ينتمي كيم كي دوك (1963-2021) إلى الموجة الجديدة للسينما الكورية، وقد أسس اسمه من خلال أفلامه المثيرة للجدل، لا سيما عند نيله جائزة "الأسد الذهبي" كأفضل مخرج عن فيلمه (3Iron) في مهرجان فينيسيا السينمائي، الفيلم الذي حار النقاد في تصنيفه أو إدراجه في أي فئة من أنواع الأفلام، فهو خليط من الرومانسية والتهكم الاجتماعي والدراما في نفس الوقت.
يتحدث الفيلم عن شاب اسمه "تاي سوك" يقتحم البيوت بشكل غير قانوني، ليس لسرقتها، إنما ليعيش حياة ساكنيها لمدة محدّدة، يقوم خلالها بترتيب المنزل وتنظيف الملابس وكيها وإصلاح الأشياء العاطلة من أجهزة وسواها ثم مغادرتها كما لو أنه لم يكن هناك.
ما يقوم به "تاي سوك" هو لصق إعلانات المطاعم على مقابض أبواب البيوت من أجل لقمة العيش، فإذا بقي الإعلان ملصقاً لأيام على مقبض الباب دون أن تمسه يد، فإن ذلك هو بمثابة إشارة إلى أنه لم يعد أحد إلى المنزل بعد، ودعوة له لممارسة لعبته المفضلة وهي اقتحام ذلك المنزل.
حين يدخل "تاي سوك" تلك البيوت تتغير الأشياء فجأة، ففي إحدى اقتحاماته لتلك البيوت يعثر على امرأة تعرضت للإساءة والأذى، اسمها "سون هوا"، التي تنجذب نحوه سرعان ما تراه، كما لو أنه الطيف المخلّص المنتَظَر، وتقرر الهرب معه ومغادرة بيت الزوجية.
يتم هنا تقديم المرأة المعنّفة على أنها كائن منفي داخل منزله أشبه بطيف أو شبح امرأة منضبة عاطفياً كأنها مومياء.
الجاذبية السريعة بين "تاي سوك" و"سون هوا"، التي هي بمثابة تجاذب شخصيتين شبيهتين بطيفين أو شبحين، يوضح سبب تراجع تاي سوك بعد هروبه من المنزل وعودته ثانية حين تكشف سون هوا عن نفسها بصمت.
في عودته، يرى الزوج وهو يصفع سون هوا بعنف، فيواجهه بسلسلة من الضربات بكرة الغولف ثم الهرب مجدداً، ولكن هذه المرة برفقة سون هوا.
يواصل الاثنان اقتحام بيوت الآخرين والإقامة فيها، الأمر الذي يتطور تدريجياً إلى قصة حب غريبة دون حوار بينهما. وفي إحدى جولاتهما يعثرون على رجل مقتول في منزل ويتم القبض على تاي سوك، وتوجه إليه تهمة القتل والتعدي على ممتلكات الغير والاختطاف، في حين تعاد سون هوا إلى عهدة زوجها.
حين تعود "سون هوا" إلى زوجها يصبح "تاي سوك" السجين رقم 3904، هنا، يتم رفع الفيلم إلى درجة متسامية فائقة الأهمية وغير متوقعة لأنها تتجاوز النمط الواقعي للحياة اليومية.
زنزانة السجن التي أُلقي بها "تاي سوك" هي نسخة أخرى مختلفة من المنازل التي أبحر فيها. أي أن نمط وجوده أثناء سجنه تحثنا على استجواب واستنطاق الطرق التي نحيا بها في منازلنا والتي نعيش فيها ليس فقط باختيارنا، إنما أيضاً بالقسر.
الخطوة الأولى التي يتخذها "تاي سوك" للتغلب على القيد المفروض عليه في السجن هي ممارسة فن التخفي وصقل مهارته إلى الدرجة التي يبدو فيها غير مرئي تماماً من قبل الآخرين.
لتتبع وجهة نظر "تاي سوك" دون أن رؤيته، تم تصوير اللقطات بكاميرا محمولة باليد بحيث توحي بالإحساس بأن عين الكاميرا هي بمثابة عينه، وبأننا نشاركه طوافه دون أن نراه. بمعنى آخر، أن الناس الذين يتحرك في وسطهم يشعرون بوجوده، لكنهم لا يستطيعون رؤيته لأنه يمكن أن يوجد على مستوى غامض مع قدرته على اتخاذ شكل مادي محسوس وفق الرغبة. "سون هوا" هي الوحيدة التي يمكنها رؤيته.
عندما يتم لم شملهما في المنزل، تحدد "سون هوا" مكان وخطى "تاي سوك" عبر المرآة، التي تعكس صورتها وهي تمد يديها لتلمسه.
"سون هوا" تبدأ في تقبّل الزوج المستبد الذي يسيء معاملتها فقط لأن "تاي سوك" موجود معها أيضاً. عندما تقول "أنا أحبك" لا نعرف مَن تخاطب: "تاي سوك" (الطيف) أم الزوج الذي ينعم باستعادة حياته الزوجية؟
التعليق الذي كتبه Chuang-Tzu يجعلنا نتساءل: هل أن "تاي سوك" قد مات جسداً وما نراه أمامنا ليس سوى روحه فقط. ربما الصورة النهائية لـ "تاي سوك" و"سون هوا" تقودنا إلى الاعتقاد بأن "تاي سوك" ربما قد منح قدراته لـ "سون هوا" لتنضم إلى وجوده الطيفي.
الفيلم ينتهي بعبارة مأثورة تقول: "من الصعب القول إن العالم الذي نعيش فيه هو واقع أم حلم". وهذا الأمر ملتبس بلا شك، يشرع الباب لقراءات وتأويلات مختلفة، فيمكن رؤية ما يحدث بوصفه ثمرة لخيال امرأة تتعرض للإساءة وتحلم بمن يأتي لينقذها من جحيمها المنزلي؟ ويمكن أن يكون أيضاً ثمرة خيال فتىً يلعب دور المخلّص ورغبة منه في أن يدخل يوما ما لأحد البيوت الخالية من ساكنيها ليعثر على شخص غير سعيد يستطيع أن ينقذه. وتلك ممكن أن تكون هي رغبته الخاصة.
أمر آخر، غير مستبعد أيضاً، أن يكون هو ثمرة خيال الزوج نفسه. وبهذا يمكن القول إن ثمة طرق كثيرة لقراءة هذا الفيلم.
بيوتنا خالية ومغلقة تنتظر من يحطم أقفالها ويحررنا
في ما يلي، نص المقابلة:
يتضمن فيلم «3Iron» (*) ثلاثة فصول، وقد أصبح جلياً تعليل تقسيمك الفيلم إلى فصول في أفلامك الأخيرة لاسيما فيلم «الفتاة السامرية» وفيلم «الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء، ثم الربيع...» إلى وجود العناوين الداخلية التي تتخلل الفيلم. أما في فيلمك «الجزيرة» فإنني أرى أن كل مشهد من سُفن الصيد يكاد يشبه الفصل أيضاً.
هذا صحيح. الفصل الأول من فيلم «3Iron» يتحدث عن البيوت الخالية من ساكنيها والتي يتم اكتشافها من قبل شخصية الفيلم الرئيسية "تاي سوك". أما الفصل الثاني فهو يصور "تاي سوك" وهو يتدرب على فن الاختفاء أثناء وجوده في السجن من دون أن يتم اكتشافه. أما الفصل الأخير فهو حين يتحول "تاي سوك" إلى شخصية غير مرئية حيث يدخل البيوت بالرغم من وجود ساكنيها.
الغرض من تقسيمي الفيلم إلى ثلاث مستويات هو إقناع المتفرج بشكل تدريجي ومساعدته على التفكير والقول: «آه، قد يكون هذا ممكناً».
لقد أردت من خلال هذه القصص المجزّئة وخلال الفيلم نفسه إظهار أن الحدود بين الواقع والخيال يمكن أن تكون غائمة تماماً.
إنّ مشهد السجن مشهداً جميلاً لا سيما حين يقوم "تاي سوك" بممارسة شبحية أو روحية للتخفي. ماذا كان هدفك الإخراجي من ذلك الجزء؟
أردت أن أتخيّل عبر الفيلم ما إذا كان بمستطاع الشخص أن يختبئ حقاً خلف شخص آخر، ومن ثم إذا كان ذلك الأمر ممكناً، عندئذ يمكن لذلك الشخص ولوج المنزل حتى بوجود ساكنيه. كان على "تاي سوك" قبل أن يحقّق هذه القدرة على التخفي، أن يتسلل إلى تلك البيوت الخالية من ساكنيها بحيث لا يمكن لأحد أن يكتشف ذلك. لكننا نراه، في الفصل الأخير من الفيلم، وهو يزور تلك البيوت الواحد تلو الآخر وبوجود ساكنيها من دون أن يبصره أحد. ولأنه قادر على ذلك، عندئذ يمكنه أخيراً دخول منزل حبيبته سون هوا. من هنا تأتي أهمية وضرورة مشهد السجن كمرحلة تمهيد لمشهد الدخول إلى منزل "سون هوا" في النهاية.
لديّ القليل من الأمور التي أود طرحها بشأن سلوك "سون هوا" كزوجة. قبل كل شيء، ما السبب وراء منعها "تاي سوك" عن ممارسة لعبة الغولف؟
لأن الأمر له علاقة بالعنف. وهكذا، وبسبب اعتراض حبيبته "سون هوا" على ممارسته لهذه اللعبة، يغيّر "تاي سوك" وجهة نظره بهذا الشأن. لو أنها لم تحاول منعه فربما لن يحدث ذلك. لكن بسبب منعها، في محاولة منها لتغيير ميوله، فإن ذلك يحدث. شيء ساخر. بوسع الأحداث أن تثبط نوايانا في بعض الأحيان. هذه هي الحياة، مهما تكن تلك النياّت طيبة.
لماذا تُحيل صورتها إلى موزاييك؟
لأنها كانت تريد الهرب من ماضيها، أن تغير صورتها بنفسها.
لقد حطمّتْ الميزان الذي قام "تاي سوك" بإصلاحه.
"سون هوا" تعتقد التالي: حين يكون الوضع عموماً معطّل وغير مرتّب أو منظّم سيكون ذلك أفضل. لذا فإن ذلك الميزان يصبح في وقت لاحق لا يعني أي شيء. على الرغم من محاولتنا لاستشفاف المعنى، لكن تلك المعاني قد تصبح غير مهمة بمرور الوقت. ربما "سون هوا" كانت على دراية بذلك، ولذلك فالوزن الحقيقي للجسم يُصبح في وقت لاحق غير مهم ولا يعني أي شيء بالنسبة لها وبالنسبة له هو أيضاً. عندئذ تنتفي وظيفة الميزان في هذه الحال.
بالنسبة لي، أحس إنها محاولة لتعزيز مخيلتها.
يمكنك أن تفسر الأمر هكذا. الدلالة يمكن أن تتغير وتتنوع بالنسبة للمتفرجين فكل حسب منظوره للأشياء.
بعد مشاهدتي الفيلم لأول مرة، اعتقدت أنه قد يكون ضرباً من مخيلة "سون هوا". وإذا كان ذلك ممكن، فيمكن أن يكون لدينا ثلاث صيغ. الفيلم منذ بدايته وحتى نهايته يمكن أن يكون برمته ثمرة لمخيلتها، أو يمكن أن يكون من بنات خيالها بعد زيارة "تاي سوك" الأولى لمنزلها، أو بعد مشهد مركز الشرطة.
كل متفرج له تأويله، وكل تأويل يمكن أن يكون صائباً. لكن بالنسبة لي، يمكن أن يكون كل ذلك هو ثمرة خيال "تاي سوك" أيضاً. الخيال يأتي من ذهن يتوق إلى أن تحقيق رغبة شخص ما في الدخول إلى منازل خالية من ساكنيها.
إنني أتساءل عن معنى الأشياء في هذا الفيلم. فهو يبدئ بلقطة تُرينا تمثال امرأة (منظوراً لها من خلال شبكة ضرب كرات الغولف)، كذلك تمثال الأسد، فهو يظهر أيضاً في مشهد الحديقة أثناء ممارسة زوج "سون هوا" للعبة الغولف. ومرة أخرى، يظهر هذان التمثالان اللذان في الخلفية حين تجلس سون هوا هي وزوجها على الأريكة في غرفة الجلوس.
(يضحك) تلك التماثيل كانت موجودة أصلاً في البيت حين قمنا بتصوير الفيلم.
هل أفهم أنك لم تهدف إلى دلالة ما من خلال ذلك؟
(يضحك) كلا، حقاً. لقد اخترت الأشياء التي أردت تصويرها وسط أشياء عديدة كانت موجودة أصلاً في المنازل التي صورنا فيها الفيلم. المنزل كان ثرياً جداً، وثمة تماثيل رخامية، اعتقدت أنها ستكون جميلة جداً في إطار الصورة تجعل من المنزل يبدو مترفاً.
لقد أحسست أن تمثال المرأة هو بمثابة صورة لـ "سون هوا".
(يبتسم) هذا شيء متروك للمُشاهد.
لا أريد أن أذهب بعيداً في التفاصيل لأجل ألا أحرم أولئك الذين لم يشاهدوا الفيلم بعد، لكن نهاية هذا الفيلم تنطوي على غرابة فكرة التعايش. ماذا تعني أمور كالبيوت، الأُسرة، الزواج، بالنسبة لك؟
إنها تشبه صنع إطار كبير لإقامة الصلات. وأعتقد أن تكون ضمن أُسرة هي عملية خوض اختبار أساسي لك كإنسان. كيف يتعامل أعضاء الأُسرة بعضهم ببعض؟ كيف يمكن الحفاظ على العلاقة تلك لفترة طويلة؟ وكيف نفهم هيكل الأُسرة الجديد حين يولد طفل لها مثلاً...؟
الاختبار يستند على أن تكون الرغبة سليمة هيكلياً بدلاً من أن تكون مفككة. أعتقد أن الأُسرة تُخضِع كل تلك الأمور لاختبار أن تكون ممكنة أو مستحيلة.
حسن إذاً، يمكن أن تكون نهاية الفيلم نوعاً من البداية الجديدة بدلاً من التفكك.
يمكن أن يكون ذلك. لكنني لست متأكداً تماماً أنَّ النهاية كانت سعيدة أو تعيسة. من وجهة نظر الزوج، هي تعيسة بالطبع، لكن من منظور الآخرين الذين أرادوا ذلك، يمكن أن تكون النهاية سعيدة. أعتقد أن المشهد الأخير هو مشهد مثير للسخرية. وهذا النوع من الحالات في الواقع يمكن التعبير عنه فقط في السينما. ومع ذلك فإن مشاهد كهذه يمكن تخيلها يوماً في بعض الأحيان كما أعتقد.
بعض المشاهد تذكرني بأفلامك السابقة (الصورة القذرة لنهر هان في فيلمك «التمساح»، والبيت المُشيّد فوق الماء في فيلم «الجزيرة» وفي فيلم «الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء، ثم الربيع...»، كذلك اسم "سون هوا" في فيلم «الفتى الشرير».. الخ). ما علاقة هذا الفيلم بأفلامك السابقة؟
ربما توجد بعض المشاهد المتشابهة فيها، والسبب واضح وهو إنني أنا من عملها. أعتقد أن هذه التماهي يدخل في موضوع الشكل أو الأسلوب، والذي عادة ما يظهر بشكل مستمر في أفلامي. ربما تكون هناك صوراً مميزة غريبة ومؤثرة في فيلم «الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء، ثم الربيع...» كما هو الحال أيضاً في فيلم «الفتى الشرير» وبقية الأفلام.
في فيلم «3Iron» ثمة أيضاً مشاهد كنت أرغب أن أعبّر من خلالها عن أفكاري بشكل أكثر إبداعاً، بطريقتي الخاصة. أعتقد أن التشابه مصدره الأسلوب الذي استخدمه عندما أقوم بإخراج الفيلم.
ما الذي أردت التعبير عنه في هذا الفيلم؟
حسناً قد نجد الإجابة على تساؤلك في الكلمات التي تقال في آخر الفيلم: «من الصعب معرفة ما إذا كان العالم الذي نعيش فيه واقعاً أم حلم». مثلما هو الحال الآن ونحن جالسين معاً في هذه الغرفة. حياتنا ليست واضحة بشأن ما هو حقيقي وما هو زائف. ليس ثمة حدود في الحقيقة بين هذين الشيئين، وهذه هي الطريقة التي نعيش فيها. ما أردت التعبير عنه هو الغموض والحيرة فيما إذا كنتُ أفعل الشيء الصحيح أم الخاطئ في هذه اللحظة.
الجدل الذي يدور في الخطاب النقدي الأخير حول أفلامك في كوريا، هو ما إذا كان "كيم كي دوك" قد تغير أم لا؟ هل تعتقد أن أفلامك قد تغيرت أو هل تعتقد أن ما تغيّر هو الخطاب النقدي المحيط بك؟
أعتقد أن النقاش والجدل هو من شأن النقاد والصحفيين. أنا لا أعرف تماماً ما الذي تغير أو هل أنا تغيرت، وهذا شيء غير مهم. ليس واضح لديَّ ما الذي تغير أو ما إذا أنا قد تغيرت.
هل لك أن تقول شيئاً عنك وعن أفلامك ونحن نختتم لقاءنا؟ ماذا يعني الإخراج بالنسبة لك؟
على الرغم من وجود أنواع عديدة من الأفلام اليوم، إلا إن أفلامي مثلاً هي ليست أفلام أكشن أو ميلودراما أو حتى تنتمي إلى سينما الفن. الانسان لا يمتلك جانباً واحداً فحسب، إنما جوانب متعددة. أنا مهتم دائماً بالجوانب المتعددة والمتنوعة الأخرى للإنسان. عمل الفيلم بالنسبة لي مثل تقشير البصل، هو عملية كشف الطبقات المتعددة للإنسان واحدة تلو الأخرى. آمل أن يستمتع الجمهور حين يرى أفلامي في التفكير أن ما يحدث أمامه هو صائب.
التعليقات