11 ايلول الثقافي العربي
الكاتب إرهابي.. والقارئ ضحية :

أمة تقرأ لغير كتابها ومؤلفون يخافون.. كتبوا فقتلوا

":نسرين عزالدين-احمد ديركي : "نحن أمة لا تقرأ"، إستنتاج تحول إلى إحدى الثوابت غير القابلة للنقاش وبات أكثر تداولا من أكثر المقولات شهرة في وقت تستمر فيه بقية " الإستنتاجات " الأخرى عرضة للتأكيد أو النفي. وبعيدا عن أسباب رسوخ هذه النظرية بهذا الشكل غير المنطقي إلى حد ما، تبرز نظرية أخرى مناقضة تماما.
ففعل القراءة يستوجب قارئا يعطي للكتاب أهميته.. هذا القارئ الذي و إنطلاقا من إنتقائية محددة وفقا لمعايير خاصة يقوم بإختيار "منتجه الثقافي " فيأخذ ما يستسيغه ويهمل ما لا يرضي ذوقه..وبالتالي فإن اي خلل في هذه العلاقة التبادلية سيؤدي إلى التخلي عن الكتاب وبقائه "وحيدا" من دون جهة تحدد أهيمته أو قيمته أو حجم رواجه. من هنا فإن الأمة التي لا تقرأ قد تكون نتيجة للأمة التي لا تكتب أو للأمة التي لا تثق بما أو بمن يكتب..كما انها قد تكون في المقابل أمة لا تستطيع أن تكتب لو أرادت ذلك.
وقبل مناقشة أسباب و حثيات الأصل المتداول ونقيضه المحتمل، لا بد من إستعراض مراحل عملية خلق القارئ او الكاتب العربي.


من المؤلف..إلى القارئ
إن أي كتاب بشكل عام، يصل إلى أيدي القراء العرب بعد أن يكون قد خاض سلسلة من المراحل. فمن التأليف إلى النشر إلى التوزيع مرورا بالرقابة يتخبط هذا المنتج ليبصر النور. فمن هو المؤلف الذي يعد الأساس في هذه السلسلة المترابطة.
.. "هذا الرجل جعل من نفسه مؤلفا، فقد نشر كتابه". هكذا وصف الروائي الإيطالي أمبرتو إكو المؤلف. فهذه الصفة تطلق اليوم على كل من نشر كتابا، الأمر الذي يخالف التعريف التقليدي للكلمة و التي تطلق وببساطة على كل من أخرج كتابا إلى النور سواء قام بنشره أم لم يقم بذلك. وبعيدا عن التعريف الدقيق للكلمة فإن المؤلف وبشكل عام هو العقل المبدع و أحد أهم عوامل رفع الوعي في المجتمعات كما وصفه كارليل في محاضرة عام 1840.."كل أديب ينطوي على عنصر مقدس سواء عرفنا ذلك أم لم نعرف.. فهو نور العالم.. وهو كعامود مقدس من النار يقود العالم أثناء رحلته عبر صحراء الزمن".
وبعد أن يقوم هذا الركن "المقدس" بعمله، تقوم دور النشر بإستلام ما أنتجه، ويتم تقيمه حينها وفقا لمعايير رقابية يتم تحديدها من قبل السلطة التي قد تسمح أولا تسمح بنشره. وفي حال نجح " الكتاب " بإجتياز "الإمتحان الرقابي " يتخبط مجددا في ظل غياب شركات توزيع عربية من أجل الوصول إلى القارئ بأيسر الطرق.هذا الأخير الذي يشكل العنصر الأساسي في عملية خلق الكتاب الذي وجد منه و من أجله وله.
وبما أن كل نص مكتوب هو "منتج ذهني" فإن إقتصار القراءةعلى إنطباعات أولى من دون أن تؤدي إلى نص آخر يكون الأثر الملموس لهذا الفعل، يجعل من العملية برمتها " قراءة غير منجزة ".وإنطلاقا من هذه العلاقة التكاملية فإن القارئ ليس مجرد أداة لحمل الكتاب والإطلاع عليه.
وبما أن الانسان لا يولد وهو مدرك لطبيعة الحرف أو عملية القراءة أو الكتابة، فهي إذن ليست عمل فطري وإنما عادة مكتسبة نتيجة " تلقين " متتابع تدريجي عبر نظام تعليمي يتشابك مع الأنظمة الإقتصادية و السياسية والاجتماعية.
هكذا وإنطلاقا من كل هذه العوامل المترابطة والمتداخلة لا بد من وجود خلل ما،جعل من هذا القارئ موضع إتهام.

النظام التعليمي:

يعتبر النظام التعليمي المرحلة الأولى في تعريف الطفل على الحروف والجمل لتتطور بعدها إلى القراءة والكتابة من خلال مؤسسات تعتبر هي الجزء الثاني في حياة الفرد بعد العائلة.. وهي المدرسة.
هذه المدارس التي تعتمد و بشكل غير مبرر على عملية التلقين، فعلى الطالب أن يحفظ عن ظهر قلب مقرره الدراسي كي يتمكن من النجاح في ظل غياب كلي لأي عملية إعتراض أو تحليل أو تفكيك أو مناقشة. فواجبه هو الحفظ و إعادة تلاوته لملقنه.فهذا " الفرض" وإستبعاد أي تحليل أو تفكير تستبعد صفة "قارئ" أو كاتب على حد السواء عن الطالب.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما يتجاوزه إلى خلق أزمة بين الطالب والكتاب. فالخطوة الأولى التي يقوم بها هذا "المنهك " عقب إنتهاء العام الدراسي هي رمي أو حرق أو بيع الكتب، وينحصر همه بقضاء عطلته الصيفية بعيدا عن كل ما قد يذكره بالدراسة أو القراءة أو الكتابة.
ويطال هذا الخلل الجامعات متخذا أبعادا أشد خطورة، فإن كانت الجامعات العربية أشبه بمدارس ثانوية عالية، فإن تعلم التفكير بلغة "ثانية" يتم مساواتها باللغة "الأم" بطريقة مجحفة، عبر أعمال مترجمة يخلق إرباكا كون الحقائق تشير إلى الشح والقصور في الترجمة وعجزها عن مواكبة التجدد المعرفي المتسارع. كل هذه الأمور إضافة إلى "الإزدواج" في اللغة الذي يوسع الهوة بين المادة التعليمية والواقع الإجتماعي، يجعل من هذا القارئ أو الكاتب المحتمل متأخر عما يحدث فكريا.
ولو سلمنا جدلا أن هذا الطالب تمكن من تخطي كل " العقد " التي نمت معه وأدت إلى كره عميق أو حتى خلق شرخ واسع بينه و بين الكتاب وتحول إلى قارئ ذواق ونهم. من المرجح أنه سيصطدم بعقبة جديدة قد تمنعه أو تحد من قدرته على إمتلاك الكتاب.

الوضع الإقتصادي :


للدول العربية الـ 22 وضع خاص جدا.. ففي الوقت الذي تعاني بعض الدول من تخمة إقتصادية ترزح البقية أو بعض منها تحت عبء الفقر. فعلى سبيل المثال، يطال الفقر 5% من سكان الأردن وتونس وحوالى 20% في الجزائر ومصر والمغرب و40% في موريتانيا.( المقصود بالفقر هنا، المدخول الذي يقل عن دولار يوميا ).
فلو تغاضينا عن هذه الشريحة وإعتبرنا أنها برمتها ليست من الفئة التي تقرأ، فسنجد الفئة الأخرى تعاني من مشاكل أخرى مشابهة وإن لم تكن بالسوء نفسه. فالشغل الشاغل للمواطن العربي اليوم، هو إيجاد وظيفة.. ومن حالفه الحظ وظفر بفرصته يجد نفسه في نهاية النهار منهكا مستهلكا طاقته الجسدية والفكرية والعاطفية حتى الجفاف. وقد يفضل مشاهدة التلفاز أو حتى الجلوس أمام حائط والتحديق به لساعات على أن يطالع كتابا.
قال أحدهم يوما.. " فليعطوني وظيفة مريحة بمعاش كاف لإعالتي وسأتحول إلى دودة كتب ". لعل هذا الطلب هو الحد الأدنى البديهي المفترض توفيره للمواطن، وبما أن الحال مختلف تمام، فإن هذا المواطن الذي يرزح تحت أعباء مادية ومتطلبات هي العائق الأول أمام هذا القارئ أو الكاتب على حد السواء.
فلو تمكن القارئ من تخصيص مبلغا معينا لشراء الكتب، فلن يملك الطاقة الجسدية أو الفكرية للمواضبة على المطالعة. وبالتالي ستتحول إلى "مزاج " يلجأ إليه حين يتمكن من القيام بهذه المهمة التي لن يتمكن من تطوريها لتتخطى حدود الهواية. وبغياب المكتبات العامة التي يمكن قصدها من أجل المطالعة، ينحصر الحل الوحيد بعملية الشراء. وإن كان البعض يرى في معارض الكتب حلا لهذه المشكلة،فان الواقع يثبت عكس ذلك. فهذه المعارض تحولت إلى أسواق موسمية تسعى إلى الربح.
في المقابل ينطبق الواقع الإقتصادي نفسه على الكاتب الذي لا يمكنه إعتماد التأليف كوظيفة لإعالته. فبين متطلبات دور النشر وما تفرضه من عوائق رقابية وبين عدم قدرة القارئ على شراء منتجه، يتحول الكاتب إلى موظف يقوم بإبداعاته حين يتمكن من ذلك.. ماديا وفكريا و جسديا. والمثير للسخرية أنه، وفي حال تمكن هذا الكتاب من تخطي العقبات وتحول إلى أحد أهم الكتاب فإن الكتاب أو الرواية الناجحة في العالم العربي المؤلف من 22 دولة و270 مليون عربي هي التي تبيع 5000 نسخة فقط.. فما هو المردود المادي لهذا الرقم القياسي.. هذا في حال تمكن من تحقيقه.

مصر تكتب.. لبنان يطبع والعراق يقرأ

مقولة من المرجح انها كانت صحيحة في وقت ما، اون كانت تثير احتمالات عديدة اخرى. فلماذا حصرت مصر نفسها بالكتابة..ولبنان بالطباعة والعراق بالقراءة.. الم يكن باستطاعة كل دولة من هذه الدول ان تقوم بالكتابة والطباعة والقراءة.واين بقية الدول العربية من الكتابة والطباعة والكتابة؟
وإن كانت مصر تكتب، فماذا تكتب ؟ هل تكتب كل ما يحلو لها، أم أنها تكتب ضمن الحدود الرقابية ؟وهل يطبع لبنان كل ما يصله..وهل يصل الى العراق كل ما يكتب و يطبع ؟
من المؤكد أن الهامش الواسع للحرية الذي تنطوي عليه هذه المقولة مبالغ فيه الى حد ما. فدور النشر تقيم الكتب وفقا لمعايير رقابية تحددها السلطة.
وبما أن الدولة هي الرقيب الأول على حماية ورعاية المواطن، فإنها العين الساهرة التي تحدد نوعية الكتب التي يسمح أو لا يسمح بنشرها. وإنطلاقا من مجتمعات مسلمة أو متأسلمة فإن كل ما يمس هذا " الأمن " ممنوع من الداخل أو الخارج. وبما أن هذه الدول في صراع دائم مع العدو الصهيوني فكل ما يخل بأمنها القومي ممنوع من النشر والإستيراد.
وعقب أحداث الحادي عشر من أيلول و إتساع تعريف الإرهاب، الذي يعتبر الذ ريعة الأولى " للقمع فإن هامش " الممنوعات " إتسع أيضا. وهكذا وتحت ذريعة " التشجيع على الإرهاب" مهما كان نوعه، تمكنت السلطات من توسيع دائرتها الرقابية.
إلا أن هذا لم يمنع عدد من الكتاب من تجاوز هذه العوائق التي زرعتها السطات.. فناضلوا من أجل " الحقيقة ".. وكان الموت نصيب معظهم.
فهذا الكاتب، الذي من المرجح أن عدد قرائه لم يتجاوز الـ 5000 قارئ، قتل بسبب كتابه. ونذكر على سبيل المثال الكاتب حسين مروة الذي قتل وهو في الثمانين من عمره حين تم إقتحام منزله..جريمته هي تأليف " النزعات المادية في الفلسفة العربية –الإسلامية ". أما مهدي عامل الذي قتل كما قتل مروة بسبب تأليفه عدد من الكتب المحرمة كـ " نمط الإنتاج الكولونيالي" و" أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازية العربية". أما صادق جلال العظم فتمت محاكمته بتهمة إثارة النزعات الطائفية عقب تأليفه " نقد الفكر الديني". اضافة الى ناصر سعيد الذي تم تسليمه عقب تأليفه "تاريخ ال سعود"، كذلك سلمان رشدي الذي تم عرض مبلغ 1000000 دولار لمن يقتله لأنه الف آيات شيطانية.
.."لا أستطيع أن أعود كما كنت قبل قراءته، فكيف أصف قوته ".. هذه هي قوة الكتاب كما وصفها آندريه جيد.. هذا النص أو الفكرة أو التاريخ الذي يسلب من قارئه حواسه ويجعله مختلفا تماما عما كان عليه قبل قراءته.
وإن كان من كتبوا "بالمحرمات " قد قتلوا.. فإن البحث سيكون مع البقية الحية.

نعم للترجمة.. لا للمحلي

للعل مقولة نحن أمة لا تقرأ "صادقة"بجزء منها وبالتالي قد تكون أكثر دقة لو كانت نحن أمة لا تقرأ النتاج العربي.. أو لا تحبذ قراءة النتاج العربي.فمن غير المنطقي تعيميم مقولة " عدم القراءة " في الوقت الذي تشهد معارض الكتب و المكتبات ودور النشر إقبالا هائلا على الأعمال المترجمة مقابل مبيعات خجولة للكتب العربية.
فلا بد أن الخلل يكمن في مكان، فلا يمكن الإنكار أن هذه الأمة التي لا تقرأ أنجبت كتابا مبدعين، كما لا يمكن الإنكار ايضا أنها خلقت قراء مميزين.
فلماذا هذا التوجه نحو الاعمال المترجمة؟
يميل العرب بشكل عام الى التعاطي مع الواقع من منطلق عربي بحت، منطلق لم يعد للمواطن "المتعب" والقارئ الذي اتطلع على الاعمال الاجنبية يتقبله. فيفضل القارئ التوجه إلى الأعمال المترجمة بعيدا عن نظريات المؤامرة أو التغني بقوميات لا تغني ولا تسمن عن شيء أو حتى روايات تتدعي الروائية..في المقابل يجد هذا الكاتب نفسه بين هامش يضيق اكثر فاكثر.. فماذا سيكتب، وامام خيارات محددة لم يعد الجمهور العربي يتقبلها يجد الكاتب نفسه امام خيارين فإما التحول نحو الاسفاف في الكتابة او التخلي عن هذه المهنة كليا.. أو يقتل كما قتل زملاء له من قبله.
وباختصار،من كتب وأبدع، لم يهمل وإنما احتل مكانة مميزة، ومن لم يكتب حارب بمقولة إننا أمة لا تقرأ.
الواقع هو كالتالي.. نحن أمة تقرأ حين تتمكن.. أمة حين تقرأ تعتمد أعلى المعايير النقدية.لكننا أمة لا تكتب ما يرضى قارئها.. وطبعا مع حفظ حقوق كل مبدع عربي.. لانها لا تملك الحرية الكافية لذلك من جهة او لانها لا تملك المقومات اللازمة من جهة اخرى.
المكتبات متخمة بأعمال الكتاب العرب، المبدعون الذين تمكنوا من تخطي العقبات حافظوا على مكانتهم في وقت لا يزال يتخبط مبدعون "جدد" من اجل ايصال اعمالهم الى هذا الجمهور الذي تحول الى " ناقد " شرس، اعتمد التعميم " المبرر" على كل كاتب عربي.. أما الباقون، فتخلوا عن كل ما هو عربي واستبدلوه بالأعمال المترجمة. نحن أمة تقرأ حين تستطيع وتبدع حين تستطيع.. وبينهما يقع مجتمع يحاول بشتى الطرق الوصول إلى مستوى معين من الوعي والثقافة. وبين محاولة الابداع ومحاولة رفع مستوى الثقافة.. حرب " اتهامات بالتقصير " بين الطرفين.