دماء فى شوارع فسيفساء الشرق
أسبوع الآلام في عروس المتوسط

أحمد عبد المنعم : يبدو أن مدينة الثغر التي سجلت طوال تاريخها النموذج الأمثل للتعايش بين البشر بمختلف الثقافات والانتماءات الدينية والعرقية لم تعد كذلك.. فالمدينة التي شيدها الاسكندر الاكبر قبل مئات السنين لتتحول الى ما يشبه الفسيفساء التى تجمع أعراق شتى فى بوتقة واحدة من دون أن يلحظ أحد هذا الاختلاف الذي قد يصل الى حد التناقض في كثير من الأحيان تخلت عن ميراثها التاريخي .
في العصور القديمة جمعت هذه المدينة بين اليونانيين والمصريين والرومان والعرب ثم المسلمين والاقباط،و تحولت فى العصر الحديث الى قبلة للأجانب من كافة الجنسيات الذين ضاقت بهم مواطنهم الاصلية لتتسع عروس المتوسط لهم جميعا . لم يشعر أحدهم يوما بغربة الاهل والوطن ولم يشكو من الوحدة والاضطهاد .. فالمدينة أشبه بالعروس التى تخطب ود زائريها وقاطنيها من دون سؤالهم عن عرق أو دين .

مرت الأيام ومضت السنين لتتغير الأجيال وتتبدل الأحوال . ضاقت مدينة الثغر بسكانها وملت قاطنيها . استيقظ quot;الاسكندرانيةquot;- كما يطلقون على انفسهم- صباح الاسبوع الفائت على كابوس ضج مضاجعهم وكاد يتسبب فى زلزال يهدم أركان مدينتهم ويختصر الوان الطيف التى جمعتها فى اللون الاسود فقط الذى يرفض بقية الالوان .

مختل عقلي يقتحم ثلاث كنائس الواحدة تلو الاخرى ليقتل عجوزا بلغ من العمر أرذله ويصيب آخرين . أشهر سلاحه الابيض فى وجه مجموعة من العزل ظنا منه انه بذلك يجاهد فى سبيل الله . وصفوه بالمختل عقليا وهو قول حق يراد به باطل، فهو بالفعل قد وصل من الجنون ذروته و بلغ قمته بالاقدام على هذه الفعلة الحمقاء والغير مبررة .

هو حقا معتوه عندما ظن انه بقتل عجوز او اصابة بريء قد جاهد فى سبيل الله لا في سبيل الشيطان الذى ملأ رأسه وقلبه . هو حقا مختل الادراك منذ اللحظة التي راودته نفسه بالإقدام على هكذا فعلة .

كل ذلك لا يمنع كونه قد فكر وخطط وقرر ونفذ ، وهي خطوات يصعب على المجنون القيام بها .وبسرعة تعاملت الجهات المعنية مع الحادث بطريقة سطحية غير مقدرة لخطورته ، فالجاني مختل عقلي وتم القبض عليه .وعلى الجميع التزام الصمت والهدوء .

وفي اليوم التالي شيع جثمان الضحية الى مثواه الاخيروتحولت الجنازة الى معركة بين الاقباط الثائرين والمارة المسلمين . من حق اقباط مصر أن يغضبوا . من حق اقباط مصر أن يثوروا . من حق اقباط مصر ان تدمع عيونهم حزنا على ما حدث ، ولكن قطعا ليس من حقهم أن يهاجموا المارة من المسلمين . ليس من حقهم الاعتداء على المساجد وتكسير واجهات المحلات .كان ضربا من جنون أيضا حمل الصليب وترديد هتافات عدائية ضد المسلمين ، فالذي اقدم على هذه الفعلة كان مسلما ولكنه لا يعبر عن جميع المسلمين فقد أدان الحادث المسلمين قبل المسيحيين .. سبوا المعتوه وطاردوه باللعنات جزاء ما اقترفه من فعلة دنيئة وتعاطفوا مع اخوانهم الاقباط ليوم واحد. وسريعا ما تحول هذا التعاطف الى غضب ملأ الصدور والقلوب خاصة بعد ان وصلت حصيلة غضب الاقباط الى قتيل وعشرات الجرحى . قتيل دفع ثمن جريمة لم يقترفها وراح ضحية جريمة لا ناقة له فيها ولا جمل.

استغل ضعفاء النفوس من الطرفين الأحداث وأخذوا ينفخون فى النار لتزداد اشتعالا حتى تحولت شوارع المدينة الى ساحة نزال .. كر وفر بين فتية كانوا بالأمس يلهون سويا ،واليوم يسعى كل واحد منهم الى التخلص من الاخر . كانوا بالامس يجلسون الى جوار بعضهم البعض فى الفصل الذى يجمعهم واليوم يشهر كلٌ منهم السلاح الابيض فى وجه الاخر . كانوا بالامس القريب يقفون سويا فى المدرجات رافعين علم مصر ومرددين الهتافات للشد من أزر فريقهم الذى يخوض مباريات كأس الامم الافريقية واليوم رفعوا الصلبان والمصاحف وأخذوا فى ترديد الهتافات العدائية ضد بعضهم البعض . حقا يا له من أسبوع حزين لمدينة الثغر أو فسيفساء الشرق.ستمر الايام وستمضى الأسابيع وسيزول هذا المشهد الحزين ، سيسقط من ذاكرة المصريين ليحل محله المشهد الذى جمع الهلال والصليب فى ثورة 1919 ودماء الشهداء التى وحدت عنصري الامة فى الحروب التى خاضتها . سيظل فى الذاكرة علم المصريين ويتوارى قليلا مشهد الصلبان والمصاحف .والى أن يزول هذا المشهد الحزين من الذاكرة علينا أن نعض أناملنا خجلا مما حدث وأن نشعر بالندم على ما اقترفناه من اثم فى حق أمة عريقة وشعب أعرق .. فسقوط المشهد من الذاكرة لن يسقطه من التاريخ ولن يرحمنا الأبناء ولن نسلم من لعنة الأجداد!!