في العام 1929، وفي مدينة برنو التشيكية ولد الروائي ميلان كونديرا.. عشق الموسيقى منذ صغره ودرسها إذ كان والده عازف بيانو بارز. وفي الجامعة درس علم الجمال وتاريخ الأدب، والتحق بكلية السينما في براغ، وحين منعت السلطات في بلاده كتبه غادر إلى المنفى، واستقر في فرنسا مع زوجه منذ العام 1975.. هناك، بعيداً عن المناخ الخانق للنظام الشمولي كتب رواياته التي منحته الشهرة والمجد، ومنها "الحياة هي في مكان آخر"، وتحكي قصة شاعر من جيل سبعينيات القرن الماضي، تمسخه الإيديولوجيا فيشي بحبيبته للسلطات الأمنية، ويتسبب بسجنها. أما "كتاب الضحك والنسيان" فهي رواية من مقاطع متفرقة ينقل كل منها صورة عن الوضع المأساوي والمضحك في آن، داخل بلده إبان الحكم المستبد.. وفي رواية "خفة الكائن التي لا تحتمل" يقدم لنا أستاذاً جامعياً عالماً يُطرد من وظيفته لأنه غير منتم للحزب الحاكم، ومغضوب عليه من قبل ذلك الحزب، فيضطر للعمل منظفاً لزجاجات النوافذ في البيوت والمكاتب، أو يجبر على ذلك. أما في رواية "الخلود" فيتألق كونديرا من خلال تقنية متميزة كما في رواياته كلها، ولكن بطريقة مختلفة في هذه المرة، حيث يمتزج الواقعي بالخيالي داخل النص الروائي، وتكون الشخصية المتخيلة "آكنس" حقيقية في ما بعد، عندما يلتقيها الروائي كونديرا الذي هو الراوي الأول أيضاً داخل الرواية. ويقيناً فإن في تلكم الروايات ثيمات ومضامين أخرى غير هذه التي ذكرتها بابتسار شديد.

في روايات كونديرا هناك مسحة من السخرية دائماً، وهو يتفق مع اكتافيو باث ـ الشاعر المكسيكي ـ في أن السخرية هي الاختراع العظيم لروح العصر الحديث.وتتجلى نبرة السخرية بأصفى أشكالها في مجموعته القصصية "غراميات مرحة"، وفضلاً عن ذلك فإن كونديرا ينتمي بعمق إلى تقاليد الحياة الغربية "الأوروبية"، ولاسيما إلى الإرث اللبرالي المتحدر من عصر الأنوار، حيث التركيز على الفرد وحريته وهويته.. يقول؛ "ماذا نعني بالفـرد؟ أين تكمن هويتـه؟.. إن الروايات كافة تبحث للإجابة عن هذه التساؤلات". ولكونديرا فلسفته، لا في رؤية الواقع فحسب، وإنما في نظرته للرواية أيضاً. فالرواية كما يفهمها فن مهمته الوجودية هي اكتشاف الواقع، حيث أن الضروري في الرواية هو فقط ما يمكن للرواية أن تقوله، مثلما يؤكد.
بالمقابل ورث كونديرا تقاليد الرواية الأوروبية ولاسيما تلك التي ترسخت في بلاده "التشيك"، وكان كافكا نصب عينيه عندما لخص هذا الأخير المعضلة الإنسانية وجوداً وماهية ومصيراً في بضع روايات خالدة أبرزها "المسخ والقصر والمحاكمة وأمريكا".. وعن عالم كافكا يقول كونديرا: "إذا كنت أتمسك بتراث كافكا بهذه الحماسة، وإن كنت أدافع عنه كأنه تراثي الشخصي فليس لأني أعتقد بفائدة تقليد ما لا يُقلد { وإعادة اكتشاف الكافكوية }، لكن لأنه مثال رائع للاستقلالية الراديكالية للرواية {للشعر الذي هو رواية } سمحت هذه الاستقلالية لفرانز كافكا أن يتحدث عن شرطنا الإنساني { كما ظهر في قرننا } بطريقة لا تستطيع أي فكرة اجتماعية أو سياسية أن تحدثنا بمثلها".
يؤمن كونديرا بالرواية فناً أدبياً تدور حول لغز الـ "أنا" ويستشرف آفاق الواقع، ويقول ما لا تقدر أن تقوله الأنواع الأدبية الأخرى.. كذلك يؤمن بنفسه روائياً يقف بقوة على مسافة من التاريخ، ويرصد حركة العالم الذي يبعث على السخرية والأسى، وكما كان د . هـ . لورنس ـ الروائي الإنجليزي ـ يرى في الروائي كائناً أرقى من المهندس والطبيب والسياسي والقديس، فإن كونديرا كان يرى في ذاته الروائية شيئاً مميزاً جداً.. يقول:
"قد ثرت ذات يوم حينما خضت في بعض الحوارات الشاذة.
ـ هل أنت شيوعي سيد كونديرا ؟.
ـ لا .. أنا روائي.
ـ هل أنت منشق؟.
ـ لا.. أنا روائي.
ـ أتساند اليمين أم اليسار؟.
ـ لا هذا ولا ذاك.. أنا روائي.".
مكر كونديرا:
يرمي كونديرا إلى إدهاش قارئه، لاجئاً إلى أكثر الطرق والتقنيات مراوغة وإثارة ومكراً في الكتابة الروائية، والتي من خلالها يحصل على كشوفاته اللامتوقعة.
في رواية ( البطء ) يقتفي أثر البطء قيمةً إزاء السرعة، موازناً بين فعلين/ حكايتين/ متناظرين، ومتباعدين يحدثان في زمنين مختلفين، ولكن في المكان عينه. وفي رواية "خفة الكائن التي لا تحتمل" يجل قيمة الخفة في مواجهة قيمة الثقل، واضعاً إيانا في قلب التساؤل عمّا إذا لم تكن سطوة الثقل قدر عيشنا التي يتهددنا، مظهراً لنا، كما يقول إيتالو كالفينو/ الروائي الإيطالي؛ ( كيف أن كل ما نختاره ونمنحه قيمة في الحياة بسبب خفته سرعان ما يكشف عن ثقله الحقيقي الذي لا يطاق ).
أما في رواية "الخلود" فإنه يخرق بمشرط الخيال جلد الواقع البليد ويحوله.
يلاحظ الراوي الذي هو الروائي نفسه "كونديرا" ابتسامة امرأة عجوز في مسبح، وتلويحة يدها الرشيقة، فيستعير الابتسامة تلك مع تلويحة اليد ليخلق شخصية متخيلة هي "آكنس/ المرأة المتزوجة الجميلة" زاعماً أنه ( مثلما خرجت حواء من ضلع آدم، ومثلما ولدت فينوس من رحم الأمواج فإن "آكنس" ولدت من تلويحة تلك المرأة البالغة من العمر ستين عاماً عند المسبح ).
وبوصف الرواية ـ أية رواية ـ عملاً تخيلياً فإن مستويات الخيال تتداخل في هذه الرواية. وإذا قلنا أن مقابلة الراوي/ الروائي للمرأة العجوز في المسبح هي مستوى أول للخيال فإن المستوى الثاني له هو إيجاد آكنس بقوة المخيلة الروائية. ثم حين يلتقي الراوي/ الروائي بآكنس ـ شخصيته المختلقة ـ في النهاية بعدما تتبع سيرتها بوساطة الخيال يكون المستويان قد تفجرا ليمتزجا بمستوى واحد ـ عام ـ يظل ينطوي في حقيقة الأمر على مستويات عديدة يتنقل القارئ الذكي في ما بينها بمتعة عالية.
ولا يختلف الأمر كثيراً في رواية "الهوية" إذ يتمازج الحلم مع الحقيقة حتى لا يكاد القارئ يفرق بينهما.. يغدو الحلم مكملاً لمسار الواقع المعيش. فعلاقة الحب بين "شانتال" و"جان دارك" تصاب بعطب عابر نتيجة الغيرة وسوء الفهم والرتابة فتجيء أحداث تقع في أحلامهما لتصل بهما إلى مصائر كابوسية، وحين يستيقظان يكون العطب ذاك قد وصل حد التلاشي. ومع هذا فإن الفاصلة في هذه الرواية بين الحلم والحقيقة لا تكاد تبين. يتبادل الحالمان المواقع، ويستدعي كل منهما الآخر، ويدخل في حلمه، غير أنهما لا يسردان أحلامهما. بل ثمة راوٍ عليم هو الذي يخبرنا بكل شيء. فهو حاضر أبداً، في الخارج وفي الداخل، في آن واحد. ومع ذلك فإنه لا ينبهنا إلى اللحظة التي فيها نتنقل، أو تتنقل شخصيات الرواية من منطقة الحقيقة إلى منطقة الحلم، أو بالعكس.. وفي الختام نكتشف أن ما جرى لم يكن حقيقة، أو أن جزءاً هاماً منه لم يكن كذلك.
( شانتال!. شانتال!. شانتال!.
كان يضم بين ذراعيه جسدها الذي هزته الصرخة "استيقظي! ليس ذلك صحيحاً!".
كانت ترتعش بين ذراعيه، وقال لها من جديد أيضاً عدة مرات بأن ذلك لم يكن حقيقياً. كانت تكرر بعده: " كلا، ليس هذا صحيحاً ليس هذا صحيحاً، وتهدأ ببطء" ).
وعلى الرغم من هذه الإضاءة الخاطفة فإن كونديرا يمارس معنا اللعبة حتى شوطها الأخير، ويتركنا حيارى.. إنه يعوّل على ذكائنا، ويثق بحدسنا، ويمنحنا فرصة أن نشاركه في إعادة ترتيب بيت روايته من خلال أسئلة متلاحقة ليس من اليسير الإجابة عنها بشكل قاطع.
وأول مرة ـ في الصفحتين الأخيرتين ـ يتدخل بضمير المتكلم "أنا" ، وهذه الـ "أنا" لا ندري لمن تعود.. لكونديرا الروائي الماثل على مسافة من روايته، أم للراوي الأول الذي هو كائن داخل نسيج الرواية.. "أنا" التي تتساءل، وهي في الحقيقة توجه لنا السؤال، نحن القراء، لتموه علينا ربما، أو لتزجنا في لعبتها التي ابتكرتها، ولم تعد بمقدورها السيطرة عليها تماماً.. إنها تطلب معونتنا، ومعها تورطنا في حكايتها.. حكايتها التي تتشعب في اتجاهات عديدة.وأنا أتساءل من الذي حلم؟. من حلم بهذه القصة؟. من تخيلها؟ هي؟ أم هو؟ أم كلاهما.. كل واحد عن الآخر؟. وانطلاقاً من أية لحظة تحولت حياتهما الواقعية إلى هذا الخيال الماكر؟. ما البرهة الدقيقة التي تحول فيها الواقع إلى لاواقع.. الحقيقة إلى حلم؟. أين كانت الحدود؟ أين هي الحدود؟.
في روايات كونديرا تغدو الـ "أنا" مركزاً، فرواياته معنية بالذات الإنسانية، والكيفية التي بها ترى أعماقها وتتفهم نفسها لكي "تكون.. في العالم". وإذا كانت الرواية كما يعبر عنها كونديرا هي ( صيغة نثر عظيمة يقوم المؤلف عن طريق ذوات تجريبية "شخصيات" باستكشاف بعض ثيمات الوجود الرائعة ) فإن مغامرة هذه الذوات التجريبية في العالم هي ثيمة الثيمات. وما يعني الروائي، ها هنا، هو ملاحقة مسارات المغامرة تلك بمنظور ولغة خاصين، حيث تتجلى قدرة وموهبة وبراعة الروائي واختلافه عن الروائيين الآخرين، ناهيك عن اختلاف الرواية عن بقية الأنواع الأدبية.
وكونديرا، في الغالب، يحاول الوصول إلى ما يريد فهمه أو اكتشافه عن طريق آخر غير الطرق التي ألفناها، واعياً أن على الروائي أن يرسم ( خريطة الوجود باكتشاف هذه الإمكانية الإنسانية أو تلك ). ولأن العملية تنطوي على رؤى وتصاميم مسبقة فإن هدف الروائي هو المضي في الرحلة حتى نهايتها، فهو لا يريد أن يكون في موقع الإله الذي يعرف قبلياً أي شيء وكل شيء، بل أن يكتفي بموقع الفنان الذي يداهم بوساطة اللغة والرؤية المديات اللانهائية من المجهول القابع بتحد أمامه.. يقول كونديرا ( عندما غادر الإله عرشه ببطء من حيث حكم الكون ونظم قوانينه، وفرق بين الخير والشر، ومنح كل شيء معنى، انطلق دون كيشوت من بيته إلى عالم لم يعد قادراً على معرفته. في غياب الحكم الأعلى، بدا العالم فجأة، في غموضه المخيف، وانقسمت الحقيقة المطلقة الواحدة إلى آلاف الحقائق النسبية التي يتقاسمها الناس.. هكذا ولد العصر الحديث، ومعه الرواية، صورة ذلك العالم ونموذجه ).

المصادر:
1ـ روايات كونديرا ( الحياة هي في مكان آخر، كتاب الضحك والنسيان، خفة الكائن التي لا تحتمل، غراميات مرحة، الخلود، البطء، الهوية ).
2ـ كتب كونديرا ( فن الرواية ) ترجمة؛ أمل منصور. و ( الطفل المنبوذ ) ترجمة؛ رانية خلاّف.
3ـ ايتالو كالفينو ( ست وصايا للألفية القادمة ) ترجمة؛ محمد السعد.

[email protected]