كنتيجة متوقعة و حتمية، لم يأت معرض الكتاب في دورته هذا العام بأفضل من سابقه ، فالأجواء التي خيّمت على الساحة الثقافية في الكويت، لم تكن متفائلة أو وجدنا فيها ما يشجع على التفاؤل بأن يشهد المعرض ارتفاعا في عدد دور النشر المشاركة أو في المحتوى الثقافي في نوعية العناوين الجديدة، وهذا ما شاهدناه وسمعنا به عبر شهادات رواده و أصحاب دور النشر المشاركة. إلا أنني لاحظت عودة بعضها بصورة خجلة، من خلال رف أو رفين في جناح دور نشر أخرى.
لهذا فعندما نعقد العزم في المضي لمعالجة هذا الخلل، فمن الضروري الإلمام بأكثر من عامل ساهم في هبوط مستوى و محتوى معرض الكتاب في الكويت، فلا يمكن مثلا أن نلقي بكامل المسئولية و التبعية على الرقابة فقط، وأنها السيف المسلط الوحيد على رقاب المثقفين و دور النشر . فالمثقفون ndash; و لا سيما المبدعين - يتحملون جزءا كبيرا من هذه المسئولية، يتجسد هذا الجزء في قلة إنتاجهم نتيجة مرحلة التقاعد و التقاعس التي دخلوها، على حد وصف الكاتبة المسرحية الكويتية الشابة فطامي العطار في معرض مشاركتها في أمسية إبداعات شبابية. فعندما ندقق النظر في أجنحة دور النشر، لا تستوقفنا إلا إنتاجات جديدة في طرحها و أسلوبها و معالجتها، و هي قليلة في كميتها و فريدة في كيفية صورتها الأدبية و الفكرية. في حين تسيدت تلك الطبعات القديمة أو المتجددة لأعمال عرفناها و قرأناها سابقا ، فضّل كتّابها البقاء على قممهم العاجية، و ذكرى نجاح و رواج مؤلفاتهم في العقود الماضية. هؤلاء يتحملون جابنا هاما في هبوط مستوى المعرض و الفعاليات الثقافية في الكويت، نتيجة غيابهم و صراعهم فيما بينهم، في حين يهرولون سريعا للمعارض و الفعاليات الثقافية خارج الكويت !
و بموازاة هذا العامل المهم و الأساسي، يأتي العامل الآخر المتمثل بدور النشر، والتي ما تزال العريقة منها تجاهد في سبيل استمراريتها، مما جعلها مهددة بالإفلاس و الإغلاق نتيجة توقف المبدعين عن التعامل معها، و بالتالي صد المتلقي عنها لظهور منافسين جدد في إطار النشر، و تبني وسائل حديثة للنشر كالصف الداخلي و الإخراج الشكلي للكتاب، و ارتقاء طريقة العرض و التوزيع، دون الثبات على عراقة الاسم و تاريخه الثقافي. وربما سيضيف آخر، منافسة النشر الالكتروني و دخوله على الخط . إلا أنني لا أجد فيه منافسا قويا ndash; حتى هذه اللحظة على الأقل ndash; للكتـاب و دور نشره، إذا ما اعتمدنا على قياس إقبال القراء على معارض الكتاب في الدول العربية الأخرى ذات التقدم المذهل في مجال النشر الالكتروني . كذلك، تتحمل دور النشر مسئولية تأخر إصدار العناوين الجديدة، و إرسالها في الوقت المحدد للجهات المعنية بالفهرسة و التصنيف و إدراجها في قوائم المشاركة. دون أن نطرح من الحسبان، حقيقة أن بعض دور النشـر تحـولت عن هويتهـا الثقافية و المؤسسة لها أصلا، إلى نمط مرن و متسع لطباعة و نشر أي منتج في سبيل عدم توقفها. و هذا يظلم المؤلفات الثقافية - و الإبداعية بشكل خاص ndash; و يجعلها غائبة في ظل الحضور المكثف للنوعية الأخرى من الأعمال.
الجانب المهم في ارتقاء المحتوى الثقافي لمعارض الكتاب، هو ارتفاع مستوى الأنشطة المصاحبة له. فملاحظ تقلصها سنويا، مما يعني حتمية إلغائها مستقبلا، في حين أن الكويت كانت رائدة في تنظيم الفعاليات الثقافية. فأنشطة هذا العام كشفت عن حقائق عدة، أثبت من خلالها البعض قتامة المشهد الثقافي في الكويت. و تعدد ذلك في آراء البعض الرافض لأي شكل من أشكال النمو الثقافي نتيجة تبريره غير المنطقي بأنها رغبة المشرّع و الشارع الكويتي، و آخر يتصنع جهلا بالساحة الثقافية في الكويت، ليهين نفسه قبل إهانة من قصد إهانتهم، و هناك من يجعل الثقافة الكويتية ثوبا شخصيا له، يطيله و يقصـره بحسب وجهة نظره الخاصة به. و مع ذلك، فقد أثبتت ندوات أخرى مواطن الخلل و القصور في المشهد الثقافي في الكويت. منوها بحقيقة ذكرها أحد الأخوة المشاركين، و أعني الشاعر الكويتي الشاب محمد المغربي، بأن الوقت الآن بات يدعو المؤسسات لأن تتخلص من مبدأ صناعة المبدع، و تبدأ وفق مبدأ مساندة المبدع. و هي نقطة جوهرية، أثبتتها تجارب سابقة و ربما ما تزال، أن المبدع المصنوع من قبل مؤسسة ما، أو أي جهة أو انتماء آخر غير الإبداع نفسه، محكوم عليه بالفشل أو بضحالة الإنتاج. مما يعني أن مبدع المؤسسات، يستشعر الخطر دائما لأي إنتاج جديد، نتيجة الفكر المهيمن على المؤسسة المنتمي و المدين بالفضل لها، كما علقت الكاتبة الكويتية الشابة استبرق أحمد.
وهنا نعود ثانية للعامل الأول و المحوري - المبدع - الذي يتحمل شاء أم أبى جانبا كبيرا من المسؤولية عن هبوط مستوى الثقافة في الكويت. فالمبدع لدينا لا تنقصه القدرة، و إنما الرغبة في الارتقاء بالفكر و الثقافة دون أن يعلق قصوره على مشاجب الرقابة و فرق التفتيش. و إلا فبماذا نفسّر، نجاح معارض الكتاب، و ارتفاع محتواها الثقافي في دول ذات أفق محدود من الحريات؟
الفرق بسيط جدا، أن المبدع هناك لم يعد صنيعة المؤسسات و ما شابهها، بل الإبداع نفسه.
والعاقبة لمن يعقل و يتدبر.

كاتب المقال إعلامي و كاتب كويتي
[email protected]