احمد ديركي: بعد ثورة الاتصالات التي بدأت في القرن الماضي اصبح بإمكان الخبر أن ينتقل من مكان الى آخر بسرعة تفوق كل توقعات الذين عاشوا في القرن الماضي.فمن خلال شبكة الاتصالات الحديثة اصبحت مهمة نقل الخبر سهلة لا تقتصر على الصوت فقط بل تشمل الصورة التي تحتل الحيز الاكبر منه في معظم الاحيان .فالمسألة لم تعد متوقفة على رواية الخبر او التعليق على الصورة بل اصبحت الصورة هي الخبر. ما يهمنا في هذه العملية التكنولوجية المعقدة هي مسالة عرض الازياء بالصورة.

هناك محطة، رسمية، خاصة ومتخصصة بعرض اشهر التصاميم العالمية وكشف بعض جوانب حياة هؤلاء العارضين والعارضات والمصممين والمصممات.
وكون هذه المحطة عالمية ،فبإمكانك مشاهدتها على شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر وحاليا يمكنك مشاهدتها على شاشة الجهاز الخلوي الخاص. وبهذا فهي تلعب دورا رئيسيا في تشكيل الذوق العام لدى شعوب العالم في عملية اختيار ملابسهم ومحاولة توحيد هذا الذوق.

وما يمكن ملاحظته عند مشاهدة هذه المحطة هو موضة التعري. فالجميع يتجه نحو التعري المغري _اي ستر الجزء الذي يحوي الاعضاء التناسلية لدى المذكر أو المؤنث مع محاولة للستر المغري للصدر الانثوي والذي يمثل المصدر الاول لغذاء الانسان.

يتبعها المشاهد _مهما كان جنسه_ ويتابعها في محاولة لتشكيل ذوقه من خلال ارتداء التصاميم المعروضة وبالتالي الاختيار وفق ذوق هذا المصمم او ذاك .

هذا التعري والذي يمكن النظر اليه كنوع من تحرير الجسد من عقده الموروثة والقابعة في مكنونات عقله الباطني المنعكسة في شكلها الثقافي بصيغة الحرية من القيود ان كانت سياسية ام ثقافية ان اجتماعية.

الكسر لهذه القيود بتعرية الجسد وتحريره من الموروثات، بغض النظر ان كانت ايجابية ام سلبية، ومن المفترض لها ان تنعكس في طبيعة التعامل مع الانسان الآخر وتحطيم عنجهية quot;الاناquot; القابعة في داخل هذا الجسد والذي كان متسترا بطبقات من الثياب تخفي جميع تفاصيله.

فهذا التعري الكاشف لمعظم اجزاء الجسد يعني بأن ما كان مستورا ومتقوقعا في الداخل أصبح ظاهرا وغير خفي عمن يمكن ان يراه. اي ظهور حقيقة الانسان المتمثلة في الجسد أصبحت اكثر وضوحا وانفتاحا على الانسان الآخر ان كان مماثل له في الجنس أم لا.

المثير للدهشة أنه رغم هذا الكشف عن الجسد فإن quot;الاناquot; القابعة داخله أصبحت اكثر تقوقعا على الذات وارتفع مستوى عنجهيتها لدرجة انها اصبحت هي quot;الاناquot; المتقوقعة الحاكمة والمتسترة لدرجة الاحتجاب داخل هذا الجسد المتعري!

فقد بنى هذا الجسد المتعري المغري جداره الفاصل للـquot;الاناquot; المتعنجهة بداخله، ليفصله عن كل ما هو محيط به ومختلف عنه بدل أن يكون صيغة كشف وانكشاف للمختلف في سبيل تعرف الانسان على الانسان للوصول الى المعنى الحقيقي للانسانية المتخلية عن quot;الاناquot;.

كل من هو مختلف، والمختلف هنا لا يعني الاختلاف الشكلي بل الاختلاف في quot;الاناquot; المتقوقعة داخل الجسد، يجب ان يفصل عن quot;الاناquot; من خلال جدار لا يمكن خرقه ان كان جسد أو مصنع من اسمنت مسلّح لمنع وصد هذا الانسان المختلف من خرق quot;الاناquot; التي تحمي ذاتها في الجسد الظاهر كما هو الجدار الظاهر بفارق واحد وبسيط الا وهو ان الجسد محكوم بقوانين quot;الاناquot; والجدار الاسمنتي الفاصل محكوم بقوانتن دولية هي ايضا من صنع quot; الاناquot;.
بني جدار الفصل الاسمنتي في فلسطين المحتلة ليفصل quot;الاناquot; الاسرائيلية عن الشعب الفلسطيني رغم اعتراض المحكمة الدولية واعتباره جدار فصل عنصري وكذلك الامر رغم اعتراض العديد من المنظمات الانسانية.

كل هذه الاعتراضات لم تأت بأية نتيجة ومازالت عملية البناء مستمرة لعزل هذا المختلف عن quot;الاناquot; المتقوقعة داخل الجسد.

يبدو بأن هذه quot;الاناquot; مرض معد لكل من يملك quot;الاناquot; المتعنجهة والمتقوقعة. وما دامت العلاقة وطيدة ما بين الجسد الحكومي الاسرائيلي والجسد الحكومي الاميركي فمن الظاهر بان هذه العدوة قد انتقلت الى تلك quot;الاناquot; المتقوقعة في الجسد الاميركي.
وفي محاولة منها لحماية تقوقعها فعلت كما فعلت quot;الاناquot; الاسرائيلية وباشرت في بناء جدارها الاسمنتي الفاصل ما بينها وبين المكسيك في سبيل منع وصد دخول جسد العامل / العاملة المكسيكي الى ارضها والعمل فيها. وبما ان quot;الاناquot; الاميركية حديثة الخبرة في هذا المجال فقد التصقت بـquot;الاناquot; الاسرائيلية اكثر لتكون العدوة كاملة وذلك من خلال طلب الاستعانة بخبراء منها لمساعدتها في هندسة وبناء هذا الجدار الاسمنتي الفاصل.

جسد انساني يعرّي كيانه لمن يرغب باكتشافه في سبيل تحطيم عنجهية quot;الاناquot; المتقوقعة داخله يقابله جسد سياسي يعرّي كيانه في سبيل حماية عنجهية quot;الاناquot; المتقوقعة داخله.

لمن سوف تكون الغلبة؟! سؤال مطروح على كل من يشاهد كلا الجسدين.