبة أرضعتني ، ولما تزل / ص 66
6- أكبر من وردة لم تمت تحت أقدام قاطفها / ص 83
7- لا عمر لي بعد
مازلتُ أنتظرُ الشمس والوردَ
في رحم الكادحة . / 114
تتشكل الأجوبة السبعة عبر بعد زمني، لأنه يتعلق أولا بالإفادة عن سؤال: كم عمرك؟
لقد تعلقت الإجابة الأولى بالشعر، كما ذكرنا سابقا، في الإجابة الثانية نرى أن دلالتها تذهب لفعل الحب ، فيما ذهبت الإجابة الثالثة إلى استشعار حالة الفقد والتلاشي عبر تصوير الطائرة الورقية التي تلفتْ ولم تطر، وتتوالى الإجابات في المقاطع التالية لتصور حالة الحزن والخيبة والتماوت، وفقدان الأمل، حتى تصل إلى المقطع السابع والأخير الذي ينهي الدلالة تماما :" لا عمر لي" في انتظار بزوغ الشمس والورد في رحم الكادحة ، كما تعبر الشاعرة في المقطع الأخير الذي يحتل الصفحة الأخيرة من الديوان.
هل كان الديوان بمثابة ممشى دلالي تقطعه الشاعرة بدأب، وبحرص تقني ، وتتابع وزعت فيه المقاطع المتسائلة عن العمر في صفحات الديوان، كأنها تمشي في الزمن وتتساءل بين مرحلة وأخرى عما وصلته من عمر؟ عبر خطاب الذات الشاعرة لنفسها؟
هل الزمن هو المرآة التي تتكسر عليها الأشياء، ودلالات الحب والفقد والخيبة والحزن، في انتظار مطلع بزوغ زمن آخر ، وصبح جديد من الشمس المكللة بالورد، كأن الذات الشاعرة في انتظار زمن وردي مختلف؟
إن اختيار هذه الطريقة في إزجاء دلالة كلية للديوان، تعطي أن الشاعرة لها ذهنية جمالية محددة في اصطفاء الشكلانية المثلى للديوان، وتعطي أن ثمة تصميما نوعيا مسبقا يربط ما بين:
- أولا: الهوية الدلالية للديوان ونصوصه.
- ثانيا: لمواءمة بين مسيرة قراءة الديوان من جهة، وعنوان الديوان المتضمن فعل المشي، كتبرير فني لحضور سؤال :" كم عمرك؟ " من أول الديوان لآخره.
- إن الشاعرة هنا تلعب لعبة التزمين، ولعبة الحراك الوقتيّ الذي يمضي بالوعي القارئ من أول صفحات الديوان لآخرها.
ويتشكل ديوان:" تمشي خارج الوقت" من (110) نص قصير جدا، عدا بعض النصوص التي لا تتجاوز صفحة واحدة من قطع الديوان المتوسط، والشاعرة في إيرادها هذه النصوص إنما تقيم بنية التقشف والاختزال والتكثيف، ولهذه الإقامة نوع من الحذر التعبيري، فليس بالضرورة أن يكون كل نص قصير جدا هو نص مكثف مختزل، ذلك لأن النص الذي ينطوي على ذلك لابد أن يكون مفارقا ودالا، لا تستوي هذه النصوص من وجه ة سيميولوجية ورمزية دالة ما لم تكن مشبعة بالمفارقة، أو بالانزياح، أو بالمغايرة، صادمة في سطرها الأخير أو كلمتها الأخيرة، وهو ما تقدمه الشاعرة في ديوانها بجلاء.
تتقطر النصوص عبر أجواء شعرية ترسمها قصيدة النثر الراهنة من ناحية بنوع من السياقية الدارجة في الشعر النثري الراهن، كما تتقطّر بوعي الشاعرة نفسه الذي يصبو إلى أن يضيف جديدا من خلال دمج مفارقات الذات وفقدانها مع مفارقات الآخر.
التعليقات