إيلاف من أصيلة: قالت لطيفة الكندوز،الباحثة المغربية المتخصصة في التاريخ المعاصر،مساء الخميس،في أصيلة:"إننا إذا كنا اليوم،نرى تعدد وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة نشرها للمعرفة على نطاق واسع،فإن ظهور الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد الألماني غوتنبرغ،قد اعتبر،حينها،ثورة في عالم التواصل، لأن الطباعة وفرت الكتب بأعداد كبيرة ساهمت في نشر العلم على نطاق واسع".

عزلة واحتراز

أشارت الكندوز، في المحاضرة التي ألقتها، ضمن برنامج محاضرات موسم أصيلة الثقافي الدولي ال45، في دورته الصيفية، تحت عنوان: "تاريخ الطباعة والنشر في المغرب"، إلى أن المغرب لم يعرف الطباعة إلا في العقد السابع من القرن الثامن عشر، أي بعد قرون من ظهورها في أوروبا، إذ غم أنه أقرب بلدإلى أوروبا، فقد كان آخر بلد في شمال إفريقيا ومن أواخر البلدان الإسلامية التي تعرفت على الطباعة.

جانب من جمهور المحاضرة

وتساءلت: لماذا تأخر دخول الطباعة إلى المغرب؟ وأضافت:" هل هي أسباب سياسية مرتبطة بسياسة العزلة التي لجأ إليها المغرب منذ بداية التحرشات الأوروبية ورفضه كل تقنية تأتيه من أوروبا، خوفا من أن تكون سببا في تسرب الاستعمار، ولذلك لجأ إلى سياسة العزلة والاحتزاز؟ أم هي أسباب اجتماعية، ترتبط بالتوجه العام في المغرب، المنبني على المحافظة على العادات والتقاليد، خصوصا في طريقة الكتابة، حيث أن المغاربة كانوا يقدسون الحرف المغربي ، ويرفضون تحويله إلى الطباعة، لأنهم كانوا يعتبرون أن هذه الآلة آتية من أوروبا، التي كانوا يعرفونها بأنها بلاد كفر، وكانوا يرون أن هذه الآلة ربما تدخل فيها مواد محرمة، فكيف بكلام الله وحديث الرسول أن يطبع بها. وذكّرت، في هذا السياق، بأن صاحب المخطوط كان يتوضأ ويصلي قبل أن يكتب القرآن والأحاديث، ولهذا كانوا يرفضون هذه التقنيةالجديدة القادمة من أوروبا.

أزمات اقتصادية

فضلا عن الأسباب السياسية والاجتماعية، تحضر الظروف الاقتصادية التي عاشها المغرب منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، إذ أنه بعد احتلال الجزائر، دخل المغرب في مصادمات مع فرنسا، أهمها حرب إيسلي في 1844، وما خلفته من أزمات اقتصادية، تلاها احتلال تطوان من طرف إسبانيا، وما أسفر عنه من تداعيات أثرت على الموارد المالية للبلاد. ولذلك لم تكن الأوضاع الاقتصادية، تضيف الكندوز، تسمح لسلاطين المغرب بالتفكير في جلب الطباعة إلى المغرب.

كتاب مخطوط

أشارت الكندوز إلى معطى آخر، يتمثل في أن صناعة الكتاب في المغرب كانت وقتها موجهة لخدمة طبقات معينة، تشمل السلاطين والعلماء والأعيان، ولهذا كان الكتاب المخطوط يكفي لتلبية حاجيات هذه الطبقات.

وتساءلت الكندوز :"لكن، هل المغاربة كانوا على جهل بالطباعة؟"، لتجيب: "أبدا". وأضافت موضحة: "وجدت معلومات تفيد بأن المغاربة كانوا على اتصال بالكتب المطبوعة، وكانوا يجلبونها من الشرق، بل كان لدى بعضهم رغبة في جلب آلة الطباعة، وأكثر من ذلك، هناك كتابات تذهب إلى أن الطباعة وجدت بالمغرب منذ القرن السادس عشر"،وأشارت،في هذا الصدد،إلى أن الطباعة وصلت إلى المغرب عن طريق اليهود المطرودين من الأندلس،مع أن هذا الرأي تتضارب حوله الآراء بين مؤيد ومعارض. فالمؤيدون يشيرون إلى أن اليهود الذين استقروا بفاس استمروا في إنتاج مطبوعاتهم، خصوصا وأنهم كانوا يعتبرون المطبعة مهمة بالنسبة لتراثهم الثقافي، لأنها حافظت لهم على كتبهم الدينية بعد التشتت الذي كانوا يعيشونه. كما أن المخطوطات غالية الثمن، ولم تكن في متناول الجميع، لذلك اعتبروا المطبعة تاج الحكمة والتقنية السماوية التي حافظت لهم على كتبهم.

وتحدثت الكندوز، في هذا السياق، عن كتاب للباحث يوسف تودغي، يتحدث فيه عن كتب طبعت بفاس في هذه المرحلة من التاريخ.

وإذا كانت هذه المعطيات تظهر تعرف المغاربة على المطبعة مبكرا، فلماذا لم يتعامل معها المغاربة؟ تساءلت الكندوز، لتقول بأن الطباعة، هنا، كانت تعني الطائفة اليهودية، والكتب التي طبعت كلها على علاقة بالديانة اليهودية، ولهذا لم يبحث المغاربة عنها.

رحلات سفارية

أشارت الكندوز إلى أن المغاربة كانت لديهم تطلعات إلى جلب آلة الطباعة، ومن ذلك ما رافق بعض الرحلات السفارية التي كان يذهب خلالها سفراء إلى أوروبا، أولها كانت في أواخر القرن السابع عشر، وهي رحلة ابن عائشة الذي أرسله السلطان مولاي إسماعيل إلى فرنسا في عهد لويس الرابع عشر لبحث العلاقات المغربية - الفرنسية، وهناك زار المطبعة التي كانت من المآثر الحضارية بالنسبة للفرنسيين، وأعجب بها المبعوث المغربي.

ورأت الكندوز أن انشغالات السلطان مولاي إسماعيل، وخصوصا في ما يتعلق بتحرير الشواطئ فضلا عن الثورات الداخلية، ربما هي التي حالت دون مبادرته بإدخال التقنية الحديثة.

وتحدثت الكندوز أيضا عن رحلة الوزير الصفار إلى فرنسا، في عهد السلطان مولاي عبد الرحمن، والتي تضمنت وصفا للمطبعة، ورحلة الوزير العمراوي إلى فرنسا، أيضا، سنة 1860، التي تضمن نصها طلبا للسلطان بتزويد البلاد بهذه الآلة.

مبادرة فردية

سردت الكندوز معطيات تبين أن دخول المطبعة إلى المغرب، أتى بمبادرة فردية من قاضي مدينة تارودانت محمد الطيب الروداني، الذي ذهب إلى الحج سنة 1864، وزار مصر، على عادة العلماء المغاربة. وأثناء رجوعه اشترى مطبعة من النوع الحجري، قبل أن يجد صعوبة في إدخالها من ميناء الصويرة، الذي ظلت عالقة به،من أغسطس 1864 إلى بداية 1865، قبل أن تنقل إلى دار المخزن( القصر الملكي) .

وتوقفت الكندوز كثيرا عند هذا المعطى، قبل أن تشير إلى أن هناك من قال إن الروداني حين وجد صعوبة في إدخال الآلة، أهداها للسلطان، لتستقر في مكناس وتنقل في وقت لاحق إلى فاس، قبل أن تتوقف سنة 1871، بفعل الأزمة الاقتصادية وعدم القدرة على تلبية متطلباتها، من حجر ومداد، وغيره، والتي كانت تستورد من الخارج، ليقتنيها الطيب الأزرق، ليتوالى بعدها إنشاء المطابع، مع الإشارة إلى مواصلة المخزن ( القصر ) حرصه على مراقبة ما ينشر، وذلك بما يمكن اعتباره "قانون الطبع".

تقليد أم تجديد

أشارت الكندوز إلى آراء حول النشاط العلمي التي تمخض عن الطباعة، ومن ذلك قول بعضهم إن التقنية هذه الحديثة لم تأت بالجديد، وأنها كرست التقليد لأنها لم تنشر الكتب الجديدة في العلوم الحديثة، وإنما الكتب التي كانت معروفة كمخطوطات.

الفنان مولاي يوسف الكهفعي يقدة الدكتورة لطيفة الكندوز

وتحدثت الكندوز، في ختام مداخلتها، عن حصيلة ما طبع، مشيرة إلى أن معظمها كتب دينية، مع ملاحظة في غاية الأهمية تتمثل في قلة الكتب المترجمة، وذلك على خلاف ما جرى في مصر على عهد محمد علي، الذي أنشأ مدرسة الألسن لترجمة المعارف الأجنبية، وما حدث في أوروبا، في بدايات عصر النهضة حيث نشطت حركة مهمة للترجمة، بشكل كبير ومؤثر على مستوى مسلسل النهضة والتحديث.