هل مر عام حقا علي رحيل جاك دريدا ، أشهر فلاسفة فرنسا في الربع الاخير من القرن العشرين؟ ... وهل اكتملت تجربته بوفاته في اكتوبر الماضي (1930-2004 ) حتي نقيمها ؟. راودتني هذه الاسئلة وغيرها وأنا أقلب كتاباته السياسية باحثا عن جملة هنا أو فكرة هناك ، في محاولة لفهم مايحدث أو بالأحري مالم يحدث . وحتي لاأتسبب في اساءة فهم محتملة للرجل ، فهو لم يتنبأ أو يستقرئ الطالع يوما ، ولم يدعي انه يمتلك رؤية مستقبلية للعالم ، ومع ذلك كان سابقا لعصره بمسافة كافية ، وبسبب هذه المسافة ، فان السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل تطور العالم بما يكفي لفهم تبصراته ، أم ان عاما واحدا علي رحيله غير كاف؟
لقد فطن دريدا، خلافًا لمعاصره الأشهر "يورجن هابرماس" (1929 - ) إلى أن أي خطاب - Discourse لا ينفصل عن "إرادة القوة" وأنه مشبع بالصراعات السياسية واللغوية والنفسية. وكل محاولة لإزالة هذه الصراعات عن طريق البلاغة اللفظية وصياغة مفهوم عام أو مصطلح متجانس يعلو فوق هذه الصراعات، إنما يفضي إلى فشل ذريع، أو قمع شمولي. وهو هنا يردد بشكل أو بآخر ما قاله "ألتوسير" من أن: كل الصراعات الفكرية هي صراعات سياسية داخل الفكر.
إن دريدا حين يلح على أن التفكيك - Deconstruction ليس مسألة خطابية أو نظرية وإنما هو مسألة عملية سياسية، أو قل أنه مسألة خطابية وعملية - سياسية في آن معًا. لقد فهم دريدا جيدًا خطر المعتقدات والأيديولوجيات التي تقسم العالم إلى نقيضين تامين: اليمين واليسار، الغرب والشرق، الخير والشر.
وأظهر أن هذه البنى القمعية "الدوجماطيقية" التي انبثقت مباشرة من داخل الميتافيزيقا الغربية، تهدد بالعودة دائمًا، مصحوبة بتأثيرات مدمرة. ومن ثم صارع من أجل إيجاد سبل جديدة "بكر" للتغلب على كل ما يقصي الاختلافات وكل ما هو آخر". لذا فإن التفكيك ينطوي على بعد ثوري، وهو ما أزعج بالفعل المحافظين في أوربا وأمريكا على السواء، ورأوا فيه نوعًا من العدوان على الحضارة التي يفتخرون بها.
ويبدو أن دريدا كان واعيًا بذلك، فقد لاقت فكرته عن "تفكيك" المركزية الأوروبية قبولاً في المزاج الأكاديمي الأمريكي، كما أن طروحاته في التأويل "الحر" أيدتها النزعة الليبرالية هناك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أمريكا هي النص الأبرز والأوضح الذي أقام دريدا في بنيته غير المتجانسة ليبين لنا عمليًا، كيف أن كل نص ينطوي على قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى تفكيكه، وأن الميتافيزيقا تترسخ في هذه البنية.
لقد عمد دريدا إلى تطبيق استراتيجيته على مختلف آثار الثقافة الغربية من نصوص فلسفية وأدبية وتشكيلية وبطاقات بريدية ووثائق ودساتير سياسية، وتحدد غرضه من ذلك كله في الكشف داخل هذه الآثار عن "حضور" - Presence الميتافيزيقا، وقدرة هذه المتون أو عجزها على تفكيك هذا الحضور أو هدمه. ويبدو أن "ليفي شتراوس" هو الذي أوحى له بأن "وجود الأشياء المقدسة في أماكنها هو ما يجعل منها مقدسة، لأنها لو انتزعت من أماكنها، حتى لو فكريا، لتدمر نظام العالم بأكمله" وهنا تكمن أهمية "النقد" كما دشنه "كانط" قبل أكثر من مائتي سنة، والتفكيك عند دريدا هو النسخة الجديدة للروح النقدية، إذ أنه يتعدى مرحلة النقد، كما أنه يتميز عن النقد.
فالنقد يعمل دومًا وفق ما سيكون أو ما سيتخذ من قرارات فيما بعد، أو هو يعمل من خلال المحاكمة والتقويم، أما التفكيك فهو أيضًا تفكيك النقد لأنه لا يعتبر أن سلطة المحاكمة هي السلطة العليا، ومن ثم فهو لا يسعى إلى تجاوز الميتافيزيقا وإنما إلى تبيان أنها لم تتوفر قط على ما تدعيه من امتلاء واكتمال ويقين.
وإذا كانت عناوين كتب كانط هي المرشد إلى فلسفته النقدية، فإن عناوين كتب دريدا هي مفتاح سر فلسفته، كما أنه لجأ إلى تلخيص كل ما يريد قوله في عبارة أو اثنتين في بدايات فصول كتبه، وهو ما يدحض فكرة الغموض التي تكتنف مؤلفاته. وهناك من يرى أن غياب دريدا عن المكتبة العربية ليس بسبب صعوبته، أو حتى بسبب بعض ترجمات كتبه السيئة، وإنما لأن النصوص التي يعمل عليها ويفككها هي أصلاً غائبة عن المكتبة العربية، ناهيك عن المناهج والاستراتيجيات الجديدة في قراءة النصوص الفلسفية. لكن يبدو أن هناك ما هو أعمق، وهو أن تفكيك دريدا يطول "العصب العاري" ويلامس الجدار المكهرب، لعالمنا العربي ، والبشر ، أي بشر - كما قال "أشعيا برلين" - لا يرغبون في أن تمتحن افتراضاتهم أكثر مما يجب، وأن تصبح جذورهم بادية في العراء، ولذا فإنه يضطربون أيما اضطراب حين يرغمون على فحص عقائدهم وأفكارهم".

كاتب المقال أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية