منذ ثلاث سنوات تتداولُ الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي في رمضان خاطرةً تُنسَبُ إلى يهودي دمشقي يُدعى "عاموس" يتحدث فيها عن ذكرياته في رمضان قبل الهجرة إلى إسرائيل، ويروي صوراً جميلة ومؤثرة عن التعايش بين الدمشقيين المسلمين واليهود.

أثناء بحثي عن مصدر الخاطرة فوجِئت بأنها تُنسَب أيضاً إلى عدن ومرّات إلى ريدة في اليمن، وليس هذا ما أثار اهتمامي بها، فسهولة الانتشار والهيمنة اللتان توفّرهما منصّات التواصل الاجتماعي تغري الكثير من الناس بأخذ دور الصحافي دون مؤهلاتٍ أو مراعاةٍ لمصداقيةٍ، لكن أن تروّجَ لها ولصاحبها صحفٌ وشخصياتٌ معروفة، وتنشرها دون التحقق منهما هو ما دفعني منذ رمضان الماضي لمتابعة تحوّلاتها ومعرفة كاتبها، وقد أخذتني المفاجآت إلى مناطقَ وعرة اضطرتني أن أؤجل نشري المقالَ عاماً كاملا لأتمكن من الخروج من متاهاتها.

أطباق رمضان
يقولُ كاتب الخاطرة أنّ جيرانه الصائمين كانوا يرسلون لهم الأطباق الرمضانية وقت الإفطار، وبالمقابل لم تكن أمّه تطبخُ نهاراً حتى لا تؤذيهم بروائح الطعام، وتلزمه باحترام أقرانه وعدم الأكل والشرب أمامهم، وفي إحدى المرات اشترى له أحدهم سمبوسة، فلم يستطع مقاومتها، وتناولها في السوق، فشكاه رفاقه إلى أمه، فضربته عقاباً له على عدم احترام مشاعر الصائمين.

وقد غلبتْ على الخاطرة مشاعرُ الحنين إلى ذاك الزمن، واختتمها عاموس بإظهار أسفه وندمه على الرحيل إلى إسرائيل مرتاباً بصحة انتمائه إليها "اليوم أنا في المهجر في بلاد غير بلادي إنها إسرائيل أرض الميعاد كما أخبرني بها والدي ونحن ذاهبون إليها.. أجد نفسي اليوم غريباً بين قوم هم أصلاً ديانتهم نفس ديانتي لكن معاملتهم وأخلاقهم غير تلك التي عرفتها بين أهلي ووطني الحقيقي.. نحن هنا غرباء كرهائن في أرض ليست لنا".

من منصّات التواصل الاجتماعي إلى الصحف: سباق النشر وتعديل المنتّج
أول ما طالعني من معلومات تتعلّق بالخاطرة مقالٌ في (القدس العربي) نُشِرَ بتاريخ 8/ 1/ 2021 بعنوان "خواطر يهودية لضاحي خلفان تثير جدلاً على تويتر"، ذكر أنّ خلفان نشر الخاطرة في تغريدات متتابعة ناسباً إياها إلى اليهودي الدمشقي عاموس، وقد ركّز المقال على الأثر الذي أحدثه نشرُ خلفان لها وردودِ المعلقين عليه في التويتر بين الغضب والسخرية لما عُرف عنه من تشجيع للتطبيع، ولم يهتم كاتب المقال بالتحقق من صحة الخاطرة ونسبتها.

وأقدَمُ ظهورٍ عثرتُ عليه للخاطرة بتاريخ 23/ 9/ 2017 في صفحة (حكايات ونوادر يمنية) على الفيسبوك، وهي مخصصة للتسلية والتعريف بتراث اليمن، ويستطيع أيّ شخص أن يضيف حكاية أو طرفة دون حاجة لذكر اسمه.
نُسِبت الخاطرة إلى عاموس بن قبّاص اليمني من مدينة ريدة، وتمّت مشاركتها من الصفحة 113 مرة، فانتشرت في نفس اليوم على الانستغرام والتويتر، لكنها تختلف عن النسخة الدمشقية بأنّ عاموس اختتمها بتذكير المسلمين بأخلاقهم التي سمع "الشيخ العريفي" يتحدث عنها، كما أنه لم يذكر مكان إقامته الحالي، ولم يشِر من قريب أو بعيد إلى إسرائيل، بل إنّ المقطع الأخير "اليوم أنا في إسرائيل أرض الميعاد كما أخبرني بها والدي ونحن ذاهبون إليها أجد نفسي اليوم غريبا.." إلى آخر الخاطرة، وهو حوالي خمسة عشر سطراً، غير موجود على الإطلاق.

ظلت الخاطرة أسيرة مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن نشرتها جريدة (العربي اليوم) الإلكترونية في 18/ 5/ 2020 تحت عنوان (خواطر يهودي يمني يعيش حاليا في دولة إسرائيل)، وقد طرأ عليها أول تغير ملموس، حيث صُحّحتْ بعض الأخطاء اللغوية، وحُذفت الإشارة للعريفي وأضيف المقطع الأخير.

وسط المشاركات الكثيرة على الفيسبوك، والتي تختفي بعد مدة، لايمكننا الجزم بأنّ (العربي اليوم) من فعل كل ذلك. هذه النسخة المعدّلة نُشِرتْ بعد أيام بالتتالي في موقع (مفكرو الأمة)، والموقع الإخباري (البيادر السياسي) الصادر في القدس، و(الشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام).

بعد يوم من نشر (العربي اليوم) نسخته المعدّلة نشرتها صفحة (المدونة الثقافية)، وقد أضيفَ إلى التغيير السابق نسبتها إلى عدن، وتمت مشاركتها منها 57 مرة، وقد نَشرَ هذه النسخة (موقع إضاءات الإخباري) تحت عنوان (خواطر يهودي يمني عدني يعيش حالياً في إسرائيل) مع تقديم مناسب.

أمّا أقدم ظهور للنسخة الدمشقية فكان في موقع (عروبة الإخباري) في 13/ 7/ 2020 تحت عنوان (خواطر يهودي دمشقي يعيش حاليا في المهجر) مع ملاحظة أنه لم يذكر كلمة "إسرائيل" في المقطع الأخير، بل "فلسطين في الحقيقة". اعتمد هذه النسخة رشاد أبو داود في (الدستور) في مقال بعنوان (ناظم الغزالي في بيتنا المحتل) بعد تقديم مناسب وإشارة أنه وجدها على الفيس، أمّا (البوابة) فقد أرفقتها بصورة ضابط إسرائيلي خلفه نجمة داود، وكُتب أعلاها "اليهودي الدمشقي عاموس" رغم ملامحه الغربية واختلافه عن صور الكاتب في جميع الحسابات التي تحمل اسمه. (ملتقى العروبيين) الذي أشار أنه أخذ الخاطرة عن البوابة اكتفى بالخاطرة دون الصورة، وكذلك موقع (النهوض الإعلامي).

وهكذا انطلقت الخاطرة من سوق المقشامة في ريدة إلى سوق عدن فسوق الشاغور بدمشق، وخلال رحلتها تلك تبدلت أطباق رمضان تبعاً للسياق أو نتيجة فهمٍ خاطئ للّهجات من اللحوح (رقائق يمنية) إلى اللحوم، ومن الشربة إلى الشوربة ومن اللبنية والمحلبية إلى المهلبية. كذلك تغير المثل الشعبي "مَن خرج من جلده جيّف" إلى "من خرج من أرضه ظلم نفسه"، وربما ستحطّ الخاطرة رحالها قريباً في مصر أو العراق أو المغرب طالما هناك متطوّعون لنقلها يتّسمون بالبساطة أو بالخبث.

الكاتب بين الحقيقة والتزوير: اسم واحد ورسائل متعددة
مرحلة البحث عن عاموس بن قبّاص أصعبُ بكثير لأنّ عشرات الحسابات في التويتر والفيسبوك بذات الاسم، وكلها تزعم أنه يهودي يمني مقيم بإسرائيل ومحبّ لليمن، بالإضافة أنّ عدداً من وسائل الإعلام العربية تأخذ عنه بعض الأخبار السياسية بصفته المعروفة "يهودي يمني مقيم في إسرائيل" دون أن تميز بين الحقيقي والمزوّر، مما يزيد البلبلة والالتباس والغموض.

حسابات عاموس المزورة
يمكنُ تصنيفُ الحسابات الحاملة لاسم عاموس قباص في قسمين:
الأول موجود على الفيس والتويتر باسم (عاموس بن قبّاص آل سالم). يضم معظم الحسابات، ويتّخذ نفس صورة البروفايل غالباً.. صورة شاب في أول عمره دقيق الملامح يميزه الزنار الخاص بيهود اليمن (جديلتا الشعر المنسدلتان جانبي الوجه)، وهو مرة ينتسب إلى ريدة ومرة إلى عمران وأخرى إلى صعدة، وفي جميعها يذكر أنه يعيش في تل أبيب.

بعض هذه الحسابات توقّفَ عن النشر، وبعضها مستمرّ منذ سنوات، وأخرى جديدة ناشئة، وقد بلغ عدد متابعيه على التويتر 83 ألفا، بينما تجاوز الحساب الأقدم 107 آلاف، يليهما حساب فيسبوكي مخصص للصور والفيديوهات يتابعه أكثر من 50 ألفاً، وتقلّ عن ذلك بقية الحسابات، وغالباً ما تعرضُ نفس المنشورات بالتوازي، وفيها ينتقد عاموس بأسلوب ساخر جميع القيادات والاتجاهات السياسية في اليمن والتحالف، لكنّ كرهه الأكبر وتنديده موجَّهان للحوثيين وقادة دولة الإمارات، وقلّما انتقد حزب الإصلاح، مما جعل بعضَ متابعيه اليمنيين يعلقون بأنه إصلاحي إخواني متخفٍّ باسم يهودي، وما يزيد الشك بزيفها أنّ عاموس لم ينشر لنفسه أكثر من ثلاث صور: واحدة تجمعه بمغنٍّ يهودي، وقد اتخذها صورة بروفايل لحساب الفيسبوك البديل، واثنتين مع صديق مجهول، وهو فيهم مختلف عن الشاب في صورة بروفايل بقية الحسابات، ولم يمكننا التأكد منها. كذلك لم يقدم أيّ دليل على أنه يعيش في إسرائيل، وحتى عندما نشر فيديوهات لشوارع تل أبيب زاعماً أنه التقطها من سيارته لم يظهر فيها. أمّا متابعته التفصيلية لأخبار اليمن فتشي بأنه في قلب الأحداث، وقد أشار إلى تهكير صفحته مراراً أو إنشاء صفحات مزوّرة باسمه، مقرّاً بحساب واحد على الفيسبوك وآخر احتياطي وثالث على التويتر وقناة على اليوتيوب، وأخرى على التليغرام.
وبرأيي، طالما أنّ الحسابات تملك ذات التوجّه والروح والطابع، فلا معنى أو قيمة لادّعاءاته وتحذيراته، ولا فرقَ أن يديرها شخصٌ واحد أو أكثر، ولعله أراد بإثارة الضجيج حوله مزيداً من التمويه والإغراء والجذب.

أهمّ ما يجمعُ هذه الحسابات أنّها لا تظهر تأييداً لما تفعله إسرائيل بالفلسطينين، بل في مرات قليلة وصفها عاموس بالمحتل المعتدي، وذكر صراحة تعاطفه وتضامنه مع أهالي حيّ الجراح، وفي تغريدة في 2019 يقول "أنا يهودي ولست صهيونياً، والقدس لفلسطين ومن هنا أتضامن مع الفلسطينيين"، وهذا ما يتوافق فكرياً وإنسانياً مع الخاطرة الرمضانية المنسوبة إليه، لكنّ المفاجأة أنه لا وجود للخاطرة في أيٍّ من هذه الحسابات، بل إنّ أحد المتابعين وضعها على صفحة عاموس الرئيسة على الفيسبوك وسأله إن كان هو كاتبها، فلم يردّ وتجاهل المنشور، بالإضافة إلى أنّ منشوراته بمثابة تعليقات قصيرة ساخرة على أحداث يومية في اليمن، ولا تحتمل الطول، كما تبيّنَ أنّ جميع حساباته باستثناء واحد نشأت بعد نشر الخاطرة.

مما سبق يمكننا التأكيد أنّ صاحب هذه الحسابات لا علاقة له بالخاطرة، وهو على الأرجح ليس يهوديا كذلك، وهناك بحث جيد للباحثة ميساء شجاع الدين في (المشهد الخليجي) بعنوان "الحسابات اليهودية المستعارة" ذكرت فيه عاموس هذا، ورجّحت أنّه يمني إصلاحي معللة بأنّ الصراع السياسي في اليمن، جعل بعض اليمنيين يميلون لليهود كونهم خارج دائرة الصراع أولا، ولأنهم يمثلون جزءا من تاريخ اليمن وأصالته، خاصة أن هؤلاء متمسكين بتراثهم اليمني وتقاليدهم في إسرائيل، مشيرة في نفس الوقت إلى أنّ الحسابات اليهودية اليمنية لا تخلو من تطبيع مستتر.

حسابات عاموس الأصلية:
القسم الثاني الباقي من حسابات عاموس قبّاص يضم حسابين على الفيسبوك يحملان اسم (عاموس بن قبّاص السالمي)، نشأ ثانيهما بعد توقّف الأول، ويتخذان صورتي بروفايل مختلفتين لكن لنفس الشخص. يقدّم عاموس نفسه فيهما بأنه جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي يقيم في حيفا، وقد نشر الكثير من صوره داخل إسرائيل: في مكان عمله على أحد المعابر ممسكاً بسلاحه.. مع زملائه وأقاربه وأشقائه الشديدي الشبه به ذاكراً أسماء الجميع، متميزاً في جميع الصور بسمرته الداكنة وابتسامته القوية والزنار اليهودي اليمني. يهتمّ عاموس بالشعر النبطي ويكتبُ قصائدَ كثيرة في الحنين إلى اليمن. يشترك عاموس في هذين الحسابين مع الحسابات السابقة الزائفة بكرهه للحوثيين، وانتقاده جميعَ القيادات اليمنية، ويختلف بأنه ينتقد حزب الإصلاح، ولا يهاجم الإمارات، ولهجته في السخرية أشد لذوعة، ومنشوراته تتوزّع بين الاهتمام بالشأن اليمني والإسرائيلي بنفس الدرجة، بينما المزورة نادراً ما تُعنى بالشأن الإسرائيلي.

الحساب الأول بدأ عام 2015 ولم يُفعّل حتى 2018 واستمر إلى أيلول 2019، وكان له 15 ألف متابع، ولم يشِر لأيّ خلاف مع إسرائيل، لكنّه ذكر مرة أنه يميل للسلم، ويتمنى ألا يتحارب الإسرائيليون والفلسطينيون، وقد صرّح مرات بأنه ليس عنده أي حساب آخر لا على الفيسبوك ولا على تويتر، كما عرض صورة لأحد الحسابات السابقة التي مررنا عليها مؤكّداً أنها زائفة ومزورة باسمه، ونرى هذا صحيحا، فصاحب الحسابات السابقة كان يحذّر مراراً من صفحات زائفة باسمه دون أن يشير إلى هذا الحساب صراحة، وعلى الأغلب أنه لا يجرؤ على دخول مواجهة معه لأنّ هذا أثبت شخصيته بكثرة الصور له في إسرائيل. وبينما يذكر أنه في 2015 كان يدرس في جامعة حيفا، يتحدّث الزائف في التويتر والفيس بأنه هاجر في 2016 مستثمرا تغطية الصحافة حينها لهجرة سبعين فرداً من آل السالم إلى إسرائيل، وهم آخر يهود اليمن. المهم أنه لا أثر للخاطرة في هذه الصفحة الحقيقية أيضا.

الحساب الثاني بدأ عام 2020 أي بعد شهور من توقف الأول، ومازال مستمراً. اتخذ صورة بروفايل أخرى لكنها لنفس الشخص، مع نشره لصور جديدة تثبت ملكيته للحساب. إحدى أهم صوره في الحسابين في حفل تكريمٍ يتسلّم فيه وساماً كأفضل ثالث ضابط شرطة لعام 2018، وقد صار في هذا الحساب يعبّر عن انتمائه لإسرائيل بقوة، بل يتفاخر بانضمامه إلى جيش دفاعها، ويهدّد كل من يفكر بمهاجمتها من الفلسطينيين وغيرهم، ويمكننا تفسير ذلك بأنه في الحساب الأول كان مهاجراً من اليمن حديثاً، وانتماؤه لها أقوى خاصة أنّ يهود اليمن والشرق عامة مازالوا يُعامَلون في إسرائيل كدرجة ثانية، ومع الزمن ونجاحاته العسكرية طغى شعور الانتماء لإسرائيل، ولعلها مجرد سياسة ليتمكن في البداية من استدراج أكبر قدر من المتابعين اليمنيين إلى حسابه.

ومن الطبيعيّ ألّا أجد الخاطرة على هذه الصفحة أيضا، فطبيعة منشوراته القصيرة وأسلوبه الساخر الشديد في واقعيته وفخره بإنجازات الجيش الإسرائيلي يجعلان الخاطرة التي تمجد التسامح والتعايش الجميل أبعد ماتكون عنه، فهو كثيراً مايقول إنّ اليمن يهودية الأصل ويجب أن تعود يهودية، وإنها موطنهم الأصلي الذي طُردوا منه ويجب أن يستعيدوه يوما. أي أنّ اليمن بالنسبة له مشروع استيطان آخر كفلسطين. يقول في منشور بتاريخ 7/ 12/ 2022 "الأرض اليمنية كلها أرض يهودية وكل الدول اليمنية القديمة سبأ وحمير ومعين.. الخ يؤمنون بالديانة اليهودية لذلك الأرض أرضنا ونحن أهلها"، على علم أنّ هناك روايات متعددة وآراء متضاربة حول تاريخ الوجود اليهودي في اليمن.

رغم تملُّصِ عاموس مني مراراً بكثرة حساباته المزورة والمكررة، يمكنني التأكيد أنْ لا أثرَ للخاطرة في حسابَي عاموس الحقيقي، ولا يمكننا افتراض أنه نشرها ثم حذفها لأنها لا تتناسب أصلاً مع توجّهاته أو طبيعة منشوراته القصيرة، وعلى الأغلب لا تمتّ بصلة إلى بقية الحسابات اليمنية المزورة باسمه، فتلك وإن كانت تختفي وتظهر وتتكاثر إلا أنّها مكرّسة لشؤون اليمن الداخلية، كما أنّ معظمها ظهر بعد نشر الخاطرة، مما يوضح لِما اكتفى جميعُ من نشروها بالقول "منقولة عن عاموس"، ولم يشاركها أحد من صفحته مباشرة.

قشّة في بيدر.. متاهة الخاطرة ومتاهة يهود اليمن
في محطة البحث الأخيرة عن أصل المنشور في صفحات يهود اليمن وقنواتهم على اليوتيوب الخاصة بالتراث عثرتُ على أحاديث ومرويات كثيرة حول تعايشهم مع المسلمين وتبادل الطعام في رمضان، وفي كثير منها تتجلى نبرة الحنين إلى الماضي وأحياناً الشكوى من تهجيرهم القسري الذي دُفعوا إليه بعد قيام إسرائيل وما أسفرَ عنه من نقمة العرب عليهم، كما نعثر على تلميحات أقل باستغلال إسرائيل لهم وخطفها الآلاف من أطفالهم بعد رحلات البساط السحري من اليمن إلى إسرائيل، تلك القضية التي أظهرت ندمهم على الهجرة وعدم ثقتهم بإسرائيل، حيث ظل مصير عشرة آلاف طفل مجهولاً رغم الدعوات التي رُفعت للمحاكم والتي انتهت بإنكار الحكومة أولا، ثم اعترافها بالقضية معللة أنّ هذا ربما تمّ بمحاولات فردية من الموظفين الاجتماعيين في معسكرات اللجوء التي أقاموها ليهود اليمن.

هنا يتضح أنّ الخاطرة صُنعت مستلهَمة من أحاديث يهود اليمن عامة، وهي وإن كانت مبرّأة من أهداف التطبيع في البداية إلا أنّها باتت تُستخدم من قبل الكثيرين لهذه الغاية، لكنها لا تخصّ أحداً بعينه.. لا عاموس ولا غيره، ومن الصعب معرفة مَن نشرها في (حكايات ونوادر يمنية)، أو مَن أضاف إليها المقطع الأخير، ولمَ نسبها لعاموس، وهل هدفه تسييسها لجهة ما أو نتيجة جهل بحقيقة عاموس ومواقفه. كلّ ما نعرفه أنها مصنوعة على مراحل ومِن أكثر من شخص لغايات ما.

دور الإعلام العربي تجاه منصات التواصل الاجتماعي:
(تبعية وترويج دون تمحيص وتدقيق)

لم تكن نسبة الخاطرة بتلك الأهمية بالنسبة لي لولا أنها كشفت مدى الخلط واللبس في الصحف والمنصات الإعلامية بين عاموس الحقيقي والزائف واعتمادها إياه بكل نسخه مصدرا للمعلومات، وهذا يجعل الكثيرَ من أخبارها مزورة ولا صحة لها، عدا عن تداخل وتشوّش أفكار متباينة في الوجدان العربي كالحق الفلسطيني والإيمان بإسرائيل ثم اليمن مشروع وطن لليهود.

ليس ضاحي خلفان وحده مَن نشرَ خاطرة منسوبة لعاموس، فموقع (يمن فايب) نشر مقالا بعنوان "مغرّد إسرائيلي يكشف معلومات خطيرة عن مصنع سري أنشأته الإمارات في صربيا بالاشتراك مع إسرائيل وأمريكا" محيلاً إلى رابط حساب عاموس على تويتر. (الميدان اليمني) أيضاً صرّح في 7/ 3/ 2020 أن "مجندا بالجيش الإسرائيلي من أصول عربية يكشف هوية المسؤول الكبير الذي نقل عدوى فيروس كورونا لمحمد بن زايد". (صحافة الجديد) كتبت في 7/ 11/ 2019 "عاموس قباص آل سالم يهودي يمني شهير في إسرائيل يجلد محبي المجلس الانتقالي الجنوبي بتغريدات تموت ضحك". مقال آخر في (اليمن العربي) بعنوان "مواطن يمني في إسرائيل يكشف عن وضع اليمنيين اثناء قصف الاحتلال لغزة" بتاريخ 8/ 9/ 2019 جاء فيه "الطيران يقصف، وصواريخهم تتساقط علينا"، الملاحظ أن معظم تلك المقالات وغيرها كثير تعتمدُ في أخبارها هذه على حساب عاموس على تويتر الذي نعرف الآن أنه مزور.

(المشهد العام) عنون مقالا في 30/11/ 2018 "هكذا هدد يهودي يمني عبد الملك الحوثي"، مرفقا بصورة لعاموس من الحساب الأصلي. لقد صار عاموس قباص بنسخه الحقيقية والزائفة مصدراً للمعلومات دون أن يهتم أحد بالتمييز بينها باستثناء ميساء شجاع الدين وموقع (تحديث) الإخباري الذي أوضح في 10/4/2020 بأن وكيل وزارة الإعلام اليمنية فهد الشرفي كشف عن حقيقة الحساب الذي يحمل اسم عاموس ال قباص في تويتر بأنه يديره جماعة من الإخوان، بالإضافة إلى إشارات قليلة عابرة من أفراد على الفيسبوك.

الخاتمة.. الأفلام المسلية ليست طيبة دائما
أمّا ما ينشره عاموس الحقيقي على صفحته حين يقول في 14/ 2/ 2022 عن اليمن "هي في الأصل أرض يهودية وذُكرت في التوراة. وأبشركم أنها ستعود لأهلها ويعودون لها وهذا وعد من الرب" فلا يجب التعامل معه على أنه خيالات وطموحات فردية. عاموس يُكرَّسُ من قبل الجميع، ويأخذ الأوسمة من جيش دفاعه، ويعتمده إعلامنا كمصدر للأخبار، وتزوّرُ عشراتُ الحسابات باسمه لتموّهه أو لتستثمر موقعه، خاصة أننا نرى بين فترة وأخرى بعض الباحثين العرب كفاضل الربيعي وكمال صليبي يشيرون إلى تشابه جغرافية اليمن مع وصف التوراة لأرض الميعاد مما يثير لغطاً وشكوكاً حول اتجاهاتهم وغاياتهم، وإذا ماتذكّرنا استغلالَ إسرائيل للثقل التاريخي ليهود اليمن حين جلبتهم إلى فلسطين أولاً، والآن وهي تمنح أسماءهم لأماكن فلسطينية لتوحي بقدم يهوديتها، وكذلك إذا تذكرنا أنها خطفت أطفالهم وباعتهم لإجراء تجارب طبية، فإننا يجب ألا نستبعد أنّها وراء ما يُبثّ من ادّعاءات عن توراتية اليمن لغايات ومخطّطات استيطانية. وكأنّ ما يجري فيلم طويل تتشابك فيه ببراعة ومكرٍ تفاصيلُ من الواقع وكثيرٌ من الخيال والوهم.. كبرقٍ خاطفٍ يلوحُ وعدُ بلفور جديد يُزرع في رحم اليمن السعيد الممزّق، فلا يجزعُ أحد.
نواصل متابعة الفيلم المسلّي. إنّه زمن الشخصيات الوهمية الساخرة.. تغزونا كالأشباح عبر منافذ الإعلام والصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي. تتلاعب بنا ولا نقاوم. نستمرئ لعبة التخويف مطمئنين أنّه مجرّد فيلم لا يمسّنا بالفعل.