كثير من السحر.. قليل من حِيل السرد (1)
يتزين وجه القارة السمراء في ذاكرة الإنسان المعاصر بالكثير من الكدمات والرضوض، بفعل الظروف القاسية التي مرَّ بها الإنسان الإفريقي في القرون الماضية. أما في أيامنا هذه فيستدعي مجرد ذكر إفريقيا رأساً في أذهان الناس مشاهد غير مريحة من دوامات فقر وكوابيس ظلم ومجاعة واستعمار وحروب عبثية ونزاعات طائفية وتمزق وتضعضع للهوية الثقافية والتاريخية. ولكنْ على رغم هذا الواقع الإفريقي المتجهِّم استطاعت بعض الأصوات الأدبية الزنجية أن تشق طريقها بصبر وأناة لوصف مرارات الماضي المُر ولاستشراف تطلعات الآتي الواعد، الذي يأتي ولا يأتي، كما يقال..
ولئن كان بعض هذه الأصوات الروائية الإفريقية المبدعة التي سنتحدث عنها الآن، - والتي سنتحدث عنها لأول مرة في الحلقة الثانية أيضاً- معروفاً إلى حدما عند القارئ العربي، فإن بعضاً آخر يبدو أقل حظاً من هذه المعرفة بفعل الكسوف الإعلامي الذي ترزح القارة السمراء تحت رحمته، وأيضاً لانبهار القارئ العربي اليوم، بشكل غالب، بأدب "المركز" المتروبوليتاني الغربي، كائناً ما كان، على حساب آداب "الهوامش" الإفريقية والآسيوية المحيطة بنا، وإن كانت -للمفارقة- هي الأقرب إلينا ثقافياً ووجدانياً.
والعرض الاستطلاعي التجميعي الأولي الآتي يسعى لتدارك جزء من هذا "النقص" في "المعرفة" الذي ننطلق منه هنا كمبرر وكفرضية عمل هي التي دفعتنا أصلاً إلى أن نجلب "بضاعة – يسيرة- إلى هجر" قارئ عربي نحسن الظن به وبملكاته على كل حال.
إن تجذير وتعميق وإعادة تأسيس معرفتنا كعرب بإفريقيا وعوالمها وفضائها الثقافي باتت ضرورة ثقافية، حتى لا نقول "قومية"، من باب كونها عمقاً حضارياً وثقافياً لشعبنا العربي وامتداداً لمعتنقي ديننا الإسلامي الحنيف، ومن ثم فإن تكوين صورة واضحة عن ثقافتها يعد شرطاً لفهم تطلعات شعوبها، لأهمية كل ذلك في سبيل تعميق أبعاد التواشج الوجداني والتعاطف الرمزي بين شعبنا العربي والشعوب الإفريقية الشقيقة.
ونعتقد أن السرديات والأدب الروائي تحديداً يعد مدخلاً مناسباً لفهم الأنطلوجيا الذهنية و"الشخصية الأدبية العامة"، إن جاز التعبير، في الحالة الإفريقية -كما في الحالة العربية- كونه يقدم تسجيلاً جيداً لماضي شعوب إفريقيا وتطلعات أدبائها في نبشهم للذاكرة الزنجية الجريحة وفي وقفاتهم الحالمة أيضاً على شرفة المستقبل.
وفي هذه المحاولة الأولى سنكتفي بعرض المدونة السردية الإفريقية في أسماء وعناوين، وملامح وقبسات عامة سريعة تضع القارئ الكريم، في أجواء أدب الرواية الإفريقي، ومن ثم سنعود في حلقة ثانية، بإذن الله تعالى، لمساءلة هذه المدونة، فيما هي ناطقة به، مستخلصين ملامحها العامة، ومشتركاتها السردية، وما نرى أنها تضيفه إلى الأدب والسرد بصفة خاصة كجنس مما هو "مفيد" لنا كقراء عرب للأدب.
ونحسب أن عدم تعرضنا بتاتاً في هذه المحاولة لكل ما له علاقة بالرواية وفنون السرد في إفريقيا الشمالية العربية، سيكون متفهَّماً، ليس على أنه "نقص" في إفريقية شمال القارة، وإنما لأسباب إجرائية، ثقافية، ولأن القارئ العربي يعرف تقريباً كل ما كتب في مجاله الثقافي العام.
أولاً-
عرض تجميعي للمدونة الروائية الإفريقية:
إن واقع التشرذم اللغوي والثقافي استطراداً، في إفريقيا المعاصرة، أمر يجعلنا مضطرين عند الحديث، عن الأدب الإفريقي، إلى الانتقال، من فضاء ثقافي ولغوي إلى آخر، مع في هذه العملية من إرباك ذهني ومفهومي و"إزعاج" ثقافي مرتبط بالعادات الثقافية والتفكيرية وبطرائق التسمية والتصنيف بشكل عام. فثمة إفريقيا الفرانكوفونية، وإفريقيا الأنجلوفونية، والبرتغالية، ولكل منها إسهاماته بلغته التي استبطنها وتبناها ثقافياً أو تبنته هي، لا فرق، منذ أيام الاستعمار السابق، وحتى اليوم. وسنعرض لكتاب السرد الأفارقة وفق هذا التصنيف، مكرهين مؤقتاً لأسباب تتعلق بهذه المرحلة المبكرة من المحاولة. لكننا سنتوقف أولاً وقبل كل شيء في عملية التجميع التأريخية هذه أمام السرديات والقصص التي كتبت باللغات الإفريقية الأصلية المحلية الأم.
1- الرواية باللغات الإفريقية المحلية:
مع أن الرواية لم تكن معروفة في القارة السمراء قبل مجيء الأوروبيين، فإن تقاليد الثقافة الشفهية كانت غنية لدى القبائل الزنجية بالحكايات والسير والملاحم والأساطير. لكن المفارقة حقاً أن الرواية كجنس أدبي ظهرت أولاً رسمياً في اللغات الإفريقية المحلية، مطلع القرن العشرين، كلغة التونجا في زامبيا، والشونا بزمبابوي، والسوتو، والزوسا، والزولو في جنوب إفريقيا، وهي لغات كانت الهيئات الاستعمارية والتبشيرية قد وضعت لها مطابع وكتبتها بالحرف اللاتيني، ومن هنا تيسَّر منذ مطلع القرن الماضي لأفارقة زنوج أن ينشروا روايات بلغتهم المحلية، لا باللغات الأوروبية التي ستتسيّد المشهد الأدبي الإفريقي فيما بعد. ولعل أول هؤلاء الرواد الذين كتبوا بلغاتهم الأم توماس موفولو (1876 ـ 1948) الذي كتب بلغة السوتو السائدة بجنوب إفريقيا، ولوسوتو، أول رواياته "المسافر الى الشرق" وقد ظهرت 1907، وإن كان نشرها بإحدى المجلات قبل هذا التاريخ. وبطل القصة شاب يدعي فيكيزي عاش تجربة وجودية وجاب الأرض شرقاً وغرباً يبحث عن إجابات لأسئلته الحائرة، وفي النهاية لقي الخلاص وبلغ الغاية/ النهاية لدى الغرب والسلطات المستعمرة والكنيسة، وهي نهاية ظريفة تتناسب مع بساطة أسلوب القاص وتقنياته السردية المحدودة جداً، وتتوافق أيضاً مع كونه موظفاً بمطابع الإرسالية الكنسية وفيما بعد سكرتيراً بإدارة المستعمرات نفسها. وفي 1910 نشر "موفولو" رواية أخرى هي "بتسنج" والعنوان مأخوذ من اسم القرية الزنجية التي تدور فيها أحداث القصة، وهذا العمل عرض واسع لصراع القيم والرغبات العاطفية من منظور إفريقي، ويفوق سابقه في بساطة الحبكة والسذاجة السردية، غير أن العمل الأدبي الذي خلد اسم "موفولو" في تاريخ الأدب الإفريقي حقاً كان ملحمة تاريخية شعبية عرضها في قالب قصصي عن حياة ملك الزولو المدعو "تشاكا". كما عثر بعد موته على رواية أخرى اسمها "مازاروا". وفي لغة الزوسا بجنوب إفريقيا ظهرت سنة 1914 رواية "قضية التوأم" لصومويل ماجايي (1875 ـ 1936) وفيها عرض للبنية الاجتماعية والعلاقات الأسرية الزنجية قبل مجيء الرجل الأبيض، كما ظهرت بلغة الزولو بجنوب إفريقيا أيضاً، رواية "إلى الأبد" لبنديكت فيلاكازي (1906 ـ 1947) وهي عن مسألة الهجرة من الريف إلى المدينة وما يترتب عليها من تمزق للمجتمع القبلي الريفي وتهتك وتهلهل لمجتمع المدينة حين تطوقه أحياء الصفيح وعشوائيات القصدير وتزداد فيه الظواهر السلبية والجرائم غير المسبوقة والمنكرات الشنيعة التي لم تكن معروفة في المجتمع الريفي البريء/ البسيط.
وظهرت محاولات أخرى مماثلة في غرب إفريقيا أيضاً بلغات زنجية محلية مثل اليوروبا، والإيبو والماندينج، وفي شرقها بالسواحيلية والكيكويو والأتشولية وغيرها. إلا أن أبرز كتاب هذا التيار كان الروائي النايجيري دانييل فاجونو (1910 - 1963) وقد كتب بلغة اليوروبا، ومع أنه كان في الوقت نفسه غربي التعليم والثقافة، وربما الهوى أيضاً، إلا أنه مع ذلك ترك ست روايات بلغته الأم كانت أولاها وأتقنها قد صدرت سنة 1938 بعنوان "الصياد الجسور وغابة الآلهة الألف"، وفيها يستحضر الأساطير الإفريقية عن الأرواح الشريرة، ووحوش الغابة، والغول، ومفعول السحر الحاسم في المواقف الحرجة، ويغوص ببطله الصياد إلى العالم السفلي يصارع المجانين، والموتى الأشرار، وفي النهاية - ولأنه محارب إفريقي شجاع وجسور كالأجداد- يجدِّل رؤوس الجميع، وينتصر عليهم، ويعود منتشياً ليحكي قصته من أولها إلى آخرها. وقد سارت أحداث معظم رواياته الأخرى أيضاً، في الغابة، وأشاعت أجواء يختلط فيها السحر والأسطورة بالفنتازيا، وهو خليط عجيب زاده بصوره المعقدة، وفكاهته، وأصالة عوالمه القادمة من الغابة، وهذا هو مِلحُها لأن الغابة والأدغال لهما مكانة خاصة في الوجدان الإفريقي الأصيل.
2- كتابات بالبرتغالية:
تميز الأدب الإفريقي المكتوب في المستعمرات البرتغالية بحدة نبرته وإلحاحه على مطالب الحرية ورفض الواقع القاسي المرير، وذلك لفرط قسوة السلطات المستعمرة البرتغالية وكتمها لأنفاس مستعمَريها، فجاء رد الفعل واضحاً في الرواية، وإن كان ذلك على حساب القواعد الفنية والتقنية المعروفة أحياناً كثيرة. وقد كان من أوائل الروائيين الأفارقة بهذه باللغة البرتغالية كتاب رواد مثل "بلتازار لوبيز" من جزر الرأس الأخضر، أول القرن العشرين، وكذلك الأنجولي "أوسكار ريباز" الذي كتب روايات متميزة، إلا أن أهم رواية إفريقية بهذه اللغة انتظرت حتى سنة 1926 وهي للأنجولي أيضاً "هـ. رابوزو"، وعنوانها "أنا وكالونجا ابنا البحر"، وفي 1937 ظهرت رواية "بين البرتغال وإفريقيا" للموزمبيقية "أماليا نورتى"، وهي كلها أعمال تشترك في فضح واقع المعاناة والعبودية التي تمارسها إدارة المستعمرات بكل سادية على الأهالي الأفارقة الذين تقدم هذه الروايات نفسها باعتبارها ناطقة باسمهم، كونها نداء للمساواة وصرخة للحرية، وتلمساً لمن يقيل عثرة هذه الأرض الإفريقية المنكوبة، وأهاليها المغدورين.
إلا أن المفارقة الحقيقية تكمن في أن أهم من دافع عن الأهالي الزنوج، وألف من واقعهم المأساوي روايات عالية المستوى كان أوروبي الأصل وهو البرتغالي الموزمبيقي المولد "كاسترو سورومينيو" المولود سنة 1909، والذي عاش معظم حياته في أنجولا، ومنها قاد حركة المقاومة والرفض للظلم المسلط على أهالي الأرض، وأسس دار نشر ظلت بمطبوعاتها تقارع المستعمر حتى قررت السلطات تصفيته جسدياً مما اضطره للتشرد عبر أوروبا وأميركا إلى أن مات في ساو باولو في البرازيل. وقد نشر "سورومينيو" روايته الأولى "رجال بلا طريق" سنة 1942، وأتبعها بأخرى هي "الانحراف"، ومع أن "مكتوب" الروايتين يقرأ من عنوانيهما، فإنه استمر على الوتيرة نفسها من حدة النقد للواقع الإفريقي القاسي، فجاءت أحسن رواياته "الأرض الميتة" التي نشرها من البرازيل وعكست اطلاعه على تيارات الأدب الحديث، خاصة أعمال جورج آمادو. وقصة "الأرض الميتة" تحكي مدى المظالم الفظيعة التي يرزح تحت وطأتها الأهالي الأفارقة في إحدى مدن أنجولا، وهم يشتغلون في المناجم والمعامل بالسخرة، دون مقابل، ترهق كواهلهم متطلبات حياة المدينة الكالحة، وتلهب ظهورهم سياط المستعمرين اللاهبة، ويتركز الصراع بين بطلي الرواية "سيلفا" الاستعماري البرتغالي الأبيض الجلف غليظ الطباع، و"أمريكو" الزنجي الرافض للاستعباد والذي أصاب شيئاً من الثقافة يريد من خلاله تحقيق مُثل الحرية والمساواة على أرض وطنه. لكن الظروف غير مناسبة في ضوء قوة وقسوة الإدارة الاستعمارية ممثلة في الجلف المتسلط "سيلفا". لقد أثرت روايات "سورومينيو" ووجدت لها أصداء في الرواية الإفريقية المكتوبة بالبرتغالية حتى بعد الاستقلال، وخير مثال على ذلك رواية "بذور الحرية" لـ"سانتوس ليما" الكاتب الأنجولي وهي تعكس المرارات نفسها وتسجل ذات المعاناة التي بقيت آثارها حتى بعد ما حمل المستعمر البرتغالي عصاه ورحل تاركاً وراءه أرضاً محروقة، وبلاداً منهكة وخريطة ملغومة بالنزاعات والصراعات العبثية المجنونة الرعناء.
3- أدب الأفارقة الفرنسي:
يعتبر أدب الأفارقة المكتوب بالفرنسية رائداً في مجال الرواية خاصة، وإن كانت الريادة له أيضاً في بلورة مفاهيم الزنوجة في مجال الشعر. ولعل أول رواية جادة لأحد الأفارقة الناطقين بالفرنسية هي (إرادات مالك الثلاث) الصادرة سنة 1920 للسنغالي "أحمدو اماباتيه ديان"، والتي تعرض كفاح بطلها الصبي "مالك" من أجل تحصيل العلم واللحاق بركب الحضارة رغم واقعه الإفريقي "المتخلف"/ المختلف. كما أصدر مواطنه "ماسيلا ديوب" رواية أخرى سنة 1925 بعنوان "المنبوذة"، وتعرض مشاهد من المجتمع السفلي الساقط قيمياً وأخلاقياً خاصة فيما يتعلق بالعلاقات غير المشروعة بين الجنسين. وتلتها رواية ثالثة سنغالية أيضاً لبكري ديالو سنة 1926 عنوانها "قوة الخير"، وتمجد بطولات كاتبها كجندي في الفيلق الأجنبي الفرنسي، وتمجد أيضاً الدور "التحضيري" و"التقدمي" للسلطات الفرنسية في إفريقيا آنذاك. وقد أثارت رواية الزنجي المارتينيكي رينيه ماران "باتوالا" ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية بالحي اللاتين بباريس، ونالت سنة 1931 جائزة "جونكور" المهمة في الفضاء الثقافي الفرانكوفوني. وبطل الرواية وأبوه عاشا تجربة التهجير من إفريقيا إلى العالم الجديد، وفي جزر الكاريبي تنقطع جذورهما، وتنبتُّ أواصرهما الحسية والعاطفية بوطنهما الأصلي، ويموتان بائسين مستعبدين، لكن بعد أن يفضحا السلطات الاستعمارية. وكانت هذه أول رواية زنجية لا تمجد الرجل الأبيض، وسنجد أن معظم الروايات الإفريقية التي ستظهر بعدها ستسير على النهج نفسه في فضح عنصرية وظلامية الأوروبيين، وأيضاً الدعوة إلى حرية إفريقيا ومساواة الأفارقة مع غيرهم، وكان مثل هذا الكلام من "الموبقات" تقريباً وقتها في عواصم الدول الغربية. وفي رواية ماران الثانية والتي لا تقل جودة وعنوانها "جوما" 1927، يواصل العزف على الوتر التحرري نفسه، ويتحسر بحرقة من المظالم المسلطة على بني جلدته، ويستدعي صوراً للمعاناة بشكل عاطفي مؤثر. فبطل الرواية "بيسبنجوي" يصف واقع الإنسان الإفريقي تحت نير الاستعمار بقوله: "مع أن البيض يُشبِّهون الزنوج بالقردة، فإنهم يتركون القردة وشأنها... أما بالنسبة للزنجي... فمتى ما كانت ثمة طرق تشق، فعلى الزنوج أن يشقوها. متى ما كان التجار يحتاجون الى مطاط؟ كان على الزنوج أن يوفروه حالاً. متى ما كانت الخزائن، خزائن الحكومة النهمة تحتاج إلى نقود؟ كان على الزنوج أن يدفعوا الضرائب... الزنوج في كل زمان ومكان. لقد كان الزنجي أهلا لأن يسجن، صالحاً لأن تفرض عليه الضرائب، خليقاً بأن يكون دابة من دواب النقل والجر الأهلية". ومثل هذه النبرة الناقمة سنجدها لدى الأفارقة ابتداء من الثلاثينيات، فمثلا في 1935 نشر السنغالي "عثمان سوسيه" روايته "كريم" التي نالت جائزة ما وراء البحار، وفيها يعيش البطل "كريم" تجربة تمزق بين إبهار الغرب وتقاليد الأجداد، وفي النهاية تنتصر -كما يمكن أن نتوقع- تقاليد الأجداد والقيم الدينية على حضارة فرنسا الزائفة الجوفاء. كما نشر "سوسيه" 1937 رواية "سراب باريس" وفيها هجوم عنيف على كل ما هو أوروبي وفضح لعنصرية الرجل الأبيض، فبطل العمل الشاب "فارا" صافح في إحدى المرات طفلا أوروبياً فسارع الطفل لغسل يده بالماء والصابون. كما نشر "عثمان سوسية" أيضاً رواية أخرى تمجيدية لماضي إفريقيا وثراء حضارتها القديمة المنسية.
ومنذ منتصف القرن العشرين ظهر جيل آخر من الأدباء أكثر حنكة من الناحية الفنية الروائية، ومن هؤلاء أحمد كوروما صاحب "شمس الاستقلالت"، ومواطنه "برنار دادييه" من ساحل العاج الذي نشر بنيويورك روايته "كليمبييه" 1953، وهي تدفع للاعتقاد بأنها سيرة كاتبها الذاتية. ثم جاءت روايته "زنجي في باريس" 1959، وفيها فضح لعالم الفرنسيين بعنصريته وشذوذه وبعده عن العادات الإفريقية الفاضلة. كما اشتهرت له "المدينة التي لا يموت أهلها" 1968، و"سيد من نيويورك" التي فازت بجائزة الأدب الإفريقي الفرنسية 1959، أما "المدينة التي لا يموت أهلها" فهي تتناول موضوعاً غريباً بعض الشيء هو حياة روما القديمة!. ولعل أعظم كتـَّاب هذه المرحلة هو الغيني "كامارا لاي" (1928 ـ 1980) الذي بهر قراء الأدب الفرنسي بروايته الشاعرية المتدفقة "الطفل الأسود" 1953، والتي يستعيد فيها طفولته في ريف غينيا كوناكري، وقد نالت روايته الشعرية هذه جائزة شارل فيبون الفرنسية 1954، وهو العام نفسه الذي نشر فيه رواية "نظرة الملك"، كما ظهرت له سيرة شعبية رائعة عن سلطان إمبراطورية مالي المسلمة "سوندياتا كيتا" منتصف الستينيات. وكان آخر ما كتب "كمارا لاي" رواية "داراموس"، وكل هذه الأعمال تشترك في لغة شعرية رشيقة، ويخيم عليها الحنين والعودة إلى الطفولة، وإلى إفريقيا التي يناجيها "لاي" باعتبارها فردوسه المفقود. أما الكاميروني "فرديناند إيونو" فإن نبرة الاحتجاج عنده تبدو أقوى وتتخلى عن الرمز والمواربة. ففي "حياة خادم" يفضح المظالم والممارسات الجائرة المرذولة التي تسلط على الزنجي بسبب لونه المغاير للون الأوروبيين، فبطل العمل جوزيف توندي شاب كاميروني ولد في ظروف بائسة، واضطر في صباه إلى أن ينضم للكنيسة لأن المبشرين كانوا يغرون الأطفال بالحلوى، ولكنه بسرعة أصبح خادماً، للكاهن، وليس معنى ذلك أنهما متفاهمان، فالقس ينطق الكلمات الإفريقية خطأ على نحو يحولها إلى البذاءة، و"توندي" لا يهمه سوى الأكل والحلوى، وهكذا تسير الرواية بالتوازي في تسجيل يوميات هذا وذاك. وهي يوميات شاءت لها الظروف العصيبة أن تسير في اتجاهين متناقضين رغم كون بطليها يعيشان تحت سقف واحد. ثم نشر "إيونو" رواية أخرى أكثر سخرية هي "الزنجي العجوز والوسام" وهي تضحك على فرنسا حين تضحك هي نفسها على ذقون الأفارقة فتدفع أبناءهم في أتون حروبها، وحين تقضي عليهم الحرب ويكونون جزءاً من حطبها، تكرم ذويهم بأوسمة هي في الواقع قطع من الخردة البراقة والقماش لا تسمن ولا تغنى من جوع. ولنفس الأديب رواية ثالثة لا تقل إدانة للأوروبيين هي "الطريق إلى أوروبا" وفيها محاولة لهتك الحجب التي تحول دون إقامة علاقة إنسانية كالزواج بين رجل زنجي وامرأة فرنسية بيضاء. ولا يقل عن "إيونو" مواطنه مونجو بيتي -واسمه الحقيقي أسكندر بيدي- الذي صب غضبه على الإرساليات في روايته "مسيح بومبا المسكين" 1956، وكذا في "البلدة القاسية"، و"مهمة منتهية" و"الملك الذي أنقذته معجزة" وهي تراوح بين نقد الآخر وتمجيد الذات الإفريقية. كما عاد الكاتب لنفس اللغة الملتهبة ضد البيض في "بربتوا" 1978، و"تذكر ياروبن" 1979، و"حطام القراقوز" 1981.
أما السنغالي "سامبين عوصمان" فقد ركز في أعماله على نضال الأفارقة من أجل الحرية والاستقلال، منذ روايته السِّيَرية "الحمال الاسود" 1959، وحتى "يا وطني يا شعبي الجميل" 1960، و"قـُصاص خشب الآلهة". ففي الأولى يحكي سيرته كمجند فرنسي، ومن ثم كحمَّال في ميناء مرسيليا بعد ما وضعت الحرب أوزارها، وفي الثانية يحِنُّ إلى وطنه، أما في الثالثة فيؤرخ لإضراب عمال سكك الحديد داكار- باماكو. كما أن روايتيه "ريح الجنوب" 1964، و"كسالا" تسيران في نفس اتجاه توصيف الواقع الإفريقي تحت تأثير وقسوة الأوروبيين أيام الاستعمار المباشر. كما لا يقل عن هؤلاء كتاب جيل الثمانينيات والتسعينيات مثل "صو فال" و"شيخ حاميدو كان" صاحب "مغامرة في المجهول" وهما سنغاليان، وبنيامين ماتيب من الكاميرون، وسيدو باديان صاحب الرواية الشهيرة "تحت الرذاذ" التي تعرض واقع الصراع الاجتماعي في جمهورية مالي من خلال طرائق الزواج. وكذا "نازي بوني" من بوركينا فاسو، وغيرهم كثيرين في مجال النطاق الفرانكوفوني الإفريقي.
4- الرواية الإفريقية بلغة شكسبير:
كانت أول رواية إفريقية بالإنجليزية هي (إثيوبيا طليقة) للأديب الغاني "كيسلي هايفورد" وصدرت سنة 1911، وتلتها رواية "مهودي: ملحمة الأهالي" للجنوب إفريقي "سولومون بلاكيهي"، ثم رواية الغاني الآخر، (أ. وبنج) "ثمانية عشر قرشاً". وتشترك كل هذه الروايات التأسيسية في بساطة البنية وحدة اللهجة إزاء الأوروبيين، فرواية "أوبنج" مثلا ضاعت كلها في تفاصيل سلسلة من المرافعات والمحاكمات لزنجي استلف ثمانية عشر قرشاً لكي يشتري فأساً لمزرعته، لكنه وجد نفسه بفعل الفقر مضطراً للعمل بدون أجر لدائنه الذي اتهمته زوجته بمراودتها عن نفسها أيضاً، وهنا بدأت المحاكمات وطالت الجميع وضاع في متاهاتها الجهد الرئيسي للرواية. وبعد هذه الرواية بسنتين ظهرت رواية للجنوب إفريقي "بيتر أبراها" من عنوانها "أنشودة المدينة" 1945، تصور حياة صبي أسود هاجر إلى جوهانسبرج واشتغل خادماً أو بالأحرى صبياً مسخـَّراً عند البيض، ومن ثم زج به في السجن، وبعد تجارب مرة قرر العودة سرَباً إلى الغابة، لكنه عاد إليها هذه المرة وقد اخشوْشن وفقد وداعة الأفارقة، وتلقائيتهم وطيبتهم الفطرية. ولهذا الروائي أعمال أخرى كثيرة منها "درب الرعد" 1948، و"الغزو المتوحش" 1950، و"العودة إلى جولي" و"إكليل من أجل أودوموي" 1965، و"ليلة لهم" 1965، و"هذه الجزيرة الآن" 1966، وكلها يمكن تخمين موضوعاتها من عناوينها، ما خلا الأخيرتين لأن أحداثهما تدور في جزر الكاريبي بعيداً عن إفريقيا وإن لم تبتعدا عن همومها الكبرى.
وقد لفتت أعمال الجنوب إفريقي الآخر "لكس لاجوما" انتباه النقاد، وأنجبت نفس البلاد أدباء آخرين بيضاً حملوا قضية الأفارقة بروح إنسانية عميقة ومتسامية مثل "سارة ميلين" و"أوليف شراينر" و"دورينج ليسنج" و"نادين جورديمر"، الحائزة على جائزة نوبل، وأيضاً "ألن باتون" صاحب الرواية "ابْـكِ أيها البلد الحبيب" 1948 التي حولت إلى فيلم وأوبرا موسيقية جابا الآفاق، ومن الملفت أن "باتون" هو الرجل الوحيد بين هؤلاء البيض المتعاطفين أما البقية فكلهن نساء.
والحقيقة أن الرواية الإفريقية المكتوبة بالإنجليزية هي الأوسع انتشاراً في العالم وفي القارة السمراء أيضاَ، وقد لمع فيها كثيرون مثل "ويل شوينكا" صاحب "الأسد والجوهرة" والحائز على جائزة نوبل، وأيضا "آموس توتولا" و"تشينو أتشيبي" و"سيبريان إكوينسى"، و"جابرييل أوكارا"، و"أونورانزيكو"، و"ت. ألوكو"، وكلهم من نيجيريا. ومن سيراليون "وليم كونتون"، وكذا الغامبي "لنري بيترز"، و"جوزيف إبروكو"، و"كوفي أوكونور" من غانا. ومن شرق القارة برز "أنريكو سيروما"، و"روبرت سيروماجا" من أوغندا، و"إثيونجو"، و"جريس أوكوت" من كينيا، ونور الدين فرح، و"بيتربلانجيو" من تنزانيا، وغيرهم كثير ممن كتبوا بالإنجليزية، - أو الإيطالية على ندرتهم- ويضيق المجال عن ذكرهم في هذه العجالة التي أطنبنا فيها أصلا.
والميزة العامة التي تشترك فيها أعمال هؤلاء هي طرح المسألة الزنجية، والضرب بقوة ومرارة على أبواب الحرية المأمولة لشعوب القارة في مرحلة الاستعمار، وفيما بعد معالجة مساوئ المجتمع المحلي ما بعد الاستقلال بكل ما فيه من تخلف وجهل وفساد ومظالم اجتماعية وتفكك أخلاقي وقيمي واحتقان سياسي وحروب سيزيفية مازالت كحزام البارود تطوق القارة المفجوعة. فمثلا نجد هذا الطرح في أعمال النايجيري "تشينو آتشيبي" ابتداءً من أولها "الأشياء تتداعى" 1958، وحتى "لم تعد هناك راحة" 1960، و"رجل الشعب" وغيرها، وكلها تسعى لاستعادة ماضي إفريقيا المجيد، وتحلم بغد آتٍ قريب تتحقق فيه قيم الخير، وينتفي فيه الظلم والبؤس والعوز. أما "الأشياء تتداعى" التي اقتبس عنوانها من الشاعر الأيرلندي "وليم ياتس"، فتدور حول تجربة الكفاح من أجل ترسيخ الذات الزنجية التي يمثلها بطلها "أوكونكو" وقريته وشعب "الإيبو" الإفريقي الذي ينتمي إليه البطل، وينتمي إليه "آتشيبي" نفسه. أما الأديب الأوغندي "إنجوبي واثيونجو" فمنذ روايته الأولى "لا تبْكِ أيها الطفل" 1964، وحتى "النهر الذي بيننا" 1965، و"حبة القمح" 1967، وصولاً إلى "بتلات الدم" 1977 و"شيطان على الصليب" 1982، وأخيراً "ماتيجاري" 1989، في كل ذلك يطرح نفس المسائل المتعلقة بالهوية والذات الإفريقية، ومكانة الإنسان الزنجي في العالم، وإن كان هذا الطرح يغوص أحياناً في التفاصيل المملة، على أنه أحياناً أخرى يتسامى ويتدثر في سرده بالقيم والمثل والأساطير الإفريقية الأخاذة.
وبصفة عامة فإن الرواية الإفريقية تراوح من حيث الشكل بين الرواية الملحمية والأسطورية إن جازت العبارة، ورواية المذكرات الفنتازية، والرواية الاجتماعية الإصلاحية، ورواية الأخلاق والحداثة، وأيضاً الكفاحية والساخرة والفلسفية كرواية شيخ حاميدو كان "مغامرة في المجهول"، وغيرها كثير.
يتبع.../
كاتب المقال قاص موريتاني
التعليقات