نورالهدى غولي : يقتلع من ذهنه كل ما قد شيتت افكاره عن قضيته، يقتنع من لحظات زهده الأخيرة، يودع أحبابه، يغلف نفسه بحزام ناسف.. والله أكبر. هكذا قد تبدأ وتنتهي حكاية الفدائي في الغالب، يوصل رسالة قاسية وبمعنى خاص جدا عبر فعل أكثر خصوصية.. لكن المعنى الذي رغب هذا الشهيد في إيصاله سيختلف بالتأكيد من متلق لآخر.. ذلك أن مستويات الفهم باتت على تباين كبير.

سيناريوهات مماثلة تتوقف عليها حياة أفراد وعائلات بأكملها، ومعها ترتبط قضية هؤلاء الفدائيين أيضا، في الوقت نفسه لا يعدو مثل هذا quot;المسلسلquot; المبالغ في فنتازيته، سوى quot;عمليات انتحارية إرهابيةquot; تقتل أبرياء آخرين من دون وجه حق.. يطرح أصحاب هذا الاعتقاد سؤالا كبيرا غير مفهوم: quot;كيف له أن يضحي بحياته ليطفأ حياة أناس غيره؟quot;.

أول كلمة جاهزة صارت تقذف في هذا المنحى هي كلمة quot;الإرهابquot;. الحساسية من هذا المصطلح الفضفاض راحت تتسع شيئا فشيئا بحكم الاستخدام الواسع له، لم يعد من الصعب أن يتم تحديد أية حالة عنف أو رد فعل خارج هذا السياق. كل quot;ضعيفquot; يمارس العنف أو يحاول اللجوء إليه هو إرهابي. الأقوياء طبعا دائما معذورين، وبعيدين عن هذه السياقات اللفظية ما داموا يتمتعون بحصانة قانونية، دولية، شرعية، ذهنية، خرافية.. وقائمة العلل تطول!
هنا في الجزائر لم يكن المصطلح مستحدثا كما هو حاصل في العالم أجمع الآن.. قبل أكثر من عقد نصف كان هذا الوطن وأفراده على موعد دائم مع هكذا تفسير. الجميع يقذف بالكلمة صباحا ومساءا، مع فهم لها او حتى من دون ادنى فهم لها .لكن الخلل هذه المرة أن مثل هذه التسمية جاءت ممن يمتهنون فعل الإرهاب أصلا.. تخلوا عن مصطلحهم الأول quot;الجهادquot;، ليلصقوا أنفسهم تسميةذات رنة اكبر وذات تأثير وجلجلة اقوى في النفس . حجتهم في ذلك الآية الكريمة: quot;وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون بها عدو الله وعدوكمquot;. فأرهبوا الجميع دون استثناء!

لم يكن للحلقة الأقوى في هذه القضية أيضا أن تنزع عنهم هذه التسمية، فكان كل من الطرفين يدافع عن فكرته بأطراف تيارات فكرية متشعبة، وبينهما انقسم الشعب بين مؤيد ومعارض، وفي أحيان كثيرة وتحت سطوة الخوف والرغبة في ضمان الحياة _لا غير_ quot;ابتلعواquot; أشياء كثيرة تبعد كل البعد عن الاقتناع.
quot;دمنا سخون بزافquot;.. هكذا هو الاعتقاد الراسخ بالنسبة للجزائريين، وبشهادة كل من تواصل معهم. هذه الجملة تختصر حال الجزائريين أصحاب الحمية العالية، والنرفزة الباقية على الحافة دائما. لكن هامش الصفة الذي كان موجودا دائما تمت ازاحته في الفترات الأخيرة، منذ أن اقتنع هذا الشعب بضرورة المضي بحكمة وهدوء عوض جرعة quot;الحمية الزائدةquot; وquot;شعرة النيف/ الأنفquot; الطويلة ذلك أنهم وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع جدار صلب يثني عن كل شيء.

قبل سنوات أيضا.. وخلال حرب الخليج الأولى، لم يكن لأحد منهم أن يقف الموقف الهامشي الحيادي، بل كان الرأي العام كله مستنفرا للحال الذي وصل إليه العرب.. هم القابعون في رقعة أخرى من المغرب العربي.. أغاني ثورية، وحملات تطوعية للشباب من أجل المشاركة في الحرب ضد العدوان، زغاريد نسوة تسترجع مجدها الضائع _كأم شهيد_ منذ أيام الاستعمار الفرنسي الذي أدحر بقوة المجاهدين على مستويات المدن، القرى والجبال.

لم يعد دم الجزائريين حاليا باردا بالضرورة، لكنهم في الوقت نفسه لم يغدوا بالحرارة التي كانت عليه سابقا . لن تنجح كثيرا الآن لو حاولت بأي شكل من الأشكال أن تخلق نوعا من التعبئة ، اختلف معنى القوة والضعف، وصار ميزان الأشياء عندهم يخضع لأشياء أخرى، بعد أن أجهضت أحلامهم.. كل ما قدموه سابقا لم يزد إلا الطين بلّة.. فما الداعي لمزيد من العطاء مقابل بلل منتشر في الطين حدّ الغرق!

إلى أية درجة قلّت العمليات الانتحارية بعد أن ميّع المعنى؟ وهل يمكن لأصحاب قضية معينة أن يتنازلوا عن عرش وعي معين بسبب خطاب إعلامي موجه، حتى وان تمت ممارسته بحدّة؟.. آخر هجمة كانت من سوريا.. لشباب quot;انتحاريينquot;/ إرهابيين/ فدائيين/ مقاوميين.. أمام السفارة الأميركية. لكن كيف كانت المحصلّة في النهاية؟.
سنوات خمس على المعنى الجديد للإرهاب.. كل شيء تغير في خارطة العالم عدا الحروف الخمسة للكلمة التي صارت تؤدي أكثر من غرضها أضعافا مضاعفة. طبعا حتمية التغيير ستطال كلّ شيء حتى ولو ساد منطق القوة إلى أكثر من هذا زمنا.

[email protected]