يعتبر مشروع السد العالي الأكبر على الصعيدين الاقتصادي والسياسي في تاريخ مصر الحديث. ولم يقتصر هدف بناء السد على المحافظة على منسوب مياه النيل وحماية مصر من الفيضانات فقط، بل حفل المشروع بمعان ودلالات تاريخيَّة عديدة. فبالإضافة الى كونه ضرورة استراتيجية لتوفير الكهرباء من جنوب مصر إلى شمالها، وتاليا دفع عجلة التنمية الاقتصادية في البلاد، فقد انعكس بناء السد ايجابًا على الثورة العمرانية الكبرى التي ابصرت النور في حينها. بمناسبة اليوبيل الذهبي لبدء العمل ببناء السد، والذي يصادف اليوم، تلقي إيلاف الضوء على المحطات الأبرز في تاريخ المشروع.
القاهرة: في الستينات من القرن الماضي، أورد وزير الري المصري المهندس إبراهيم زكي قناوي مراحل إنشاء السد العالي في إحدى المحاضرات، وأشار إلى أنَّ َquot;البحوث والدراسات الخاصة بالسد العالي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1952. وبدأ إنشاء الطرق والمنشآت السكنية وغيرها في العام 1956. وبعد الاتفاق مع الاتحاد السوفييتي في أواخر 1958، توالت الإنشاءات المساعدة، ليفجّر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أول شحنة مفرقعات لحفر القناة في التاسع من كانون الثاني (يناير) 1960 إيذانا ببدء العملquot;.
وقد تم خطط الجدول الزمني لتنفيذ المشروع على مرحلتين، تضمنت المرحلة الأولى منشئات تحويل المياه وهي القناة الأمامية والخلفية ومآخذ الأنفاق الستة وأساسات محطة الكهرباء التي تضمن تمرير مياه الفيضان عند نقل النهر.
ويشمل سد المرحلة الأولى الجزء الأسفل من السد الواقع بمجرى النهر وتمت هذه المرحلة في عام 1964 وأمكن وصول منسوب الحجز عليها إلى 127.50 مترًا وتدبير أربعة مليارات إضافية فوق المخزون العادي بخزان أسوان علاوة على ما ساهمت به هذه المرحلة من وقاية البلاد من غوائل فيضان عام 1964. وشملت هذه المرحلة جميع أعمال الردم تحت الماء من المقدمة الأمامية والجزء الأمامي من الرمال الكثبانية حتى منسوب 130 مترًا وكذلك منطقة الأحجار الخلفية والأمامية والرمال الكثبانية الوسطى لحد منسوب معين وكلها أعمال غيتها قفل مجرى النهر وتحويل المياه للخزان.
أما المرحلة الثانية فبدأت هذه المرحلة بتكملة منشئات مداخل الأنفاق وتكملة أعمال محطة الكهرباء وإقامة التربينات والمحولات وخطوط الكهرباء. إضافة إلى تكملة جسم السد إلى منسوب 196 مترا وهي الأعمال التي تم تنفيذها أعلى من منسوب المياه كالجزء الخلفي المكون من الأحجار المفروزة والتي تم تلبيسها بالرمال وكذلك النواة الصماء والمرشحات المجاورة لها والفرشة الأمامية والقطاعات العليا من ركام الأحجار وممرات التفتيش وستارة الحقن الراسية وآبار الصرف الخلفية وتكسيات الميول الخلفية للسد.
قصة التمويل
من جهته، يعلق الدكتور يوسف أبو الحجاج قائلا:quot; بعد أن أجمع خبراء لجنة دولية محترمة على سلامة المشروع فنيا واقتصاديا في أواخر عام 1954 اتجهنا إلى البنك الدولي للإنشاء والتعمير للمساهمةفي التمويل. فنحن من أعضاء هذه المؤسسة الدولية ولنا حق الإقراض منها, وجاء تقرير خبراء البنك مؤكدًا سلامة المشروع . وخص التقرير بالذكر إنه سيرفع الدخل الزراعي بمقدار 40% ويضيف نحو عشرة مليارات كيلووات ساعة من الطاقة الكهربائيةquot; .
ويستكمل : quot;جرت المحادثات بيننا وبين البنك الدولي في أواخر عام 1955 وإذا به يضع العراقيل أمام المشروع فترتفع الصيحات بان هناك خلافات بيننا وبين انجلترا وإسرائيل يجب تسويتها أولاً، وانه ليس لدينا نظام برلماني يبدي رأيه بالمشروع لذا لابد أنيكون موضع استفتاء شعبيquot;.
هذه الهيئة الدولية تعبث بها تيارات سياسية بعيدة من رسالتها في تقديم المعونات والقروض للدول الآخذة في النمو. وكانت مناورات من جانب بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية اللتين كانتا قد ظهرتا بمظهر الموافقة على الإسهام في التمويل مع البنك الدولي بمئتي مليون دولار أي بنصف المبلغ المطلوب .
وكانت تلك الشروط الغريبة التي قدمها البنك متضمنة علي سبيل المثال ألا تتحمل الحكومة المصرية أي دين خارجي وألا توقع أي اتفاق دفع إلا بعد التفاهم مع البنك الدولي، وان يحدث التفاهم مع البنك حول الحاجة إلى ضبط المصاريف العامة للدولة، مع اشتراط أن تكون اتفاقات البنك خاضعة لإعادة النظر فيها إذا حدث ما يستدعي ذلك. وكان الرفض نصيب هذه الشروط العجيبة بطبيعة الحال ولم يكن من المعقول أن تقبل مصر هذه الوصاية التي يراد فرضها على اقتصادها، وذلك التحكم المستهدف بحرية تجارتها.
وفي 19تموز/يوليو 1956 أعلن البنك الدولي فجأة سحب تمويل السد العالي، بعد أن أعلن كل من وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية ووزير خارجية بريطانيا تخليهما عن المساهمة في المشروع. وفي حركة سريعة كان الرد في 26 تموز/يوليو 1956،حين أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم الشركة العالمية لقناة السويس ،للاستعانة بإيرادها المهدر في بناء السد العالي، ذلك المشروع الحيوي لرخاء امة بأسرها. ثم جاءت موافقة الاتحاد السوفيتي في عام 1958وعام 1960 علي التعاون مع الجمهورية العربية المتحدة في إنشاء المرحلة الأولي والمرحلة الثانية من السد العالي علي التوالي وتم بذلك تمويل المشروع ، رغم كل ألوان التحديات والمناورات.
ولقصة التمويل نتائجها الاقتصادية , فإلي جانب هذه النتائج السياسية العظام .ومن ثم تجد القصة مكانها في هذا الحديث عن السد العالي والتنمية الاقتصادية للبلاد .ومن أعظم هذه النتائج , الدخل الكبير الذي تدره علينا قناة السويس اليوم ،بعد أن كان يذهب بمقتضى اتفاقية جائرة إلي جيوب شركة القناة، تاركاً للدولة التي تقع القناة في أرضها، والتي أنفقت ما أنفقت في حفرها، نصيباً اقرب لفتات المائدة.وبدأ هذا الدخل يدخل إلي خزينة مصر صاحبة الحق المهدر منذ أعلنت تأميم شركة القناة بعد أسبوع واحد من سحب عرض التمويل. ولا يزال يتدفق مبلغ دسم من العملات الأجنبية يؤدي دوره المرموق في معركة التنمية الاقتصادية التي تخوضها البلاد.
ورأى أن تعداد المزايا الاقتصادية لمشروع السد العالي ينبغي أن يتضمن مجموع ذلك الدخل الكبير الذي تحصل عليه البلاد فيما بين العام 1956والعام 1969 تاريخ انتهاء عقد امتياز شركة القناة.ألم يكن التأميم بسبب هذا السد، جزءًا لا يتجزأ من قصة تمويله؟.كما ان هناك فوائد كبرى تي حصلت عليها مصر من تمصير البنوك وشركات التامين والوكالات التجارية، وهي فوائد يستطيع الخبراء الاقتصاديون حسابها بالأرقام. وقد استكملت البلاد بذلك القضاء على السيطرة الأجنبية على تجارة مصر الخارجية، وانفتح الطريق أمامها، تصديرًا واستيرادًا، نحو التعامل مع جميع بلاد العالم ،دون تمييز بين كتلة وأخرى ،ولا تفرقة بين بلد وبلد.
مزايا اقتصادية لا تحصى
وعن المزايا الاقتصادية التي ترتبت على بناء السد العالي يقول الخبير الاقتصادي د. حمدي عبد العظيم لـquot;إيلافquot; : quot;السد العالي يعتبر أكبر مشروع اقتصادي سياسي في التاريخ الحديث على مستوى الشرق الأوسط إن لم يكن على مستوى العالم فقد كان ضرورة استراتيجية لتوفير الكهرباء في مصر التي تغطي من جنوب مصر إلى شمالها وبدأت إثرها الصناعات الثقيلة التي كانت لا تعرفها مصر قبل ذلك، علاوة على الثروة العمرانية الكبرى التي لولا السد العالي ما كانت لترى النورquot; .
ويضيف حمدي:quot;بالنسبة إلى مجال الزراعة فالسد العالي أنقذ الزراعة المصرية ونظمها وأوقد فيها التنمية. فقبل بنائه كانت مصر تمر بموسمين أساسيين هما الجفاف والفيضان وكلاهما كان له تأثير سلبي على الزراعةففي موسم الفيضان كان النيل يغرق الزراعات ويدمرها وفي الجفاف كانت تقل إنتاجية المحاصيل وجاء المشروع بمثابة المنقذ للزراعة المصريةولا ننسى أن لولاه ما قامت مشاريع مثل توشكي وشرق العوينات التي تعتمد في ريها على مخزون المياه من السد العاليquot;.
كما تطرق الخبير الاقتصادي إلى أن السد أصبح في حد ذاته معلمًا من المعالم السياحية الكبرى في مصر والتي تجذب عدد كبير من السياح الأجانب فضلا عن الثروة السمكية الكبيرة التي خلفتها بحيرة ناصر والتي تمحصر 57 نوعًامن الأسماك بهابعضها نادر جدًا كدبيب الحوت وبعضها شائع ومألوف كالبلطي والساموس وبعضها بين الاثنين كالأنومة البياض والقرموط.
التعليقات