د. أنس بن فيصل الحجي
إن أكبر خطر تواجهه الدول المصدرة للنفط، خاصة دول الخليج، هو نجاح برامج quot;استقلال الطاقةquot; في الدول المستهلكة في الاستغناء عن واردات النفط كلها لصالح مصادر طاقة بديلة، أو الاستغناء عن واردات النفط من دول الخليج لصالح المصادر البديلة والدول الأخرى المصدرة للنفط. الاستغناء عن النفط الخليجي يعني تحول المدن الخليجية إلى quot;مدن ملحquot; يهجرها أبناؤها بعد أن كانت مقصد ملايين العمال والخبراء من أنحاء العالم كافة. قد يرى البعض أنه لا يمكن على الإطلاق أن تستغني الدول المستهلكة عن النفط الخليجي، ولكن هل يمكن لنا أن نجزم مائة في المائة أن هذا لن يحصل؟ إذا كانت هناك فرصة واحد في المليون أن يحصل هذا الأمر، فإن عواقبه الرهيبة تجعلنا نفكر في الأمر بشكل جدي: ماذا لو نجحت برامج quot;استقلال الطاقةquot;؟ هنا علينا أن نتذكر أنه لو ترك الأمر لقوى العرض والطلب، فإن على أسعار النفط أن تتضاعف عما هي عليه الآن حتى نجد نموا ملحوظا للمصادر البديلة على حساب النفط. ولكن الأمر لا يخضع للعرض والطلب لأن حكومات الدول المستهلكة تنفق مئات المليارات من الدولارات لدعم مصادر الطاقة البديلة والبحوث في المخابر والجامعات للوصول إلى بديل للنفط أو تكنولوجيا تخفض من استهلاك النفط بشكل ملحوظ. إن الإنفاق الحكومي الرهيب على مصادر الطاقة البديلة وزيادة الإنفاق على التنقيب على النفط خارج دول أوبك لابد أن يؤدي يوما ما إلى تحجيم دور النفط الخليجي، وهو الأمر الذي منع دول الخليج من عدم التفكير في زيادة طاقتها الإنتاجية فوق الزيادات المقررة حالياً.

في ظل هذه الظروف الاقتصادية والسياسية، ماذا يمكن لدول الخليج أن تقوم به لتحجم دور برامج quot;استقلال الطاقةquot;؟ هل تشتري إعلانات مكلفة في كبرى الصحف الأوروبية والأمريكية؟ هل توظف شركات علاقات عامة (لوبي) لإقناع الأمريكيين بأن البدائل مضرة بهم؟ هل تحول quot;اجتماع جدةquot; إلى اجتماع دوري لإقناع الدول المستهلكة بعدم التخلي عن النفط؟ الأسئلة كثيرة، ولكن لا حاجة لدول أوبك أو الخليج إلى عمل أي شيء على الإطلاق سوى المناداة بالحفاظ على الضرائب الحالية على المشتقات النفطية ومطالبة الدول المستهلكة برفعها إلى مستويات أعلى! نعم، الضرائب على المشتقات النفطية في الدول المستهلكة هي أكبر مدافع عن حقوق الدول النفطية، وعلى الدول النفطية أن تحارب تخفيض الضرائب في الدول المستهلكة وأن تنادي بزيادتها!

رغم الحرب الضروس التي تشنها حكومات الدول الأوروبية والأمريكية على النفط، إلا أنها ستصل إلى مرحلة ستدافع عنه، نعم ستدافع عن النفط، لأن موازناتها، خاصة موازنات بعض الدول الأوروبية، تعتمد بشكل كبير على ضرائب المشتقات النفطية، والتي تتجاوز في عدد من الدول 60 في المائة من السعر. إلغاء الاعتماد على النفط سيؤدي إلى انهيار الحكومات في هذه الدول بسبب عدم قدرتها على الإنفاق، وسيؤدي إلى تدهور البنية التحتية في عدد من الدول الأوروبية. طبعاً هناك حل آخر أمام هذه الحكومات لتعزيز موقعها المالي في غياب ضرائب المشتقات النفطية وهو فرض ضرائب على مصادر الطاقة الجديدة، نفس المصادر التي أنفقت مئات المليارات لتطويرها وجعلها منافسة اقتصاديا. في هذه الحالة سيكون النفط رخيصاً جداً، بينما أسعار مصادر الطاقة الأخرى مرتفعة جداً. من هذا المنطلق فإن اعتماد الدول المنتجة على النفط يجب أن يقابله اعتماد لحكومات الدول المستهلكة عليه أيضاً. إن الضرائب المرتفعة على المشتقات النفطية، خاصة في أوروبا هي صمام الأمان للدول النفطية!

تخفيض الضرائب على المشتقات النفطية
سمعنا الكثيرين ينادون بتخفيض الضرائب على المشتقات النفطية، وقرأنا لعدد من الكتاب والصحافيين الذي يرددون ما يقوله المسؤولون دون دراسة أو تمحيص. إن تخفيض الضرائب على المشتقات النفطية، خاصة في الوقت الحالي، سيؤدي إلى زيادة الكمية المطلوبة على النفط، وسيرفع أسعاره إلى مستويات قياسية جديدة. هنا، ومن مبدأ quot;لا ثقافة نفطية بدون فكرquot; الذي تم ذكره في المقالات الثلاثة الماضية، يقع المنادون بتخفيض الضرائب في مأزق حرج: يلومون ارتفاع أسعار النفط على الزيادة في الطلب، وزيادة الطلب جاءت من تخفيض الضرائب الذي ينادون به هم أنفسهم! بناء على توقعات جميع المنظمات والهيئات والشركات المعنية للطلب على المدى الطويل فإن الطلب على النفط سيزيد بشكل كبير لا يمكن لدول أوبك مقابلته بناء على خطط الاستثمار الحالية، الأمر الذي سيزيد من الضغط السياسي عليها مع مرور الزمن، وسيعرض علاقاتها مع الدول العظمى للخطر. من هذا المنطلق, فإن وجود هذه الضرائب على المشتقات النفطية في الدول المستهلكة هو صمام أمان للدول المنتجة.


أما الذين يقولون إن أحد أسباب ارتفاع أسعار النفط هو ارتفاع الضرائب في الدول المستهلكة فإنهم يقعون في مأزق من نوع آخر وهو أن الضرائب في أغلب هذه البلاد لم تتغير خلال السنوات الأخيرة، وأغلبها ضرائب على وحدة القياس مثل اللتر أو الجالون، وليست نسبة من السعر (هذا يعني أن نسبة الضرائب إلى السعر انخفضت في السنوات الأخيرة). فإذا لم تتغير هذه الضرائب في السنوات الأخيرة، من أين أتى ارتفاع الأسعار؟

ويقع المنادون بتخفيض الضرائب في مأزق آخر, لأنه لا بد من وضع رأيهم ضمن إطار فكري أو مدرسة اقتصادية معينة. فإذا كانت الفكرة أن إلغاء الضرائب أو تخفيضها يسهم في زيادة المنافسة ويعزز من حرية الأسواق، فهي فكرة نبيلة ووجيهة، ولكن هذا الفكر يقتضي بالضرورة تخفيض إعانات البنزين والديزل والغاز في بلادهم, لأن ذلك يزيد أيضا من المنافسة ويعزز من حرية الأسواق. بعبارة أخرى، من غير المنطقي أن ينادي أحد بتخفيض الضرائب على المشتقات النفطية في الدول المستهلكة ويحارب في نفس الوقت تخفيض إعانات المشتقات النفطية في الدول المنتجة. أما إذا كانت الفكرة قائمة على التعامل بالمثل، فإن على هؤلاء مطالبة الحكومات الخليجية برفع الجمارك على المنتجات الأوروبية والأمريكية، والذي يعني مزيدا من التضخم في الوقت الحالي.

الخلاصة
إذا كانت الدول المنتجة للنفط تطالب بضمان الطلب على النفط، فإنه من المنطقي أن يتضمن هذا الضمان تعلق مصالح حكومات الدول المستهلكة بالنفط، وليس هناك ضمان أفضل من اعتماد موازنات هذه الحكومات على عوائد الضرائب على المشتقات النفطية. إن هذا الاعتماد سيجعل هذه الحكومات تدافع عن النفط مجرد أن تبدأ هذه الإيرادات في الانخفاض. بالإضافة إلى ذلك فإن وجود هذه الضرائب يخفف من الزيادة في الطلب على النفط، وبالتالي يخفف من الضغوط التي تمارسها الدول المستهلكة على الدول المنتجة. أما القول إن الضرائب على المشتقات النفطية في الدول المستهلكة هي أحد أسباب ارتفاع أسعار هذه المشتقات في الأعوام الثلاثة الأخيرة فهو ضرب من الخيال, لأن هذه الضرائب لم تتغير خلال هذه الفترة. إن المطالبة بتخفيض الضرائب في الدول الأوروبية يقتضي بالضرورة مطالبة الدول المنتجة برفع أسعار المشتقات النفطية عن طريق تخفيض الإعانات.

أكاديمي وخبير في شؤون النفط