فرحهم محدود بفقرهم و"شتاتهم":

فلسطينيو لبنان وتفكيك المستوطنات


غريب حقاً، بعدما فقدنا أسناننا،
أصبح لدينا فستق سوداني!

لاوشة- المقهى

صام سحمراني من بيروت : في حفرة أحد الكاراجات يفلت هشام مفتاح الربط والمطرقة من يديه فقد أعياه فكّ "أشكمان" (عادم) إحدى الدراجات النارية وفاجأه السؤال في الوقت عينه. "خلّيني قبل كلّ إشي طلّع يوميتي بدّك ياني احتفل بإنسحاب يمكن يتعطل تاني يوم!" يقول هشام بلهجته الفلسطينية بفتور قد يبرّر للمكان اقتصار مظاهر الإحتفال فيه بإنسحاب جيش الإحتلال من قطاع غزّة على القليل من النشاطات العفوية التي قام بها أبناء المخيّم نهار الإثنين الماضي - أوّل أيّام الإنسحاب- وكان من بينها رشّ الأرز وارتفاع أصوات النسوة بالزغاريد وتنظيم حلقات الدبكة "الختيارية" المرتجلة للغاية. نحن في مخيّم "برج البراجنة" للاجئين الفلسطينيين.
هشام هو واحد من آلاف الشباب الفلسطيني في المخيّم ذي الغالبية الفلسطينية. لكنّه في المقابل واحد من قلّة منهم استطاعوا أن يجدوا عملاً في ظلّ البطالة السائدة في لبنان ككلّ. دون أن نغفل بعض الظروف الخاصة بالفلسطينيين أنفسهم والتي لا يغيب عنها بحال من الأحوال تلك القيود التي فرضت على العامل الفلسطيني منذ التهجير إلى لبنان حتى الشهر ما قبل الماضي. حينها صحّحت وزارة العمل في حكومة تصريف الأعمال السابقة وضعاً فلسطينياً شاذّاً منذ عقود فأجازت للعمّال من خلال القوانين التي أقرّت حقوقاً تماثل ما للبنانيين.
وبالحديث عن مخيّم برج البراجنة الذي يقع بالقرب من مطار بيروت الدولي وفي قلب الضاحية الجنوبية لبيروت والذي يعتبر كغيره من المخيمات جزيرة من جزر الإهمال المزمن في كافة المناحي – إلى جانب اتهامها بأنّها جزر أمنية من قبل كثير من اللبنانيين. عدا عن التضخّم البشري الكثيف وما يسبّبه من مشاكل قد تمتدّ أحياناً للمحيط. فهذا المخيّم هو من أشدّ المخيّمات الفلسطينية في لبنان مناعة من جهة وإنغلاقاً على حدوده الخاصة من جهة أخرى. وليس أدلّ على تلك المناعة من فشل كلّ من جيش الإحتلال الإسرائيلي لدى اجتياحه لبيروت عام 1982 ، وفشل الميليشيات اللبنانية التي حاصرت المخيم في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي على حدّ سواء في الدخول إليه. ولا يخفى السبب الرئيسي في ذلك الفشل لكلّ من يدخل المخيّم حيث يضيع في الدهاليز و"الزواريب" ولا يستطيع الإستدلال إلاّ من خلال أبناء المخيّم الذين يحفظون تلك الدهاليز عن ظهر قلب. لا بل انّهم يتحدّثون عن أنفاق محفورة في بطن الأرض سمحت بصمودهم خلال الحصارات التي تعرّضوا لها سابقاً.
"أيّ تغيير مهمّ بالنسبة لنا لكنّنا في هذه الحالة نستبعد أن يؤثّر علينا في ظلّ ندرة وجود أهل القطاع لدينا في المخيّم" يقول صلاح وهو يحرّك كرسيّه المدولب ويستند به إلى أحد الجدران المزينة بصور شتّى لأعلام فلسطينية وصور لشهداء تذكّر بأغنية عتيقة للموسيقار الثوري الفلسطيني "أبو عرب": شوارع المخيّم تضجّ بالصور.. شهيدنا تكلّم فأنطق الحجر. ويعزو صلاح سبب عدم انتشار الإحتفالات بالصورة المطلوبة بالدرجة الأولى إلى انعدام الشعور بمستقبل أفضل لدى الفلسطينيين وخاصة "حينما يتعلّق الأمر بالصهاينة الذين لطالما خدعونا وكذبوا علينا وخانوا جميع الإتفاقات معنا ومع العرب جميعاً" يثور صلاح.
أمّا عبلة فهي وعلى الرغم من أنّها لم تجد داع للإحتفال في ظلّ تخوّفها الدائم من عودة الإسرائيليين إلى القطاع "في أيّ لحظة ولا من رادع لهم رغم الإحترام الكامل لدماء شهداء شعبنا هناك". رغم ذلك فهي تتمنّى أن تقوم السلطة بالإضافة إلى الفصائل هناك بالإستفادة قدر الإمكان من الإنسحاب وتوحيد الصفوف من أجل تأمين "ولو حدّ أدنى من النواة لدولة فلسطينية كاملة السيادة موعودة". أمّا عن انعكاس هذه الخطوة على فلسطينيي الشتات وخاصة في لبنان فلا تجد عبلة أمامها غير التصريح اليتيم الذي أدلى به موفد السلطة إلى لبنان المولج بالملف الفلسطيني فيه عباس زكي وقد وعد فيه سكان غزّة الأصليين بالعودة في أقرب فرصة وبالأخص أولئك الذين يسكنون في مخيّمات لبنان. وتتمنّى عبلة في هذا الإطار أن تتضافر الجهود لتسوية أوضاع الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج في ظلّ تقلّص الآمال والأحلام الفلسطينية؛ "مع انّنا بنعرف إنّو في الله!" تستسلم عبلة.
أمّا محمّد ذو العشرين عاماً والذي لم يجد بدّاً أمام بطالته المزمنة سوى الإنضمام إلى إحدى الفصائل المسيطرة على أمن المخيّم فيتحدّث بنبرة تعكسها بندقية "الكلاكشينيكوف" في يده وجعب الرصاص على صدره قبل أن يعكسها صوته. "هادا كلّو بفضل ربّنا وقائدنا الشهيد أبو عمّار وغيرو من الشهدا الأبطال إللّي ما رضيو بالهزيمة والإنكسار لإرادة المحتلّين وكلّ مين كان وبعدو يعاونن..." يصرخ محمدّ ويلمّ الحيّ بأكمله صوبنا.
أحد الشبّان هو من قطاع غزّة وقد أتى أهله إلى لبنان حديثاً عام 1988بعد تهجيرهم من أرضهم التي قامت عليها لاحقاً إحدى المستوطنات الصهيونية. وهم وصلوا لبنان بعد رحلة مكوكية قادتهم إلى مصر والأردن وسوريا وصولاً إليه. يدعى الشاب سميح ويتمنى أن يتمكّن من العودة إلى أرض أهله ليكمل النضال الحقيقي لإستعادة فلسطين بأكملها من خلال السكن هناك؛ "شوكة في عيون المحتلين الغاصبين وانتصاراً للحرّية وثأراً لكلّ الهزائم التي تعرّض لها العرب!" يردّد سميح ما يشبه تلك الشعارات المكتوبة على جدران المخيّم حيثما ذهبت.
وفي الجزء الأعلى من مخيّم برج البراجنة يبرز مبنى أبيض يكبر ما حوله بقليل هو مستشفى حيفا ونستدلّ من خلال الإسم على هوية فلسطينيي المكان حيث أكثرهم من حملة التهجير الأولى عام 1948. هناك قابلنا عامر الذي يعدّ "أيّ انسحاب اسرائيلي بغضّ النظر عن حجمه انتصاراً لإرادة الشعب الفلسطيني". ولا يعتب عامر بخصوص القضية الفلسطينية سوى على الفلسطينيين أنفسهم الذين لطالما سلّموا قضيتهم لغيرهم من العرب الذين "لطالما طعنونا في الظهر من خلال حروبهم ومفاوضاتهم واتفاقاتهم". ولا يجد عامر بداً في هذا الإطار من استمرار المقاومة ولو من أجل فلسطينيي الداخل كمرحلة أولى؛ "فأحلامنا في العودة تتقلّص يوماً بعد يوم في ظلّ اجتزاء الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى سجون كبيرة" .
وبخصوص انعكاس الإنسحاب الإسرائيلي من القطاع على عودة سكان غزّة الأصليين إليه فلا تجد ربى "الغزّاويّة"من تعزية لها سوى السخرية السوداء التي تتحدّث فيها عن "البقعة الأكثر إزدحاماً في الكون!". فربى لا تتوقّع عودة أحد من سكّان غزّة في الشتات في ظلّ هذا التضخّم البشري الذي يشهده القطاع في مناطقه العربية ليصل إلى "عشرات الآلاف من السكّان لكلّ كيلومتر واحد فكيف تريد منهم أن يزيدوا على تضخّمهم تضخّماً!!؟" تتساءل بنبرة ساخرة .
ذلك عرض لبعض من المشاهدات في مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين خلال أيّام الإنسحاب الإسرائيلي الثلاثة من القطاع بشكل كامل ومن بعض مناطق الضفة. ربّما لا تعكس استطلاعات آراء شباب المخيّم الكثير من الآمال التي كانت قبل عدد قليل من السنوات- أيّام الإنتفاضة- عريضة فعلاً في تحقيق الأفضل للشعب الفلسطينيّ. لكنّ شباب المخيّم وعلى الرغم من روتين البطالة والبؤس والشتات اليومي الذي يعيشونه بشكل دائم وعلى الرغم من التمييز الذي يلحق بهم في كافة مجالات الحياة لا يسعهم سوى الغبطة -ولو المنتقصة- لإندحار الصهاينة عن أيّ ذرّة من التراب العربي الفلسطيني. لكنّهم يتمنّون أكثر أن يكون الإنسحاب حقيقياً كي يتمكّن هشام فعلياً من الإحتفال لا أن يتخوّف من عودة الإحتلال في اليوم التالي.
إنشاء الله خير..