على مشارف الذكرى الثامنة والثمانين لثورة أكتوبر

نَهْرُ الثورة الجارف يُدمّر
آمالك
يُدمّرأحلامك
يحمل في طيّاته الكثير من
الوحل والقذارة.
لكن أنصت الى ما يقوله:
فدويّه يَعِدُ بما هو أكبرْ."

اليكساندر بلوك (1880-1921)"

في بداية الستينيات، أثناء الهيمنة اليسارية على الشارع العراقي نُشرت رواية لكاتب أوربي شبه مجهول في الساحة الأدبية العراقية والعربية تحت عنوان "ظلام في الظهيرة". كان إسم الكاتب هو أرتور كويستلر(1905-1983). ولم يكن في حينها من المستغرب أن تجد هذه الرواية رد فعل عنيف لها لدى عدد كبير من المثقفين المنتمين تقليديا لليسار العراقي، متهمين كاتبها بكافة الأوصاف الرديئة، كما لو كانوا يحملونه مسؤولية كل ما حل بالعالم من الحيف والدمار، وهذا أمر شائع حينها، إذ كانت دور النشر اليسارية ترمي الى ألاسواق بآخر منتجات الأدب الستاليني، ذات العناوين الطنانة مثل: "الأرض البكر حرثناها" لـ "ميخائيل شولوخوف" (1905-1984) و"الفولاذ سقيناه" لـ "نيكولاي أوستروفسكي" (1904-1936) إضافة الى كتاب يتيم وحيد للكاتب الروسي العبقري مكسيم غوركي "الأم"، هذا الكتاب الذي كان من ضمن الأدبيات الحزبية الملزمة لأعضاء الحزب الشيوعي.
في جو كهذا لم يكن من السهل أن تجد من يدافع عن رواية كويستلر أو من يناقشها من وجهة نظرموضوعية بعيدة عن الأدلجة، من هنا فأن التعامل مع هذا العمل جاء مشبعا بالأحكام المسبقة من منطلق التعامل مع الأدب والفن كـ "سلاح في الصراع الطبقي" يجب أن يوظف في خدمة "دكتاتورية البروليتاريا". ولا أريد أن أخفي عن القارئ بأنني كنت من ضمن المصابين بهذه العدوى الأيديولوجية، مما دفعني حينها لقراءة الكتاب بسرعة كبيرة وبلا تمعن، دون أن أبذل أي جهد لتجاوز الضباب النظري الذي منعني من الإستمتاع بالقيمة الأدبية والفكرية لهذا العمل الذي يُعتبر، ومنذ زمن بعيد من ضمن كلاسيكيات الأدب الإنساني، لكونه يمس الحالة الفردية للإنسان في مواجهة المأزق الحياتي العام والخيبة الفكرية تجاه ماكنة القمع السياسية، الوليد الشرعي لكل نزعة إيديولوجية يساهم في خلقها الأفراد، في أفضل الأحوال دون معرفة النتائج. وكما في رواية جورج أورويل "1983" يضع الكاتب أصبعه في عمق الجرح الإنساني ليكشف لنا النزيف الدائم الذي يتعرض له الفرد في تحولات المجتمع البشري للإفلات من مسيرة التاريخ الدموية. من هذا المنطلق يمكن أن نعتبر رواية كويستلر نموذجا لما سمي لاحقا بـ "الأدب المنشق" الذي برزت بوادره مع قيام الأنظمة الشمولية في روسيا ومن ثم في بلدان "المعسكر الإشتراكي".

تمثال الكسندر بلوك

وأرتباطا بالتعريف القاموسي لكلمة 'Dissident' اللاتينية الأصل: (='Dissedere'يعارض)، يمكن القول بأن هذه الظاهرة كانت موجودة في كل الأزمنة السابقة لنشوء الأنظمة الديمقراطية القائمة أصلا على التخالف وإزدواجية المعارضة والحكم وحريةالرأي. لا اريد أن يفهم من هذا بأن الأنظمة الديمقراطية تخلو من ظاهرة "الإنشقاق"، حيث أنها تشكل جانبا مهما في العملية الإبداعية القائمة أصلا على تجاوز الحدود سواء من ناحية الشكل أو الموضوع، غير أن هذه بعكس الأنظمة الشمولية تترك للعمل الإبداعي مساحة واسعة تنسجم مع المبادئ العلمانية اللبرالية و"قوانين السوق" التي نمت خلال قرون طويلة من الكفاح ضد هيمنة الأفكار الشمولية \ الكنسية على المجتمع. على العكس من هذا تتعامل الأنظمة الشمولية مع العمل الإبداعي اصلا على كونه مبعثا للشك والريبة، وهذا ما دفعها الى وضع مختلف النظريات الفكرية والتطبيقية في مجال التعامل مع الفنون والآداب على طراز: " الواقعية الإشتراكية"، "الفن البروليتاري"، "الفن الملتزم".. وغيرها من النظريات البعيدة عن جوهر العملية الإبداعية، التي بلورها فيما بعد المفكر الماركسي – المنشق لاحقا – جورج لوكاش في كتاباته حول "علم الجمال" المبني عموما على مبادئ علم الجمال الهيغلي الذي يفسر الفن كتعبيرعن العقل المطلق، محددا موقعه في الدرجة الثالثة بعد الفلسفة والدين مع التأكيد على تحديد موضوع الفن بـ "الجميل والرفيع" أي بإقصاء "القبيح" كمادة للإبداع وتقليص مساحة التعبير الفني على الأشكال التقليدية (1). بهذا يكون المفكر المثالي هيغل هو من أوائل من أسسوا فكريا للنزعات المعادية للحداثة التي مازالت ذات تأثير لا يستهان به حتى هذا الوقت، فهي تتطابق في جوهرها المعادي للفن رغم إختلاف المصادر ولا تخلو ذاكرتنا العربية عن شواهد لهذه الحقيقة، لست هنا في مجال التعرض لها لكي لا أبتعد عن جوهر البحث ولا ادخل في مطبات الواقع الثقافي العربي البائس عموما.
كما رأينا أعلاه فأن أرتباط مصطلح "الإنشقاق" مع الأنظمة التوتاليتارية جاء نتيجة لهيمنة الجمود العقائدي الذي كان وما زال يشكل الميزة الأساسية لهذه الأنظمة التي وسمت كل من عارضها بتهمة "التحريف" وغيرها من التهم ذات الطابع شبه الديني. وينطبق هذا بشكل متميز على ما حصل في روسيا بعد ثورة أكتوبر، بشكل خاص بعد إستقرار السلطة بيد البلشفيك وفرض نهجهم الأيدلوجي على كافة قطاعات المجتمع، بما في ذلك القطاع الثقافي الذي شهد في السنوات الأولى للثورة نشوء العديد من التيارات الحداثية وأزدهارها بفضل مجموعة كبيرة من الشعراء والكتاب والمسرحيين والنقاد والمفكرين الذين وجدوا في السنوات الأولى للثورة أرضا خصبة لتنمية مبادراتهم الأدبية والفنية ومن ضمنهم فلاديمير ماياكوفسكي، سيرجي ييسينين، اليكساندر بلوك، أنا أخماتوفا، بوريس بلنياك، اليكساندر ريميزوف، دانييل خارمس (2) وغيرهم. ومن الجدير بالذكر أن أغلب هؤلاء كان يتمتع بحماية ماكسيم غوركيالذي مات في ظل ظروف مريبة في سنة 1936 بعد مرور سنتين على „مؤتمر أدباء عموم الأتحاد السوفيتي"، وذلك رغم تعارضهم معه في النهج. وربما يمكننا القول بأن تلك السنوات كانت هي الفترة الأكثر غنى بالتيارات الأدبية والفنية الجديدة، حيث نمى "الأدب المستقبلي" حاملا بصمات ماياكوفسكي، وأزدهر "الأدب الرمزي" بالإرتباط مع اليكساندر بلوك واليكساندر ريميزوف، وتبلور تيار "الوضوحيين Akmeismus =" على يد نيكولاي غومينيوف وزوجته الشاعرة أنا أخماتوفا والشاعر أوسيب ماندلشتام، كما أسس بوريس بلنياك نهجا خاصا في كتابة الرواية أطلق عليه تسمية "الرواية الموزائيكية"، هذا إضافة الى عدد لا يستهان به من الكتاب والفنانين الذين أرتبطوا بما يسمى "الثقافة البروليتارية" مثل المخرج المعروف مايرهولد (مايرخولد) (3) الذي أسس فيما بعد مدرسته الفنية الخاصة القائمة على أساس "البيو ميكانيك". في الوقت نفسه نشأت منظمات لا تعد ولا تحصى تعني بقضايا الفن والأدب، منها ما لا يزيد عدد أعضائها عن ثلاثة أو أربعة أشخاص مثل منظمة أوبيريو (جمعية الفن الحقيقي) التي أسسها الشاعر والكاتب دانييل خارمس (إسمه الحقيقي: دانييل إيفانوفتش يوفاتشيف) ، أحد مؤسسي أدب ومسرح اللامعقول. وينطبق هذا أيضا على المنشورات الأدبية والفنية التي صدرت في السنوات القليلة السابقة وأستمر صدورها لاحقا حتى مُنعتْ من قبل الرقابة في الثلاثينيات من القرن الماضي. يمكن أن نقول بإختصار بأن السنوات الأولى لثورة أكتوبر جلبت معها – على الأغلب بشكل غير مقصود – إنتعاشا كبيرا في مجال الفن والأدب، مما دفع عددا كبيرا من المثقفين الطليعيين الى تأييدها ليصبحوا فيما بعد من أوائل ضحايا الماكنة البيروقراطية للحزب وللدولة، تلك الماكنة التي نشأت في ظل هيمنة لينين على الحزب ونمت في عهد ستالين، ثم أستحالت أخطبوطا تمتد مفاصله الى مختلف قطاعات المجتمع لترتيبها بما يتوافق مع الإيديولوجية السائدة. ومن الملفت للنظر أن أغلب الفنانين والأدباء الذين تعرضوا للملاحقات ومن ثم للتصفيات الجسدية كان يعتبر نفسه ضمن التيار اليساري بناءً على قناعته بأن الإتجاهات الجذرية السياسية والإجتماعية إنما هي توأم لميوله الفنية والأدبية ذات الطابع الجذري الرافض للحدود. وقد دفع هذا الخطأ الفادح بعدد منهم للقيام بمحاولات يائسة بهدف إبعاد الشكوك عنهم وكسب ثقة السلطة السياسية التي سرعان ما بدأت بإنهاء أي نشاط ثقافي يتعارض مع تطلعاتها للسيطرة بشكل كامل على المجتمع وتسييره بما يناسب ذلك، وتوّجت جهودها في المجال الثقافي بفرض ما يسمى بـ "الواقعية الإشتراكية" من خلال تثبيت هذا النهج في النظام الداخلي لـ "اتحاد الأدباء السوفييت" الذي أقر من قبل المؤتمر التأسيسي لهذا الإتحاد في سنة 1934، أي بعد مرور سنتين على قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي الداعي لتعميم هذا الإتجاه. لإكمال هذه الصورة المعتمة أجد أن من الضروري مراجعة الذاكرة التاريخية لليسار فيما يتعلق بمواقف لينين من ظاهرة الحداثة والطليعية في الفن والأدب، حيث عبر في مناسبات عديدة عن عدم تفهمه لهذه الظواهر، حتى أنه قال لمكسيم غوركي في حوار حول ماياكوفسكي ما يلي: "أنه يصرخ ويختلق كلمات جديدة، وهذه ظاهرة غير صحية." (مكسيم غوركي:„W. I. Lenin“ )
ربما سنجد في التصريحات المتناثرة هنا وهناك لـ "لينين" حول الأدب والفن مصدرا أساسيا لما حصل لاحقا للعدد الأكبر من المثقفين الطليعيين في الإتحاد السوفيتي بناءً على توجيهات ستالين والجهاز القمعي الخاص بملاحقة "المرتدين". في كل الأحوال كانت تهمة الشكلية والإبتعاد عن "الشعب" سيفا مسلطا على رقاب المثقفين، دفعت بمعظهم اما الى الكف عن الكتابة نهائيا أو الى الإنصراف الى الترجمة (باسترناك) أو البحث عن طرق أخرى للحصول على رزقهم اليومي. ويمكن القول بلا مبالغة أن هذه التهم لاحقت الأغلبية الكبرى من الكتاب والفنانين المبدعين في روسيا تحت ظل سلطة السوفييت، لذلك فأن هذا المقال لن يكون أكثر من عرض مختصر لما حصل، إذ الهدف منه ليس إعطاء صورة شاملة عن موضوع متشعب كهذا، وإنما التطرق إلى نموذجين من الكتاب والفنانين الذين طالتهم عجلة الإرهاب، وهم: بوريس بلنياك وأيساك بابل، وذلك دون التوغل في معالجة أعمالهم الأدبية، بل التركيز بالدرجة الأولى على العلاقة بين الفنان والسلطة الشمولية على ضوء التجربة السوفيتية.

بوريس بلنياك (1894-1937)
يعتبر بوريس أندريفتش بلنياك (فوغاو) الى جانب بولغاكوف واحدة من الظواهر الإستثنائية في الأدب الروائي الروسي والأدب العالمي في مطلع القرن العشرين، إذ أستطاع أن يؤسس أسلوبا جديدا في كتابة الرواية أطلق عليه كما قلنا أعلاه تسمية "الرواية الموزائيكية" وذلك من خلال عملين، مازالا لحد يومنا هذا مدارا للجدل بالإرتباط مع فن الرواية ، ألا وهي: "السنة العارية" و "مكائن وذئاب"، يعالج فيهما التحولات التي جاءت بها ثورة أكتوبر في روسيا، بعيدا عن الأدلجة وبطريقة أقرب الى التوثيق، تشوبها الغرابة وسحر الحدث وإستشفاف الموروث الشعبي الروسي (سيرا على نهج اليكسي ريميسوف) بعيدا عن أساليب السرد التقليدي المألوف حينها بطريقة تركيبية مليئة بالإشارات الغرض منها الإحاطة بواقع على درجة عالية من التعقيد، تحيطه الفوضى من كل جانب. وبدلا عن الشخصيات الرئيسية التي تربط الأحداث ببعضها البعض يضع بلنياك الحدث كحلقة وصل بين أشخاص يظهرون ويختفون من جديد، دون أن يحاول أن يضع القاريء أمام صورة منطقية لما لا منطق له. واليكم هذا النموذج:
"في سنة 1914 نشبت الحرب، وفي 1917 الثورة.
في المدينة التي بنيت قبل قرون عديدة طُلب من الرجال حمل السلاح وتم تدريبهم على حرفة القتل.....
كان أول ضحايا الحرب في المدينة هو أوغونيوك الملقب بـ "اللاتيني"، وهو سكير محترم وطالب غارق بالديون. قبل أن يموت – شانقا نفسه – ترك رسالة:
أنا سأموت لأني لا أستطيع أن أعيش بلا خمر.
يامواطنيْ ورفاق الفجر الجديد! حين تعيش طبقة ما أكثر مما قدر لها وحان وقت رحيلها، فأن أفضل ما تفعله،
أن ترحل بمحض إرادتها.
أنا سأموت مع الفجر الجديد.
مات أوغونيوك اللاتيني قبل حلول الفجر الجديد."
– السنة العارية –

في خضم الأحداث تتداخل مصائر الشخصيات وتنفصل، وتترك القارئ أمام مادة هائلة من الأسئلة التي تصعب الإجابة عليها. ربما كان هذا هو السبب في الشك المتزايد من قبل السلطة بنوايا كاتب لا يريد بوعي تقديم حلول جاهزة، بل يذهب أبعد من ذلك، مؤكدا بأن الإنسان يخضع لغرائز لا تختلف عن غرائز "الذئاب"، تتعارض مع عالم "المكائن" المسير من خلال منطق حسابي دقيق. وفي الحقيقة فقد أتجهت الأنظار الى الكاتب بعد صدور أولى القصص التي نشرها في ظل النظام الجديد تحت عنوان: "حكاية القمر الذي لم يُطفأ"، حيث وردت فيها إشارات واضحة عن تصفية القائد العسكري الثوري "ميخائيل فرونسة" (1885-1925) على يد عصابات ستالين. وبمرور الزمن أزدادت الضغوط هلى بلنياك من قبل النقد الرسمي الموجه من قبل الدولة، ووُصِف بمختلف الأوصاف السيئة، حتى وجد نفسه مضطرا للدفاع عن نفسه في خطبة القاها في خريف العام 1936أمام الهيئة القيادية لإتحاد الكتاب السوفييت قال فيها: "وجدتني على إستعداد لأقول لنفسي في حوار مع ضميري: نعم، بالطبع أنا شيوعي، وقضية ثورتنا هي قضيتي، فبدون علاقة حميمة بالبلد وبالطبقة لا يمكن أن يكون المرء كاتبا." – في "لكي أكون صريحا مع روسيا ومع نفسي" –متراجعا بذلك عما قاله قبل ما يقارب عشر سنوات إجابة عن سؤال حول العلاقة بين الثقافة والسياسة: "أقر بأن مصير الحزب الشيوعي الروسي يهمني أقل بكثير من مصير روسيا، فهو (أي الحزب) بالنسبة لي حلقة من حلقات تاريخ روسيا...كما أعرف بأني لن أكون قادرا، بل سارفض قطعا الكتابة بشكل يختلف عن نهجي الحالي، حتى لو أرغمت نفسي على ذلك."
رغم هذا، ورغم محاولاته لإرضاء النظام عن طريق كتابة أعمال تتناسب مع المواقف الإيديولوجية للنظام الشمولي مثل : "عنبر الملح"، وجد الكاتب نفسه في الأخير في واحد من معسكرات الإعتقال الموزعة في أنحاء البلاد، حيث تمت تصفيته في سنة 1937.

إيساك بابل (1894-1941)
يرتبط إسم إيساك بابل بحق مع إسم ماكسيم غوركي الذي كان أول من أكتشف موهبته الأدبية وساعده في نشر قصصه الأولى في سنة 1916 قي مجلة ليتوبيس، كما قدم له النصح والدعم خلال السنوات التي تلت ثورة أكتوبر، طالبا منه إغناء تجربته الأدبية بتجارب حياتية جديدة، مما دفع بابل للإلتحاق بالجيش الأحمر، في كتيبة يقودها الجنرال (س. بوديوني) كان مقرها في بولونيا، وقد عالج هذه التجربة أدبيا في مجموعته القصصية الني تحمل أسم "جيش الخيّالة" التي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الثقاقية والسياسية، بسبب تعاملها الجذري مع الواقع بعيدا عن الرومانتيكية الثورية و بجرأة كبيرة على كشف التفاصيل في إشكالية الحرب الأهلية مع تطوير أشكال تعبيرية جديدة للخوض في الحدث. وهكذا أندفع بابل لكشف أغوار النفس البشرية المرمية في مشروع مدمر، دون أن يستثني نقسه من مظاهر الخراب:
"وضعت الصحيقة جانبا وتوجهت نحو فلاحة كانت تجلس على السلالم وهي منهمة بحياكة الصوف. "أيتها الفلاحة"، قلت لها "أريد أن آكل!"
نظرت العجوز نحوي بعينيها المتعكرة البياض بسبب قصر النظر، ثم سرعان ما أشاحت بصرها عني. بعد فترة من الصمت قالت: "بسبب كل هذه المشاكل يا رفيق أود أن أشنق نفسي."

إيزالك بابل بكاميرة الشرطة الستالينية

"عليك اللعنة"، قلت بغضب وضربت العجوز بقبضة يدي على صدرها "لن أشغل نفسي معك طويلا."
أدرت ظهري لها، فرأيت سيفا مرميا على الأرض، كما وقع نظري على وزة تسير وسط الحوش بزهو وتنظف ريشها بين وقت وآخر. أمسكت بها ووضعت رأسها على الأرض، ساحقا رقبتها بجزمتي، حتى سال دمها ورأيت رقبتها البيضاء على الأرض، بينما كانت أجنحة الطائر الميت ترفرف فوق جثمانه. قلت: "اللعنة!" ثم غرزت حد السيف في الوزة "إشويها لي ياعجوز."" – مقطع من "وزتي الأولى"، من مجموعة "جيش الخيّالة" –
وكما حصل مع بلنياك جرت حملة واسعة ضد إيساك بابل، وأتهم بالشكلية وبتشويه صورة الثورة عن طريق إبراز جوانبها السلبية في أعماله، إلا انه أستطاع أن يستمر في الكتابة بفضل حماية غوركي له، هذه الحماية التي مكنته كذلك من زيارة فرنسا 1935، حيث تمكن من اللقاء بزوجته السابقة، كما القى كلمة في مؤتمر الكتاب المعادين للفاشية في باريس. بعد موت غوركي في ظل ظروف مبهمة كتب بابل في دفتر ملاحظاته: "الآن سيأتون لإعتقالي."
في سنة 1939، في الوقت الذي روجت فيه القيادة السوفيتية لأنتهاء حملة "التصفيات"
جرى إعتقال أيساك بابل بتهمة التجسس للغرب وأعدم بعد مرور سنة واحدة على سجنه.

ملاحظات ختامية
يبدو لنا مما تقدم أن أشكالية السلطة والفن هي إشكالية حاضرة تاريخيا في ظل كافة الأنظمة، غير أنها تزداد بروزا بالإرتباط بالأنظمة الشمولية، مع وجود إختلافات نسبية بين نظام وآخر. فهذه الأنظمة تقوم على أساس رؤية أيديولوجية راسخة، لا يمكن مساءلتها أو وضعها موضع الشك، وهي في ذلك تعطي لما تمثله من قناعات لباسا دينيا لا يمكن المساس به، وقد أشار الكاتب والمفكر الروسي ييفغيني سامياتين(1884-1937) (4) الى هذا قائلا: "أخشى ألا يجد الأدب الحقيقي موقعا له في (بلدنا)، إذا لم نشف أنفسنا من الكاثوليكية التي بدأت تغزو مجتمعنا حديثا، وهي لا تختلف عن الكاثوليكية القديمة، حيث تشك بكل كلمة نقد." في الجانب الآخر ينبني الفن أساسا، ينطبق هذا بشكل خاص على ما نسميه الحداثة، على رفض كل ما هو مُسلّم به وتشفي الحقيقة في المبهم والغائب عن التفسير، لذا فهو بالضرورة في تناقض أزلي مع السلطة، حتى لو كان هذا التناقض ليس مقصودا. وكما ذكرت أعلاه فأن أنبهار القنانين الطليعيين قبل و بعد ثورة أكتوبر بالزخم الثوري التكويني في عملية التحول الإجتماعية إنما جاء نتيجة وهم بتماثل الجذرية في الفن مع الجذرية السياسية، التي سرعان ما تتراجع في لحظة استقرارها في السلطة لتستحيل أخطبوبا يهيمن على كافة المحافل الإجتماعية ساحقا أي نوع من أنواع المعارضة. في هذه المعادلة المميتة يجد الفنان نفسه بمواجهة ثلاثة خيارات، وهي: الهجرة أو الهجرة الداخلية (أي التوقف عن العمل الإبداعي واللجوء الى الصمت) أو مُجارات النظام من خلال الإلتحاق بمؤسساته الثقافية التي يقودها أنصاف المثقفين. إلا أن كل هذا لم يمنع أجهزة القمع الستالينية من ملاحقتهم وتهديدهم، سواء تواجدوا في الداخل او في الخارج. هذه التجربة تكررت فيما بعد، وبشكل مكثف في الستينيات من القرن الماضي في كافة البلدان التابعة لما كان يسمى بـ "منظومة الدول الأشتراكية" ومن ضمنها المانيا الشرقية وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا، ناهيك عن رومانيا وبلغاريا، حيث طبقت فيهما التجربة الروسية بكل تفاصيلها. لكن ماكنة الملاحقة و"التنظيف" –هكذا الإسم الرسمي لهذه الجرائم- لم تتمكن من تكميم الأفواه وتعمية العيون الى ما لا نهاية، بل تهاوت أمام إرادة التغيير وحب الحرية.

إحالات:

1- محاضرات هيغل حول علم الجمال نشرت في:
Hegel, Georg Wilhelm Friedrich „Ästhetik“, Aufbau-Verlag Berlin und Weimar, 1965

2- لم ينج دانييل خارمس من الإرهاب الستاليني حتى بعد أن توقف عن الكتابة التجريبية وأنصرف الى أدب الأطفال لغرض كسب العيش، حيث سرعان ما أعتقل ورمي به في السجن ومن ثم في مستشفى للأمراض العقلية في سان بيترسبورغ، مات فيها بسبب الجوع أثناء حصار المدينة من قبل القوات الألمانية. من أعماله المعروفة: مسرحية Jelisaweta Bam"" و "حالات" إضافة الى محاضراته النظرية / العملية تحت عنوان "الفن خِزانة"

3- أعدم في موسكو سنة 1940 بعد إغلاق مسرحه بتهمة العداء للإتحاد السوفييتي

4- يعتبر سامياتين من القادة الكبار لثورة أكتوبر فهو الذي قاد التمرد فوق بارجة "بوتيومكين" وساهم في مجموعة من العمليات القتالية، قبل أن ينصرف للكتابة، وتعتبر روايته "نحن" من أهم ما كتب عن ثورة اكتوبر. مات مهاجرا في باريس عام 1937 بعد أن هاجر من روسيا في 1931