أثار عدد من نواب المعارضة الجزائرية، يوم الخميس الماضي، أثناء لقائهم وزير الاتصال الجزائري محمد بوسليماني تحت قبة البرلمان، قضية حرية الإعلام في الجزائر، وبخاصة ما يتصل بحرمان هؤلاء النواب والقيادات الحزبية من الظهور الإعلامي، سواء في الفضائيات أم في الصحف ومختلف وسائل الإعلام الأخرى، لمناقشة المشكلات الكبرى التي تعانيها البلاد.

ونقلت بعض الصحف التابعة للقطاع الخاص ردود الوزير الذي اعتبر، ضمناً، أن شكوى هؤلاء النواب وقيادات الأحزاب ليس لها مبرر منطقي جراء عدم "وجود أي مانع قانوني أو قرار سياسي يحرم نواب المعارضة أو القيادات الحزبية من التعبير عن آرائهم السياسية، أو حتى الخوض في القضايا الاجتماعية والاقتصادية عبر وسائل الإعلام المتاحة العمومية والخاصة".

وفي الواقع، فإن هذا السجال بين بوسليماني وبعض أعضاء البرلمان يشير إلى وجود خلاف حقيقي بينه وبين البرلمان (الغرفة السفلى)، حول مساحة حرية التعبير في الوسائل الإعلامية الجزائرية.
وفي هذا السياق، لا أحد يستطيع أن يجادل قطعاً ونهائياً بأن المسؤولين عن قطاع الإعلام الجزائري وجدوا المفتاح السحري لحل هذه المشكلة الحادة، بل إن رجال الإعلام الجزائري ونساءه صاروا بين فكي كماشة الحجر والرقابة على ما يُنشر في الصحف، أو يذاع في الإذاعة المركزية والإذاعات الجهوية أو يبث عبر القنوات التلفزيونية، وبين محاولات المسؤولين غير المدعمة بالحجة إقناع الرأي العام بوجود الحرية الإعلامية في الجزائر.

إن حرية الاعلام في الجزائر تحتاج إلى نقاش وطني واسع تشارك فيه مختلف الفاعليات وبلا إقصاء، ومن دون ذلك فإن التعددية الحزبية الجزائرية ستبقى مجرد هياكل فضفاضة.
ويرى المراقبون الإعلاميون، مثلاً، أن مؤسسة الإشهار ANP التابعة لوزارة الاتصال تساهم مساهمة لافتة للنظر في تقليم أظافر معظم، إن لم نقل جميع، وسائل الإعلام التابعة للقطاع الخاص، وذلك بواسطة حجب الدعم المالي المتمثل في مبالغ الإشهار على أي وسيلة إعلامية تجرؤ على أن تنتقد الممارسات السلبية لهذا المسؤول أو ذاك الوزير أو تلك الجهة المعينة في أعلى هرم السلطة في البلاد.

في هذا المناخ يتساءل المرء: كيف نفسر عدم امتلاك الأحزاب صحفاً يومية ومجلات أسبوعية وشهرية متطورة، عدا حزبين أو ثلاثة أحزاب كما هو الأمر مثلاً، مع حزب جبهة التحرير الوطني الموالي للسلطة ويملك يومية تقليدية هي "صوت الأحرار" التي تنفذ سياسات الموالاة وليس المعارضة، وحزب حركة مجتمع السلم الذي يملك فضائية "البلاد" وينفذ براغماتية سياسات الموالاة حيناً والمعارضة الشكلية حيناً آخر. وتتميز هذه القناة بـ"إعادة إنتاج الثقافية الإسلامية التقليدية، والتغاضي عن الأخطاء المتكررة التي يرتكبها أعضاء الجهاز التنفيذي المتمثل في الوزراء والمحافظين الولاة ورؤساء الدوائر في الجزائر العميقة".

في سياق السجال حول الرقابة التي تمارس على قطاع الإعلام وتحد بالتالي من حريته، ينتقد المراقبون الإعلاميون الجزائريون القطاع العام الرسمي جراء سيطرته الكاملة على قطاع الإذاعات الوطنية التي تنشط عبر المحافظات (الولايات)، علماً أنها الأقرب إلى واقع المواطنين ومشكلاتهم ونبض حياتهم اليومية، إذ من المفترض أن تكون شعبية وتابعة في الأغلب للقطاع الخاص، بما في ذلك روابط المجتمع المدني وهيئاته غير المروّضة سياسياً.

تنبغي الإشارة بعجالة إلى أن النظام الجزائري لم يفعّل أبداً ملف السياسات الإعلامية الذي سبق له أن أنجزه في ثمانينات القرن العشرين، بطلب من الرئيس والأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني الراحل الشاذلي بن جديد، وبإشراف لجنة التربية والثقافة والإعلام التابعة حينذاك للأمانة الدائمة للجنة المركزية، وبمشاركة إعلاميين ذوي خبرة ومنتمين إلى الصحف والإذاعة والتلفزة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني، مثل اتحاد الكتاب واتحاد الصحافيين الجزائريين وغيرهما من الاتحادات والروابط الثقافية والعلمية والمهنية والمنظمات الجماهيرية، وبخاصة تلك التي كانت تصدر المجلات والصحف، ولقد تضمنت تلك النسخة النهائية لذلك الملف جوانب مهنية وقانونية ومالية واستراتيجيات سياسية تصلح فعلاً أن تطرح للنقاش من جديد.

في ضوء ما تقدم، يبدو أن السجال الذي دار يوم الخميس الماضي بين وزير الاتصال ومجموعة من أعضاء البرلمان، الممثلين تجاوزاً لما يسمى بأحزاب المعارضة، لن يحل المشكلات التي ما فتئ يتخبط فيها الإعلام الجزائري الذي بقي ضعيف التأثير على المستوى الوطني وعلى المستولى الإقليمي والدولي.

وفي الحقيقة، فإن الجزائر لم تنجز حتى الآن الإعلام القادر على صنع الأفق الثقافي والاجتماعي والسياسي والمدني الحداثي المتميز الذي يمكن غرسه في مفاصل المجتمع الجزائري.

كما أن الوزراء الذين أسندت إليهم حقيبة الإعلام عجزوا حقاً عن إطلاق منابر إعلامية جزائرية دولية، قادرة على أن تنافس وتشكل إضافة نوعية وحضوراً فاعلاً في المشهد الإعلامي العالمي، وأن توصل بذلك إلى العالم صوت الجزائر الثقافي والفني وتجربتها التاريخية.

ويلاحظ أيضاً إخفاق الإعلام الجزائري في استقطاب تجارب وخبرات الشخصيات المعروفة بالإبداعية مغاربياً ومشرقياً ودولياً، وبخاصة في مجالات بناء رافعات العلم والفكر والاجتماع والثقافة والفنون والاقتصاد وبنيات الدولة الحديثة والمجتمع. وبسبب ذلك لم ينتفع المواطنون الجزائريون بمساهمات مثل هذه الشخصيات في التنوير الذهني والفكري والإقلاع التنموي المادي العصري.

وفي الحقيقة، فإن هذه السلبيات ترجع جذورها، مع الأسف، إلى مرحلة انفراد الحزب الواحد بواجهة الحكم والغلق الفولاذي على التعددية السياسية، ثم إلى مرحلة انفجار العشرية الدموية، الأمر الذي عمّق الأزمة بكل ذيولها وكرّس إسناد وزارة الإعلام إلى مسؤولين إداريين يعوزهم التكوين الإعلامي النظري، ويفتقدون الخبرة الإعلامية الحداثية والمنظور الحضاري ومتطلبات المثاقفة مع العالم الخارجي، فضلاً عن عدم تمييز هؤلاء بين الولاء الإعلامي للنظام الحاكم الذي يخدم المصالح الشخصية على حساب الحرية الإعلامية، والنقد الإعلامي الذي يضمن تقدم الوطن والولاء له.

إن استمرار عدم حل أوضاع الإعلاميين الجزائريين الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة جراء ضعف معاشاتهم وتفاقم معاناتهم الاجتماعية، لعب دوراً مباشراً في تحطيم روح التطوير والإبداع النقدي في مشهد الإعلام الجزائري.

ويلاحظ أيضاً أن أحزاب المعارضة لم تؤسس لنفسها المنابر الإعلامية المتنوعة على المستوى الجهوي، أي في عمق الفضاءات التي تعج بمشاغل المواطنين التي تتطلب التعبير الشعبي عنها، والتحليل النقدي الحيوي لها، ورصد كل العقبات التي تعرقل تحديث المجتمع الجزائري، ومن المدهش أن البرلمان الجزائري نفسه الذي يملك مسؤول إعلام ودائرة إعلامية خاصة به، والذي يشكو الآن من حرمان أعضائه المعارضين من المنابر الإعلامية، لم يبادر حتى الآن إلى تأسيس أي منبر إعلامي متطور خاص به، تكون مهمته نشر الدراسات والأبحاث والتحقيقات والآراء التي يمكن أن تساهم في معالجة الأزمات التي تقلق المواطنين الذين وضعوا الثقة بالنواب وأوصلوهم إلى مركز صنع القرار تحت قبة البرلمان، ولكنهم حادوا عن المهمة التي انتُخبوا من أجلها، واكتفوا بالانفراد بالمعاشات الخيالية التي تضمن لهم العيش المخملي مدى الحياة.