دماء على القضبان
أناس يحرقهم الاهمال ..والمسؤولين يفترشون الشواطئ

تصوير احمد عبد المنعم

خاص إيلاف
أحمد عبد المنعم : من لم يمت بالعبارة مات بالقطار، ومن أفلت من الاثنين سيجد الاتوبيس في انتظاره. فكلها طرق تؤدي الي نتيجة واحدة.. الموت فجأة وبلا رحمة.فالمواصلات في مصر وسيلة للنقل الجماعي والقتل الجماعي أيضاً، عليك أن تنطق الشهادتين قبل أن تستقلها وعليك أن تحمد الله على السلامة بمجرد مغادرتها فهي تحمل شعار الراكب مفقود والنازل مولود.. لا فرق في ذلك بين سفينة تبحر في المياه وطائرة تسبح في الفضاء. ولا فرق أيضاً بين حافلة تسير علي الطريق وقطار يسرع فوق القضبان. فالسفينة يبتلعها البحر في دقائق والطائرة تتحطم في ثوان والحافلة تنقلب أو تغرق بركابها في مياه النهر والقطار يخرج عن القضبان أو يصطدم بآخر.. والحصيلة النهائية آلاف الموتى والجرحى كل عام.

لا يمر يوم ولا ينقضي أسبوع دون أن تغرق مصر في مآساة جديدة يروح ضحيتها العشرات وأحياناً المئات.. فقبل أن تجف دموع المصريين علي شهداء العبارة سالت أنهارا على شهداء حادث تصادم القطارين في مدينة بنها. كانت أشعة الشمس قد بدأت ترسل خيوطها لتبدد ظلمة الليل عندما استقل مئات البسطاء القطاريتن متجهين الى أماكن عملهم في القاهرة حاملين من الهموم ما تنأى الجبال عن حمله. فعليهم توفير مصاريف الدراسة لأبنائهم بعد أن اقترب موعد بداية العام الدراسي وعليهم أيضاً عدم اسقاط المصاريف الاضافية التي يتطلبها شهر رمضان الذي بات هو الآخر على الأبواب.. والى جانب هذه القدر من الهموم عليهم تحمل سخافة المدراء ومضايقة الزملاء في العمل.. باختصار شديد عليهم القبول بحياه قاسية تخلو من متعة أو بهجة حتى وإن كانت للحظات عابرة.

هم بالفعل قبلوا هذه الحياة القاسية دون شكوى.. مضوا في طريقهم بحثاً عن بضعة جنيهات تسد جوع يكوي أسرهم البسيطة.. ولكن القدر أبى أن يمنحهم تلك الجنيهات تاركاً أسرهم في انتظار المجهول.

سالت دماء البسطاء فوق القضبان وتحطمت عظامهم بين عربات القطار .
اختطلت أجسادهم المرهقة بقطع حديدية تناثرت في أعقاب التصادم حتى باتت المهمة الاصعب على رجال الاسعاف فصل أشلاءهم عن تلك القطع الحديدية.

آخرون كانوا اوفر حظاً فاحتفظوا بأجسادهم كاملة ولكن بعد أن تفحمت بفعل ألسنة اللهب المتطايرة.. كثير من المصابين أيضاً انتقلوا سريعاً الي قائمة الموتى بفضل تأخر سيارات الاسعاف وتباطؤ رجال الدفاع المدني.. سيناريو تكرر كثيراً خلال السنوات الماضية وأصبح جزءاً من الحياة اليومية للمصريين.

خاص إيلاف
أناس يطحنهم الفقر ويحرقهم الاهمال وتقع المسؤولية في النهاية على واحد من البسطاء أيضاً يقدمه المسؤولين كبش فداء لجرائمهم.. وكلما زادت الجريمة بشاعة كلما اضطر المسؤولون لتقديم كبش فداء من الوزن الثقيل.. هذه المرة كان رئيس هيئة السكك الحديدية ونائبه كبشا الفداء لحادث القطار وليس عامل التحويلة أو السائق كما كان الحال في الحوادث السابقة.. كانت دماء البسطاء تسيل أنهاراً على قضبان القطارات بينما رئيس الوزراء ومعظم أعضاء مجلسة يفترشون الشواطئ هرباً من جحيم الحر في القاهرة.. بعضهم فضل شواطئ أوروبا وأميركا وآخرون لم يسعفهم الوقت فإنتقلوا الى المدن الساحلية المصرية .

عكر نبأ الحادث صفوا حياتهم واضطرهم للعودة سريعاً الى القاهرة لاطلاق التصريحات النارية حول محاسبة المسؤوليين عن الجريمة وأن أحد لن يفلت من العقاب.. والى جانب تلك التصريحات أطلقوا ايضاً مزيد من الوعود بتعويض المتضررين من خلال صرف اعانات عاجلة.

بتصريحاتهم حول ضرورة مساءلة المهملين حولوا التهمة الى آخريين غيرهم رغم أنهم يتحملون النصيب الأكبر من هذه المسؤولية.. وبحديثهم عن قيمة التعويضات كشفوا عن سعر المواطن المصري من وجهة نظرهم..فهو لا يساوي أكثر من 5 آلاف جنيه- أقل من ألف دولار- وهو رقم يدرك المسؤولون جيداً أنه لا يكفي لشراء بقرة من سوق المواشي ولا يكفي أيضاً لاعداد المقبرة التي سيوارى فيها الضحية.

اعتاد المصريون على مثل تلك الكوارث.. واعتادوا أيضاً على هذه الخليط من المشاعر الذي ينتابهم عند كل كارثة.
حزن وغضب وثورة على الأوضاع سرعان ما تهدأ بمرور الوقت.. وبالتأكيد ستهدأ الأمور وستعود الحياة الى طبيعتها.. أناس يطحنهم الفقر ويحرقهم الاهمال ومسؤولون يفترشون الشواطئ.

خاص إيلاف

خاص إيلاف