د. محمد أل عباس
نعم, التضخم حالة صعبة تربك الحركة الاقتصادية، ارتفاع أسعار وصعوبات معيشية، ضغط على الشرائح البسيطة من المجتمع, لكنه مع ذلك مفيد إلى حد بعيد. ليس هذا المقال للتبرير ولا للدفاع عن التجار والمحتكرين بل هو إنذار حقيقي لهم وأن عليهم ألا يفرحوا كثيرا بارتفاع الأسعار وبالتضخم بشكل عام لأنه لا يعمل في صالحهم كما يبدو الأمر. إنني أشبه التضخم بالجوع الذي يصيب الإنسان, فهو كظاهرة غير مرغوب, ومن ذا الذي يحب الجوع, لكنه مع ذلك يعد آلية مهمة جدا لتحفيز الإنسان على العمل لتأمين الطعام. لولا الخوف من الجوع لما تطورت البشرية.
التضخم خلل يصيب الاقتصاد في أوقات معينة لأسباب بعضها معروفة وبعضها غير معروفة، فتختل بسببه التوازنات بين العرض والطلب، بين المعروض النقدي والمعروض من السلع. وبسبب هذا الاختلال ترتفع الأسعار بشكل غير متوقع وسريع للغاية حتى يصبح ndash; في حالات معينة ndash; من الصعوبة بمكان التنبؤ بحركة الأسعار في المدى القصير، وترتبك القرارات الاقتصادية وترتجف الأسواق المالية كأن كارثة توشك على أن تحل بالعالم. كل هذا شعور طبيعي تفرزه الأوقات الصعبة التي تأتي مع التضخم، ولعلنا اليوم نصارع بعضا منها وقد تأتي الأيام بالمزيد. وعلى الرغم من ذلك فليس التضخم مرا على الجميع بل هناك فئة تراه شهدا. فمع تصاعد حدة التضخم وارتفاع الأسعار هناك من يصنع منه ثروات كبيرة تشجع على تكريس الظاهرة والدفاع عن الأسعار المرتفعة. وبسبب هذه الضغوط المتراكمة يزداد الاختلال بين العرض والطلب مما يساعد على انتشار نار التضخم وازدياد لهيبها. وفي وسط تلك المعركة الدامية يحدث تحول خطير وينكشف مستور التضخم ليتحول من مشكلة إلى آلية طبيعية للتصحيح.
فمع حلول الثمانينيات من القرن الماضي أصبح من المعترف به أن التضخم قد تحول من خلل إلى آلية أساسية من آليات تصحيح عمل الاقتصاد. مع الأيام الأولى للتضخم أو قبلها بقليل وبسبب الانحرافات في آلية عمل الاقتصاد وتدفق الثروات (وأعتقد أنها حدثت لدينا بسبب التلاعب الكبير في سوق المال، أو ذلك التلاعب كان الشرارة الأولى) يتجه معدل الربح إلى الارتفاع الحاد ولكن بسبب التضخم أيضا, وعندما يصل إلى مستويات معينة يتحول إلى تصحيح للمعدلات ويبدأ ميل معدل الربح للانخفاض وتبدأ الأسعار بالتدهور، كيف؟ الرأسمالية بطبيعتها تسعى إلى تعظيم الربح، لأن الربح محفز ومشجع كاف لاستمرار العملية الاستثمارية وانتعاش الأسواق المالية وتقلص البطالة. لكن ضمان معدلات مرغوبة من الربح يرتكز على تدفق مناسب من السلع مع توافر قوة طلب قادرة على امتصاص العرض الكلي. ولكن في فترات التضخم يختل التوازن وتتجه الأسعار نحو الارتفاع، هذا الاتجاه مرغوب من الرأسمالية الاحتكارية التي تحاول استغلال الوضع من خلال السيطرة أكثر على مستويات العرض وتكشر عن أنيابها الخفية ما يسهم أكثر في الضغوط التضخمية ويتجه ميل معدل الأرباح إلى الارتفاع الحاد. وهنا ينقلب السحر على الساحر, ففي اقتصاد المنافسة والاقتصاد الحر ارتفاع ميل معدل الربح يحفز الاستثمار بشكل كبير، ويتحول التضخم إلى آلية تصحيح عندما يصبح كنز الأموال مخاطرة كبيرة لأنها تفقد قيمتها باستمرار، ما يدفع باستثمارات أكبر نحو الأسواق للاستفادة أيضا من معدلات الربح الكبيرة. هذا التدفق النقدي الاستثماري عادة ما يوجه إلى أكثر القطاعات تضخما، وهو في المقابل أقل القطاعات من جانب العرض. ولمقابلة التدفقات الاستثمارية وحفز العرض فإن الطلب يزداد على العمالة، وهكذا يبدأ التضخم في تصحيح مسار الاقتصاد عن طريق خفض مستويات البطالة. وهذا هو ما أشار إليه كنز في نظريته, فهناك علاقة عكسية بين التضخم ومعدل البطالة، فارتفاع معدل التضخم يخفض معدلات البطالة وارتفاع معدلات البطالة يخفض مستويات الأسعار. وعند ارتفاع مستويات التضخم إلى معدل معين فإن ذلك يعني الوصول إلى عمالة كاملة.
وهكذا فإن التضخم يعد ظاهرة مفيدة وتصحيحية لمسار الاقتصاد. ولسنا في ذلك بدعا من البشر، فمع ارتفاع الأسعار لدينا ترتفع معدلات الأرباح إلى درجة يمكن معها أن يحفز الاستثمار, لأن الادخار يصبح عمليا غير مجد بل مضرا, والاستثمار هو المجال الأكثر أمانا. ومع الاستثمار ستظهر شركات ومؤسسات جديدة وتتجه بشكل مباشر نحو تلك السلع الأكثر ارتفاعا في معدلات الربحية ما يسهم في زيادة المعروض حتى نقطة التوازن مع الطلب وتبدأ الأسعار في التراجع والمعروض يتجه نحو الوفرة. ومع الاستثمار وظهور شركات جديدة يتطلب الأمر عمالة أكثر مما سيسهم في تقليص معدلات البطالة, وهو أمر مهم جدا لمقابلة العرض المتزايد حتى يعود الاقتصاد إلى مرحلة التوازن مرة أخرى. ولكن كل هذه النظرية قابلة للتطبيق فقط في الاقتصاد التنافسي الحر، لكن في اقتصاد المنح والامتيازات، في اقتصاد الاحتكار والوكالات الاحتكارية، في اقتصاد الإجراءات البيروقراطية المقيتة التي تقتل طموح المستثمرين, فإن الاتجاه الطبيعي ربما يكون العكس تماما, وهو استمرار الاحتكاريين في امتيازاتهم، وهروب رأس المال نحو عملة أكثر أمنا في اقتصاد حر.

أستاذ المراجعة المساعد -جامعة الملك خالد - أبها