د. محمد بن سعود البدر
استطاع منتدى الرياض الاقتصادي ndash; رغم حداثة عمره الزمني ndash; أن يتحول إلى أداة فاعلة من أدوات رسم وتحديد الأولويات التنموية الاقتصادية، وصياغة أهداف اقتصادية علمية وعصرية تسعى للمساهمة في دفع مسيرة التنمية الاقتصادية المستدامة. وتمكن المنتدى بالفعل عبر دورتيه السابقتين من تشخيص العديد من القضايا والمشكلات التي يعاني منها اقتصادنا الوطني، ووضع حلول واقعية لها، وعرضها على طاولة صانع القرار لخدمة أهداف التنمية وتعزيز كفاءة الاقتصاد الوطني.
أقول هذا من واقع قربي الوثيق من هذا المنتدى، وهو لم يحقق هذا النجاح وتلك الفاعلية من فراغ، إنما توصل إليهما من خلال آلية متميزة للأداء، نتيجة جملة من العوامل التي جعلته يتبوأ تلك المكانة, أولها أنه يعتمد آلية فاعلة في تشخيص واختيار القضايا والمعضلات التي يعاني منها اقتصادنا الوطني وتتأثر بها عملية التنمية، حيث يتم اختيار القضايا من قبل تجمع ضخم من العقول والخبرات والكفاءات الاقتصادية من أكاديميين وخبراء اقتصاد ورجال وسيدات أعمال وأيضا مسؤولين حكوميين، وفي بوتقة تجمع نحو 500 شخصية من ذوي الخلفيات الاقتصادية والتجارب المميزة، وعبر مراحل متعددة من النقاش والتمحيص والدراسة الموسعة والرصينة.
ومن خلال طرح قائمة طويلة من القضايا التي يترك لكل فرد من هذا التجمع المتخصص الكبير في شؤون الاقتصاد حق اقتراح ما يراه من قضايا، يتم الاتفاق بين الجميع عبر عملية تصويت ديمقراطية رائعة على القضايا المهمة في سلم أولويات واهتمامات واقعنا الاقتصادي، ليستقر الرأي حولها لتكون هي محاور المنتدى التي سيتبناها ويدور بشأنها البحث والنقاش، بعد أن يتم تكليف دور الدراسات الاقتصادية ذات السمعة المرموقة بإجراء الدراسات المعمقة والجادة حول كل قضية من القضايا الرئيسية التي سيتبناها المنتدى.
وتخضع هذه المراحل لحلقات وورش بحث وعمل مستفيضة ومطولة ومراجعات مستمرة من قبل مجلس أمناء المنتدى وأمانته العامة وفرق العمل التي يتم تكليفها ومراجعة مختلف مراحل إعداد الدراسة، من أجل ضمان سيرها على التنسيق والجدية التي أرادها القائمون على المنتدى ووفق ما استقرت عليه رؤى التجمع الاقتصادي المتخصص الذي يمثل العقل الواعي والمفكر للمنتدى .
ولعل أبرز عوامل التشجيع والدعم للمنتدى التي أهلته لبلوغ ذلك النجاح وتبوؤ تلك المكانة، تكمن في الرعاية الكريمة التي يمنحها خادم الحرمين الشريفين رئيس المجلس الاقتصادي الملك عبد الله بن عبد العزيز ndash; حفظه الله - للمنتدى منذ انطلاقته الأولى عام 2003م، فضلاً عن حرصه ndash; أيده الله ndash; على إحالة ما خرج به المنتدى من توصيات ونتائج إلى المجلس الاقتصادي الأعلى لدراستها وتمهيد الأجواء أمام تطبيق المناسب منها، وهو ما تحقق بالفعل، حيث أسهم الكثير من توصياته في صدور أنظمة جديدة وتعديل تشريعات أخرى قائمة بما يسهم في تطوير البيئة الاقتصادية، والاستثمارية، والتنظيمية.
وكان أيضا للدعم الذي ناله منذ كان فكرة من لدن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، دوره المهم في تعزيز وتفعيل هذه المبادرة الوطنية، حيث حرص سموه على منح المنتدى شرف رئاسته له، كما هيأ سموه له كل أسباب النجاح والفاعلية، انطلاقا من نظرة سموه البعيدة والثاقبة لأهمية الدور الذي يضطلع به المنتدى كمبادرة تنسجم مع الموقع المركزي والاستراتيجي الذي تمثله مدينة الرياض باعتبارها القلب النابض للاقتصاد الوطني، كما ينسجم مع الدور الذي ينبغي أن يلعبه القطاع الخاص للاستثمار الأمثل للموارد الاقتصادية ومواجهة تحديات العولمة.
ولا يمكن إنكار الدور المميز والدعم اللامحدود الذي تقدمه الغرفة التجارية الصناعية في الرياض للمنتدى باعتبارها صاحبة هذه المبادرة الوطنية الطموحة لتشخيص أداء الاقتصاد الوطني واقتراح الحلول الواقعية والفاعلة لها، فقد سخرت الغرفة كل إمكاناتها لتمكين المنتدى من أداء عمله بكفاءة واستقلالية، وحشدت له الخبرات والكفاءات، ودعت المتخصصين الذين يسهمون في إثراء عمل المنتدى، بل لتحويله إلى مركز فكري اقتصادي دائم تستفيد منه خطط التنمية المستدامة، وتشخيص مشكلات حاضر الاقتصاد الوطني، ويبلور ويصوغ ويستشرف المستقبل، دون إغفال تأثيرات التحولات المرتقبة في الاقتصاد العالمي على الاقتصاد الوطني.
ولعل نظرة إلى محاور المنتدى الرئيسية التي سيناقشها في دورته المقبلة بعد أيام تجسد تلك المعاني وتظهر الرؤية الشفافة والنظرة البعيدة لحاضر ومستقبل اقتصادنا الوطني وضرورات تطويره وتفعيله، حيث يتضمن خمسة محاور هي:
تطوير إدارة الفوائض المالية وأساليب توظيفها، رؤية لتنمية الموارد البشرية، تكامل البنية التحتية ndash; مطلب أساس التنمية، البيئة العدلية ومتطلبات التنمية الاقتصادية، وأخيراً محور كفاءة أداء الخدمات في الأجهزة الحكومية ndash; مطلب أساس للتنمية، وكلها قضايا تمس مفاصل اقتصادنا الوطني، ونتطلع إلى خروج المنتدى بتوصيات تضيف لرصيد نجاحه الذي سجله في دورتيه السابقتين.
وما دمنا بصدد الحديث عن تطوير المنتدى ليصبح مؤسسة فكرية اقتصادية دائمة، فأود أن أطرح فكرة للنقاش العام والرأي لدى ذوي الاهتمام والاختصاص، مفادها أن المنتدى بخبراته التي تراكمت خلال السنوات الخمس من عمره يمكنه الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر استقراراً وعطاء ويكون مركزاً متطوراً ومرموقاً للبحث الاقتصادي. وأقترح أن يكون في شكل شركة يشارك في تأسيسها ملاك مراكز الدراسات الاستشارية والبحثية الخاصة، ويكون هذا المركز بمثابة ذراع بحثية للمنتدى يجري الدراسات والأبحاث الجادة التي تمكنه من تشريح الواقع الاقتصادي وصياغة أهداف اقتصادية علمية تسعى للمساهمة في دفع مسيرتنا التنموية المستدامة، وتهيئ الأرضية المناسبة للقطاع الخاص لتحقيق الأهداف التنموية. وبهذا الوضع الجديد سيكون داعماً للمراكز البحثية الخاصة ودافعاً ومحفزاً لعجلة البحث العلمي الاستراتيجي الذي هو أساس التنمية المستدامة.