فاطمة مسعود المنصوري: حدثان مهمان وقعا الأسبوع الماضي في الإمارات كشفا عن توجه الدولة الحالي في كيفية التعامل مع ملف التركيبة السكانية. الحدث الأول تمثل في المبادرات التي اقترحتها اللجنة الوزارية وهي اللجنة التي تشكلت الصيف الماضي لمعالجة الخلل في التركيبة السكانية.

فقد قامت هذه اللجنة المعنية بتقديم (66) مبادرة تهدف إلى تحسين التركيبة السكانية في قطاعات مختارة من قبلها، لكن دون أن تفصح عن نوعية هذه المبادرات، أما الحدث الآخر الذي أفصح عن هم النخبة وبعض القطاعات المجتمعية إزاء ميل هرم التركيبة السكانية في غير صالح المواطنين مما ينذر بتكرار النموذج السنغافوري، فقد تمثل هذا الحدث في ملتقى الهوية الوطنية الإماراتي الذي عقد يوم الأربعاء الماضي والذي شهد إطلاق صيحات تحذيرية مهيبة من بعض المسؤولين إزاء الخلل الذي تشهده التركيبة السكانية في الإمارات.

ما بين هذين الحدثين تنقسم الآراء والتوجهات إزاء هذا الموضوع المعقد إلى تيارين، التيار الأول وهو حامل هم هذه القضية منذ ما يقارب عشرات السنين ونيف، حيث يرى هذا التيار أن موضوع الخلل في التركيبة السكانية من أكثر المواضيع هماً وأرقاً على مجتمع الإمارات، ويدعو المنخرطون في هذا التيار ليل نهار بأعلى أصواتهم وبكل ما أوتوا من قدرات وإمكانيات كتابية أو منبرية أو إدارية لضرورة إيجاد مخارج وحلول لمعالجة هذا الخلل قبل أن يتفاقم ويتطور ويأخذ أبعادا أخرى.

وأرى شخصياً بأن ما ذهبوا إليه من حزن وهم وغم له أسباب منطقية تدعوهم إلى هذا الغم، حيث تأتي الأرقام والإحصائيات الأخيرة التي تبين عدد المواطنين في الدولة، لتصب الزيت على النار، فالأرقام مخيفة بل هي ككابوس يخيم على مستقبل المواطنين في الدولة، فبعد أن كان عدد سكان الإمارات في عام 2001 حوالي 5 ,3 ملايين .

وجاءت نسبة المواطنين 20% من هذا العدد فقط، ومساهمتهم في قوة العمل وصلت إلى 7, 8% كان من المأمول في ذلك الوقت أن تصحح هذه الأرقام التي تنذر بتراجع هوية الإمارات الوطنية، إلا أن ما حدث هو العكس تماماً فقد كشفت إحصائية عام 2007 أن عدد سكان الإمارات تضاعف إلى أكثر من النصف حيث بلغ ثمانية ملايين نسمة وانخفضت نسبة المواطنين في إجمالي السكان حيث وصلت إلى 10% فقط وفي إجمالي قوة العمل إلى أقل من 5%، وأصبح عدد المواطنين 800 ألف نسمة فقط، ويكشف هذا الرقم عن واقع مؤلم حيث أصبح المواطنون أقلية في وطنهم.

ومن حق هذه الفئة كذلك أن تهتم وتنادي بأعلى صوتها بأن المنطقة تسير نحو منزلق خطير جداً فيما يتعلق بزيادة الخلل في التركيبة السكانية عندما ترى سيناريوهات المشاريع العمرانية الضخمة في الدولة التي بدت تفوق تصور المواطن والمقيم العربي العادي،.

فهذه المشاريع العمرانية تسبق استيعاب الأفراد وتطور إمكانياتهم النفسية والاجتماعية والثقافية مئات السنوات الضوئية، مما يساهم في إيجاد فجوة حضارية وتنموية كبيرة ما بين الجانبين، بالإضافة إلى أن هذه المشاريع الضخمة التي لم تعد حكراً فقط على مدن الإمارات حيث أصبحت تصدر نماذجها إلى الدول الخليجية الأخرى، تحتاج إلى المزيد من العمالة الأجنبية وخاصة الآسيوية التي بات عددها في المنطقة يصل إلى أضعاف أعداد المواطنين.

أما التيار الثاني، فهو أكثر تفاؤلاً حيال هذه القضية المعقدة، فهذا الفريق عادة ما يمثله جيل الشباب المنفتح على الآخر الذي لا يرى أن هناك خطراً من قبل الأجانب والعمالة الوافدة على ديمغرافية البلد، فعلى العكس تماماً يرى أن هذا التنوع الثقافي والعرقي واللغوي بإمكانه أن يساهم في إثراء الشخصية الوطنية ويمنحها صفة التنوع والتطور، بشرط أن يتم هذا التفاعل وفق مبادئ وثوابت الوطن وعدم الإخلال بها.


ويعذر هذا التيار برأي الشخصي فيما يذهب إليه من تصورات، فهذا الجيل قد نشأ في أحضان العولمة وتشرب من مفاهيمها التي تعني إزالة الحواجز والحدود بين شعوب العالم، فعالم التقنيات والانترنت والفضائيات وصولاً إلى النظام الدولي المتمثل في منظمة التجارة العالمية والشركات متعددة الجنسيات والبنك الدولي وغيرها من المفاهيم الدولية ذات البعد العولمي، كفيلة بأن تجعل هذا التيار لا يستشعر بالخطر إزاء الهجرات الأجنبية إلى البلد.


كما يقود هذا التيار في معظم دول الخليج زمام القيادة والحكم، وأصبح التنافس ما بين دول الخليج في تحقيق أعلى معدلات من التنمية الاقتصادية والعمرانية وخلق مجتمعات الخليج كبؤر استقطاب عالمية محط تنافس وتسابق ما بين دول الخليج، فيعذر إذا هذا التيار فيما يذهب إليه من تفاؤل إزاء استقدام الخبرات والعمالة الأجنبية الوافدة، والتوسع في المشاريع العمرانية بل والذهاب في ذلك إلى أقصى الحدود.


إذاً نحن أمام رؤيتين، رؤية ترى أن هناك خطراً كبيراً بات يهدد المنطقة إزاء الغول العمراني والتنموي اللا محدود والذي يجلب معه الهجرة التي تهدد بإخلال التركيبة السكانية، وترى بضرورة تقنين هذا التطور العمراني وضرورة كذلك إصلاح ما يمكن إصلاحه من وضع ديمغرافي مختل، وتعقد آمالاً كبيرة على المبادرات التي قدمتها اللجنة الوزارية.


ورؤية أخرى ترى أن المشاريع العمرانية واستقدام العمالة الأجنبية والاستفادة من خبراتها ضرورة تنموية لا بد منها خاصة في هذه الفترة من عمر الدول الخليجية التي تبحث لها عن مواقع قيادية واقتصادية على خارطة الدول العربية والإقليمية، وهي تتكئ على أهمية الاتفاقيات والقوانين التي تبرمها مع الدول المصدرة لتلك العمالة لتنظيم أوضاعها.


أسئلة محيرة واستفهامات كثيرة، ففي الوقت الذي تزداد فيه حدة الخوف من مخاطر التركيبة السكانية في الخليج، مما يستوجب على المواطنين الاصطفاف والالتفاف أكثر حول الهوية الوطنية الواحدة، وفي الوقت الذي ترتفع فيه حدة أصوات الخائفين، تظهر أصوات تطمئن، لا أعرف أين نقف، ولكن يبدو أن ضباب الازدواجية والتناقض والتنافس يغطي الطريق، فمتى سينجلي الغمام وتتضح الرؤية، نتمنى ذلك سريعاً قبل فوات الأوان.