يشتهر سكان بولاديسكي، وهي منطقة فقيرة في شمالي شرق بولندا، في العالم كله. ويتجمع عشرات الآلاف من طيور اللقلق الأبيض ليبنوا أعشاشهم في هذه المنطقة السهلية كل صيف، وذلك قبل توجههم إلى الجنوب حيث المناخات الأكثر دفأ. ومع الأخذ في الاعتبار هذه الأرقام، مزح أحد المواطنين البولنديين قائلا إنه يمكن القول إن واحدا من كل أربعة لقالق في العالم بولندي. لكن في السنوات الأخيرة، اكتسبت هذه المنطقة شهرة بسبب نوع آخر من الهجرة، وهو الهجرة الجماعية لسكانها الذين في سن العمل. وتمتع سكان بولاديسكي، أكثر من سكان أي منطقة أخرى في بلادهم، بميزة حرية العيش والعمل في دول الاتحاد الأوربي الأخرى، وخاصة بريطانيا. وفي بعض بلدات هذه المنطقة، غادر أكثر من 10 في المئة من السكان، أغلبهم من الشباب، ولم يتركوا خلفهم سوى كبار السن. "اعتدنا أن يكون هنا صالتا سينما، لكنهما أغلقتا"، هكذا تقول كاسيا، وهي واحدة من السكان المتبقين في بلدة مونكي، التي باتت مدينة أشباح فعلية، تتميز بأنها تشهد أعلى معدلات لهجرة مواطنيها إلى دول الاتحاد الأوربي ذات الاقتصادات الأغنى. وأضافت: "والان ثمة حفلتان فقط خلال السنة". ويقول أحد أصحاب متاجر الأدوات الكهربائية في وسط البلدة، والذي لم يتغير حاله منذ عقود: "الكل يذهب، الكل يغادر". وأضاف: "المعاقون فقط هم من يبقون هنا. كل القرى أصبحت فارغة". وعلى الرغم من أننا كنا في يوم عمل عادي من أيام الأسبوع، لم أشاهد سوى عدد قليل من الزبائن، وكانت العلامة الوحيدة على الحياة في البلدة هي مجموعات متناثرة من السيدات العجائز، اللائي يجلسن ويدخن على مهل. ويلقي صاحب متجر الأدوات الكهربائية مسؤولية هذا المشهد على انضمام بولندا للاتحاد الأوروبي، عام 2004. وقال: "لقد تغيرت الأشياء كثيرا، إنها تشبه الصحراء. إذا قدت سيارتك عبر هذه القرى لن تجد أحدا. إنهم يسافرون للخارج ويجمعون الأموال، ويتركون هذه الأماكن فارغة". وعلى الرغم من هذه المصاعب المحلية، هناك جدل بأن بولندا مستفيد خالص من الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. لقد ساعد ذلك على تحويل البلد من مجتمع ما بعد الاتحاد السوفيتي إلى بلد ذي اقتصاد قوي وحديث، ومرن للغاية، لدرجة جعلتها الدولة الوحيدة ضمن الاتحاد الأوروبي التي لم تدخل في كساد، عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008. وتزامن هذا مع حقيقة أن قيمة اقتصادها أو ناتجها المحلي الإجمالي تضاعف، خلال عقدين من الزمان تقريبا، ما أدى إلى تسميتها بـ "الاقتصاد المعجزة". ومع ما يقرب من مليون بولندي يعيشون ويعملون في بريطانيا، ويحولون أكثر من مليار يورو سنويا، فقد تمنى الكثيرون في ذلك البلد أن تصوت بريطانيا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن الآن مع السير في إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يرى البعض في ذلك فرصة. ويقول الدكتور برزميسلاف بيسكوب، الخبير في شؤون التكامل الأوروبي بجامعة وارسو: "في الوقت الراهن تعاني بولندا من مشكلة ديموغرافية". وأضاف: "لكن ليس الأمر بهذا السوء بالنسبة لعودة مواطنينا للبلاد، فسوق العمل في بلدنا متعطش لليد العاملة، ومثل هؤلاء الناس سيجلبون إلينا خبرات ومهارات ومؤهلات جديدة". في الحقيقة خلص تقرير حديث لصندوق النقد الدولي إلى أن الهجرة واسعة النطاق ربما تكون قد سببت تباطؤ النمو، في دول وسط وشرق أوروبا. ولا يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي بالضرورة أن البولنديين سيعودون في موجات جماعية. فالعديد من هؤلاء الذين استوطنوا في بريطانيا لديهم إقامة دائمة، أو في طريقهم للحصول على الجنسية. والأكثر من ذلك أنهم ينوون جلب عائلاتهم إلى بريطانيا، بدلا من أن يعودوا هم إلى وسط أوروبا. لكن هناك بعض العلامات على وجود "عائدين"، حتى في منطقة تتضاءل فيها الفرص الاقتصادية مثل بولاديسكي. وفي الميدان الرئيسي لبلدة تايكوسين التاريخية النائية يدير الفتى "كاميل سويتورزكي" مقهى ومعرضا، حيث يخدم العديد من السائحين الذين يزورون المعبد القريب الذي يرجع تاريخه للقرن السابع عشر، أو القلعة التي يبلغ عمرها نحو 600 سنة. وقال الفتى، وهو يعد القهوة البولندية: "لقد ذهبت إلى ليفربول عندما كان عمري 21 عاما، وعملت في المطابخ والعديد من الأماكن". وأضاف: "كان هدفي هو جمع الأموال وتأسيس شركة هنا". لكن رغم ذلك، تظل القصص المشابهة لقصة كاميل هنا نادرة. وتعد حرية الحركة حيوية بالنسبة لكثير من البولنديين، خاصة الذين يعيشون على التحويلات التي يرسلها ذووهم العاملون في بريطانيا. وهذا ما يجعل "جاكوب وفناروسكي"، نائب المدير العام لمنظمة الأعمال التجارية البولندية "لوياتان"، يعتقد أن بولندا ستصر على بقاء الحدود مفتوحة، في أي مفاوضات تجارية مع بريطانيا، في مرحلة ما بعد خروجها من الاتحاد الأوربي. ويقول: "لن تكون هناك تنازلات". ويتوقع وفناروسكي أن الحكومة البولندية "لن تقايض حرية التنقل مقابل النفاذ إلى السوق الموحدة"، حتى إذا أدى ذلك إلى تضرر بعض من نحو 4 آلاف شركة تمثلهم منظمة لوياتان. وأضاف أن الحكومة ستضطر للاستماع إلى "صوت الناس العاديين"، الذين يعمل أبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم في بريطانيا. وبالعودة إلى تايكوسين، فإن كاميل صاحب المقهى والعائد من بريطانيا والذي لا يزال لديه عائلة هناك، يأمل في ألا يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ظهور جسر متحرك من البشر بين البلدين. لكن إذا حدث ذلك، فإنه لن يكون قلقا بشكل كبير بشأن أبناء بلده. ويقول: "هي بالأساس مأساة بالنسبة لأولئك الموجودين هناك بالفعل"، لكنه يضيف إنه بالنسبة للبولنديين الذين يبحثون عن عمل في مكان آخر فإن هناك متسعا في باقي دول الاتحاد الأوروبي."مأساة البلدات الصغيرة"
"الاقتصاد المعجزة"
هل يمثل العائدون حقيقة؟
الحدود المفتوحة
- آخر تحديث :
التعليقات