احمد ديركي : يعزو الفكر الغيبي اية ظاهرة طبيعية الى غيبياته المقدسة اوالمدنسة ،ومن هنا يأتي تقسيمه لهذه الظواهر الطبيعية الى قسمين رئيسيين وهما الظاهرة الطبيعية الحميدة والظاهرة الطبيعية الخبيثة.ووفقا لهذا الفكر فان الظاهرة الحميدة هي النعمة التي يتلقاها من معبوده والكارثية على غيره نعمة ايضا بالنسبة له على الاقل لانها كارثة لمن لا يوافقه في معتقداته الفكرية الغيبية ، وبهذا تكون عقابا للآخر من معبود الاول.
اما اذا ما وقعت هذه الظاهرة الخبيثة على صاحب الفكر الغيبي عينه فيعتبرها نقمة. لكنها نقمة مبررة لانها من اختيار معبوده لان العابد لم يقم بكل مستلزمات ما طلب منه وهذا يعني عدم خضوعه الكلي للمعبود فتكون نوعا من العقاب والتنبيه له نتيجة لعدم خضوعه الكلي لمقومات الفكر الغيبي مما يستلزم عليه التضحية.
فكانت فكرة التضحية بغية الاستغفار لما ارتكب من ذنوب.
بداية كانت الضحية بشرية انثوية لما تمثله الانثى من طهارة ،شرط احتفاظها بعذريتها وبكارتها والا تكون مسنة لما يمثله مرور الزمن من تراكم الذنوب المقترفة.
ومع مرور الوقت تحولت الضحية المقدمة من انسانية انثوية الى حيوانية.
بالعودة الى الظاهرة الطبيعية في الفكر الغيبي فهي تبقى تتأرجح ما بين النعمة و النقمة في هذا الفكر والذي يعتمد في تصنيفه لها على من تقع هذه الظاهرة ونتيجتها.
فها هي كاترينا- طبعا المقصود هنا اعصار كاترينا وليس فتاة عذراء يكون اسمها كاترينا- تدغدغ اصحاب هذا الفكر بغض النظر الى اية غيبية او غيبوية ينتمون لتثير فيهم نشوة الاتنصار الآتي من المعبود.
فها هو احدهم يقول في بيانه "فقد أحلت غارة الله على اميركا واجيبت دعوة المظلومين... ونزل غضب الجبار على القوم الظالمين... فإن ربك للظالمين بالمرصاد..." وآخر يقول "... ان الكارثة التي سببها اعصار كاترينا في الولايات المتحدة هي بمثابة عقاب انزله الله على الرئيس الامريكي جورج بوش لدعمه الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة... وتسونامي آخر سوف يضرب السود بسبب عدم دراستهم للتوراة".
بهذه الكلمات ومثيلاتها تبادل الفكر الغيبي التهاني وكذلك التعازي مع استعمال كلمات منتقاة لهذه المناسبة بغض النظر ما اذا كان هناك بين من مات وتعفنت جثته من تبع هذا الفكر الغيبي او ذاك المهم هو ان هذه الكارثة والتي ذهب ضحيتها من ذهب اصابت (القوم غير المؤمنين). هذا ما كان قد قدره المعبود وعندما يقرر المعبود لا يرد قضاءه.
بعد تلك المرحلة البدائية والابتدائية ظهر العقل العلمي وها هو يتطور مع الزمن والذي يعتمد في منهجية تحليله للظاهرة الطبيعية على العلم من دون ان يكون هناك اي دور للمعبود فيها.
فكيف يفسر هذا العقل العلمي اعصار كاترينا.

ما هو الاعصار:
الاعصار هو عبارة عن عاصفة استوائية بسرعة ريح ثابتة تصل الى 74 ميل في الساعة وما فوق وتدور حول مركز هادئ نسبيا يعرف بـ"العين" وعادة ما تكون هذه "العين" ما بين اتساع يتراوح ما بين 20-30 ميل والعاصفة من حولها يمكن ان يصل اتساعها الى حدود 400 ميل.
يمكن للاعصار ان يبقى لمدة اسبوعين فوق سطح المياه المفتوحة ويسير لمسافات شاسعة. ويعد شهرا آب وايلول بشهري قمة موسم الاعاصير. الذي يمتد من اول شهر حزيران وحتى نهاية شهر تشرين الثاني.
وتقاس الاعاصير وفقا لميزان سافيروقد اصاب اميركا في هذا القرن 3 اعاصير من الفئة الخامسة .اما بالنسبة للتسمية فان العلماء يختارون بالتوافق اسما للاعصار بالتسلسل الابجدي على ان يكون الاسم تارة مذكرا وتارة مؤنثا بالتناوب.

هنا يمكن قسم تكاليف الاعصار الى قسمين رئيسين هما التكلفة المادية والتي يمكن العمل على تعويضها بوسائل عدة وتكاليف بشرية وهي ما لا يمكن تعويضه مهما بلغت المحاولة في ذلك لكون الكائن البشري هو صاحب ما فوق القيمة وبهذا تبقى القيمة مهما ارتفعت دون مستوى قيمة الكائن البشري الا اذا اراد الانسان تشيء كيانه وتحويله الى قيمة. وهنا تكون امكانية تقديره ما يعني يمكن تعويضه.

التكاليف المادية:
حتى تاريخه تبقى الارقام الممطروحة هي عبارة عن توقعات وتقديرات اولية تعبر عن مدى هول ما احدثه اعصار كاترينا من اضرار مادية جسيمة في جميع القطاعات مما استدعى طلب التعاون العالمي لتحظي هذه الاضرار فهرعت الدول ان كانت فقيرة ام غينة الى التبرع للولايات المتحدة في حين دول آسيوية قدمت معونتها من دون طلب.

وقدمت دولة الكويت منتجات نفطية قيمتها 500 مليون دولار مساعدة للضحايا، اما الامارات العربية المتحدة قررت تقديم "مساعدات اغاثة عاجلة" تشمل مستلزمات ومواد طبية ومواد اغاثة انسانية في حين قررت قطر التبرع بمئة مليون دولار وقد اعلن رئيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الامم المتحدة الانمائية "اغفند" مساهمة الربنامج بمبلغ 250 الف دولار اميركي.

اما على صعيد محاولة تقدير كلفة الخسائر فهي ما يقرب 100 مليار دولار اميركي وهذا ما تتوقعه شركة "ريسك مانا جمنت سوبيوشنز" وان تبلغ الخسائر المغطاة ببوالص التأمين ما بين 20 و30 مليار دولار.
لويزيانا وميسيسيبي والاباما هذه الولايات الثلاث التي ضربتها كاترينا تمثل 3% من الناتج الداخلي الهام في الولايات المتحدة الاميركية بحسب الاقتصادي ايثان هاريس من شركة "لهمان براذرز".

وعلى ما يبدو فإن نتائج الاعصار سوف تكون اكثر كلفة من الاعصار نفسه ، هذه النتائج المتمثلة بالواقع الاجتماعي للولايات المتحدة التي ضربها الاعصار مخرجا من اعماقها ما هو خفي ليطفو على السطح، ليظهر بذلك ما يتواجد في الطيات العميقة للعقل العلمي من موروثات العقل الغيبي فهو لا علمي ولا غيبي بل عقل يستخدم بعض من هذا وبعض من ذاك ليبرر ما يقوم به.

بالعودة الى الفكر العنصري وتحديدا المعتمد على لون البشرة والطبقة التي ينتمي اليها يتلاعب هذا الفكر "اللاعلمي" و"اللاغيبي" بين مقوماته وقد اتاه اعصار كاترينا ليخرج منه بعض مظاهره "الغيبية" المبررة بنظريات حاولت ان تكون علمية، لكنها فشلت، فهي عنصرية.
وتبرز عملية التبرير من خلال ما حدث وما نتج من اعصار كاترينا. فهذا الموروث المقدس القابع في طيات هذا العقل المدعي بأنه علمي طفى على السطح كما طفت على سطح الماء الجثث المتعفنة والتي كان يمكن لها بأن تنقظ لولا هذا (المقدس) الكامن. ما يجعل هذا العقل الهجين عقلا منفعيا. فها هو مستخدم شعار (بلاد محور الشر) و (الحرب الصليبية الجديدة)، و(سنظل نعيش في عالم غير مستقر، ويجب ان نكون متأكدين من اننا نستطيع الرد بطريقة صحيحة على هجمات بأسلحة الدمار الشامل او اعصار آخر) ينتقل الى الغاء موافقة سابقة على ميثاق كيوتو لما في ذلك من تحقيق لمصالح اقتصادية بغض النظر عن عواقبها البيئية.
هكذا يتلاعب هذا الفكر (اللاعلمي) و(اللاغيبي) بين مقوماته. وقد اثار اعصار كاترينا هذا العقل ليخرج منه بعض مظاهره (الغيبية) المبررة بنظريات حاولت ان تكون علمية، لكنها فشلت، الا وهي العنصرية.

مع وجود ما يزيد عن 20 الف جثة متعفنة ومياه تغمرها للتحول الى مستنقعات من السموم تعيش فيها الحشرات وتنبعث منها رائحة الموت ناشرة الامراض والاوبئة التي يخافها البشر ظهر الواقع الاليم.

لقد تأخرت عمليات الاغاثة والانذار وبدأت الاتهامات.

وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز" تقول " ما شاهده العالم المصدوم في نيواورليانز...لم يكن مجرد انهيار سد ، بل كان انقساما عرقيا وطبقيا، مألوفا وجديدا بشكل مريع في آن، وقد انكشف في بيئة بات فيها الناس بين الحياة والموت" "انه تصوير دقيق للمهمشين في هذا المجتمع" هذا ما قاله كريستوفر جينكس، استاذ العلوم الاجتماعية في جامعة هارفرد، في صحيفة "نيويورك تايمز".
وقد قال اثنان من مسؤولي الصليب الاحمر الاميركي ان عروض الهيئة الانسانية بإرسال مساعدات الى نيواورلينز رفضت مرتين من جهات حكومية. كما اظهر استطلاع للرأي اجراه مركز (بيو) للابحاث ان ثلثي الاميركيين يعتقدون بأن الرئيس كان في وسعه فعل المزيد.
من هذا الاستطلاع يمكن ان يظهر مدى عمق ما خلفه الاعصار من عامل العنصرية في هذا العقل الغيبي والغيبوي حيث 66% من الاميركيين السود الذي شملهم الاستطلاع ان رد فعل الادارة كان سيكون اسرع اذا كان معظم الضحايا من البيض.
وقد قال كولن باول، وزير الخارجية الاميركية السابق، انه (كان هناك تحذير اكثر من كاف زمنيا في شأن المخاطر التي تواجه نيواورلينز. ولكن ما نفذ لم يكن كافيا) في ظل هذه الانتقادات وقع الرئيس الاميركي قانونا يقدم تمويلا اضافيا بقيمة 51.8 مليار دولار لجهود الاغاثة في المنطقة التي ضربها الاعصار.

وها هو الآن يعترف بوجود تقصير في عملية الاغاثة وقد قدم مايكل براون، مدير الوكالة الفيدرالية لادارة الحالات الطارئة استقالته. قد تكون استقالته تعود لفكرة "الرجل المناسب في المكان المناسب التي عاودته لكونه قبل ان يكون مسؤولا عن معالجة الكوارث واعمال الاغاثة كان مسؤولا لسنوات عدة عن الجمعية الوطنية للخيول العربية.

من هنا نقدم تعازينا للنظام الاميركي بمقدار ما قدم تعازيه لنا في ضحايانا الذين ماتوا نتيجة لمنهجية عقله "اللاعلمية" و"اللاغيبية" ان كان بطريقة مباشرة ام غير مباشرة.
فهل قراء هذا الفكر (الهجين) الذي يحوي في طياته (الموروث الغيبي) الواقع فأراد التخفيف من مما هو قائم ليجعل من موروثه المقدس هو السائد.