النقد هو قرينُ الوعي، وُلد بمولده. لكنه اثناء مساره الشائك، تحوّلَ من اداةٍ للتطور الى مصدر للازعاج وربما مدعاة للقتل والاقصاء. سنحاول في ما يلي من سطور تتبع هذا المسار.
النقدُ هو اولُ ممارسةٍ للوعي وسرُّ نشوء الانسان وتطوره. كان النقد اهم علاماتِ الافتراق عن القطيع. بهذا المعنى يكون النقدُ صانعَ الانسان، ليس بمعنى الصناعة الجسدية، بل بمعني نشوئه وارتقاءه ككائن مفكر، مفترق عن بقية المخلوقات.
تطّورَ عقلُ الانسان أولا بنقد الطريقة التي عاش بها، ثم بنقد أدواتِ ووسائلِ تعامله مع الطبيعة. ولكي يطوّع الطبيعة صار الانسانُ الخارجُ توا من رحم البدائية الى التعاملِ مع الادوات التي صنعها هو بنفسه، ثم نقدها لكي يصير الى ما هو أفضل منها. وفي علاقة حلزونية، ترافع الاثنان جدليا: من جهة وعيُ الانسان ومن جهة اخرى ادواته التي كانت في سيرورة دائمة. ورغم ان الأدوات هي نتاج درجة معينة من وعي الانسان، الا انها دارت دورتها فحسنت ادراكه لمادتها وللمحيط، فعاد على قاعدة المعرفة الجديدة المكتسبة فحسّنها مرة أخرى. وكما تتقوى العضلة حين نمارس الرياضة او حمل الاثقال او عند العمل الشاق، يتطور الدماغ بالتفكير كلما احتاج ان يتعلم أكثر وأكثر.
في مرحلة جمع القوت لم يكن الانسانُ بحاجة الى أدوات معقدة، ثم ما لبث ان احتاج الى أدوات أكثر تطورا. في مرحلة الصيد صار الانسان الى التفكير، أيٌّ من الأدواتِ هي الأكثرُ مضاءً لحماية نفسه وتحسين حصيلته من الصيد. فنقدَ الحجر الهش واستبدله بالحجر الصلب ومن الحجر الصلب انتقل الى المعادن ونقدها وشاهد أيها أكثر مرونة وقوة.
بازدياد إنتاجية العمل ثم تمايزها بين شخصٍ واخر ومجموعة وأخرى، اضمحل المجتمع المشاعي الامومي. كان هذا الطور يتميز بان الخيرات المادية يتم حوزها بواسطة القادرين والمهرة والاقوياء ولكن توزيعها يكون حسب الحاجة، فلا يمكن للصياد الماهر ان يستأثر بحصة أكثر من استهلاكه، في زمنٍ لم يتوفر فيه النقد كمعادل للقيمة ولا توفرت وسائل الخزن والتبريد.
كانت القبيلة جسدا واحدا وكل ما تملكه القبيلة يملكه الفرد والعكس صحيح. وفي نسخة ذكية من قصة روبنسن كروزو تحت عنوان "رجل يدعي جمعة" يجد الأوربي "المتحضر" المقيم على جزيرة معزولة في "جمعة" الذي أسره وسخّره لخدمته، ان لغة القبيلة البدائية التي ينتمي لها جمعة، لا تتضمن ضمائر التملك. ليس لديهم "لي"، "لك" او "لهم". "لمن هي عائدية الأطفال اذن؟" يسأله روبنسن كروزو. يجيبه جمعة: "انهم أطفال القبيلة، أطفالنا جميعا".
سادة وعبيد
على اعقاب ذلك نشأ المجتمع الطبقي، مجتمعُ السادةِ والعبيد. كان أسري الحروب يقتلون، لان المنتصرين لا يستطيعون اعالتهم. فحتى لو اجبر الاسرى على اعمال السخرة، فإنهم لن ينتجوا أكثر مما يستهلكون. لكنهم مع تطور إنتاجية العمل بواسطة الأدوات صاروا طبقة تنتج اكثر مما تستهلك حتى وان كان عملهم بالإكراه.
ومنذ تلك اللحظة، تم التأسيس لأنظمة استغلال الانسان للإنسان ودخل النقد في مرحلة جديدة، مرحلة التناقضات الاجتماعية وطرق الرؤية المختلفة والمتناحرة. انتقل النقد وعلى نطاق واسع الى مرحلة تميزت بنقد الناس للناس، بنقد المجاميع للمجاميع التي اصطفت في السلم الاجتماعي على أساس موقعها من عملية الإنتاج. فنقد الناس السياسة كطريقة لإدارة الأمور العامة، بعد ان كان النقد بدءا منحصرا بنقد الأشياء المادية. ترافق النقدُ دائما مع رؤية لبديل كمقترح لحل أفضل. ومع ان النقد بقي آليه للتطور، لكنه بات الان يتعرض لعراقيل المصالح الطبقية المتباينة، فمصالح العبيد هي ليست نفسُها مصالحَ السادة.
قد يتكفل النقد بتصحيح الموازنة بين المصالح الاجتماعية المتباينة الى حدٍ كبير وبتلطيف الصراعات. لكن ذلك كان مرهونا بعدم المساس بالهيمنة الاقتصادية والسياسية للطبقات السائدة التي ترتعب من النقد وترفض تقديم التنازلات حتى تلك التي قد تنقذ النظام نفسه. كما ان ذلك كان مرهونا أحيانا بسوء تقدير الطرف الآخر الذي يكون بالغ في تقدير قوته وقدرته على التغيير. هنا تصعب معرفة الحدود بين النقد الذي يمكن الاخذ به والنقد الذي ينبغي اقصاؤه واسكاته. على ان تعنت المالكين والحكام وأصحاب النفوذ كان في الغالب السبب الأساس الذي أدى بالنقد الى ان يصبح اداةً لتراكم النقمة وانتشار التنديد بأساليب الحكم للطبقات السائدة بما قد يؤدي الى الانفجار والصراع المسلح. يزخر التاريخ بأمثلة من ثورات العبيد. وينضم الى العبيد الكثير من "الاحرار" الساخطين والذين يعيشون على حافة الفقر حتى وان كان وضعهم القانوني يضعهم في خانة الاحرار.
وحسب ماركس لا يؤدي النقد الى نتيجة تذكر في تحسين ظروف المضطهدين، فلديه ان "القوة المادية لا تنحيها غير القوة المادية" لكنه يشير الى ان "الأفكار تتحول الى قوة مادية حين يتبناها الناس. هنا نشأت الثورات وهي شكل من اشكال النقد العنيف وكما عبر ماركس الانتقال من سلاح النقد الى نقد السلاح.
النقد السياسي والنقد الإبداعي
بموجب التقسم الاجتماعي للعمل وتعمق المعرفة تخصص أناس محددون بعملية النقد ونشأ مفهوم الناقد الادبي او الفني والذي يتوفر على أدوات تعبير ذات تخصص كما يتوفر الأطباء على مصطلحاتهم الخاصة. وبالازدياد المطرد للمعرفة طال التخصص كافة المجالات فنشأ نقد متخصص في شكل من اشكال الرسم او بأحد أساليب الشعر دون غيره. بل ظهر نقاد وكاتبو سير يتخصصون بكاتب او فنان واحد دون غيره.
ولّد النقد السياسي اشد أنواع ردود الفعل وتسبب في تصفيات الكثير من الناقدين سواء من نوع التصفية المعنوية بالإقصاء أو التجاهل او بالتصفية الجسدية. ويشهد عالمنا العشرات من عمليات الاغتيال لناقدين تجرئوا على نقد الأحزاب أو المؤسسة السياسية النافذة وتهديد مصالحها الانانية. اما على الصعيد الادبي فقد اعتبر النقد مصدرا للإزعاج والإحباط لدى الفنانين والكتاب واغلبهم يترقب اطراء يتناسب مع وجهة نظره عن نفسه.
لم يكنْ النقدُ مبرئاً من التهم وسوء الاستخدام. فبالابتعادِ عن جذورِ المنشأ، التي كما عرضنا توجهت الى تحسين الأداء البشري، طرأت على النقد الكثير من التغييرات التي اخرجته أحيانا عن مساره. لقد ارتبط النقد بالمؤسسات وبالصحافة وأجهزة الاعلام التي باتت قادرة على صناعة الذوق العام وتوجيه جمهور المتذوقين في طرقات ومسالك بعيدة عن مجرد الموقف التلقائي من الجمال. فدور النشر الكبيرة وقاعات العرض الشهيرة بما تمتلكه من نفوذ ومال تصير الى تصنيع الفنانين والكتاب والقفز بالمبيعات الى ارقام كبيرة عن طريق تحالفها مع بعض النقاد ومحرري الصحف الشهيرة.
في البلدان النامية كان النقد عرضة للذوق الشخصي الضيق وللميول وللانحيازات الأيديولوجية والطائفية والدينية والسياسية، وليس للمعايير الموضوعية. تم كثيرا التهريج لصالح فنانين وكتاب من قبل بعض الأحزاب بدونه لم يكونوا يستحقون ان يكونوا في الموقع الذي هم فيه وروعي دائما من الفنانين والكتاب أولئك المذعنين غير الناقدين.
لا يزال بإمكان النقد ان يكون مصدر بناء لو توفرت له الظروف السليمة ولو انه تجرد من الاعتبارات غير المعيارية.
ملاحظات عامة
1. مصطلح "الموضوعية" نشأ فلسفيا بادئ ذي بدء للتعبير عن وجود الأشياء والظواهر مستقلةً عن الذهن البشري وما فكرة الانسان عن الأشياء خارجه، الا ما هو منقول اليه من صورتُها بواسطة الحواس.
2. بموازاته نشأ مصطلح الحكم الموضوعي في مجال التاريخ والادب والفن والفلسفة. وهو لا يمكن ان يتحقق الا كمقاربة خاضعة دائما للتعديل.
3. في التعامل مع النتاجات الإبداعية يمكن الوصول الى مقاربة موضوعية تحتكم الى التراكم التاريخي للمنجز الإبداعي وسيرة التجديد والاصالة. هذا هو الرد على من يعتبر ان الحكم على النتاج الإبداعي هو مجرد ذوق فردي للناقد أو لهيئات التحكيم الأدبية والفنية. فهذا الذوق لم ينتج من فراغ، انما نتج عن تراكم معرفي ـ تاريخي، وليس مجرد انطباعات مزاجية.
4. لا تكون موضوعية المعايير الإبداعية، كما هو الحال في مجمل النشاط الفكر البشري، على غرار موضوعية العلوم البحتة التي تحتكم الى معايير مادية يمكن قياسها. ففلسفة الجمال والجودة والتفرد هي احكام ذاتية، ذهنية بحتة، لكن بإمكانها ان تكون موضوعية.
5. يصعب تنحية الذوق الفردي من المعيار. يصعب تجاهل الميول المرتبطة بالتعاطف مع المكان والنوستالجيا لكن معايير الابداع ينبغي ان تتجرد وتكون الحامل الوحيد للمنجز الإبداعي.
6. الدولة وفلسفتها واخلاقياتها ومؤسساتها السياسية واحزابها، كما والموروث الديني والاجتماعي، كلها موجودة ضمن اعتبارات التقييم في كل مكان، الا انها في دول الشرق وفي الدول العربية تلعب دورا حاسما يعرقل العملية الإبداعية ولا يساهم في تطورها.
التعليقات