ملاحظات عن "ليلة هراء أخرى في مدينة زعران" لنك فلين

يعتمد أغلب كتاب السيرة الذاتية على أسلوب تقليدي في السرد يبدء بالطفولة عبورابمرحلة المراهقة والشباب ثم ينتهي في مرحلة الشيخوخة. ورغم وجود عدد لا بأس به من الأعمال المتميزة وذات الطابع الإستثنائي في هذا المجال، مثل ثلاثية الياس كانيتي، إلا أن هذه الأعمال بقيت في النهاية أسيرة لمجموعة من الضرورات التي تفرضها كتابة السيرة على الكاتب، ومن ضمنها إضافة الى الضرورات الشكلية أخرى أخلاقية وأجتماعية. من هنا يمكن إعتبار كتاب نك فلين "ليلة هراء أخرى في مدينة زعران" قفزة نوعية كبيرة في إطار هذا النوع الأدبي حتى أعتبره بعض النقاد عملا روائيا متميزا، يمكن وضعه في صف واحد مع نتاجات أهم الكتاب الأمريكيين المعاصرين مثل فيليب روث وباول أوستر وغيرهما. ربما يبدو هذا التقييم للحظة الأولى مبالغا فيه، إلا أن نظرة سريعة في محتويات الكتاب الموزع في ستة فصول، تحتوي بدورها على مقاطع صغيرة على الأغلب تحمل عناوين مختلفة مثل "مكتشف زورق الإنقاذ" أو "نصف صحراء" مصاغة بلغة مكثفة تجعلنا ندرك بأن الكاتب قد تتلمذ على أيدي أهم كتاب الرواية المعاصرة وأمتص جل التجارب المتميزة في القرن الماضي بحثا عن الشكل الفني الملائم لصياغة تجربته الروائية الأولى، وذلك بعد أن عُرف عن طريق قصائده التي حصلت على العديد من الجوائزبعد نشرها في عدد من المجلات الأدبية الأمريكية (أقرأ "أنصاب" ) .

لقد أستطاع فلين بنظرته الثاقبة أن يستكشف محيط الحضيض البشري دون إستعلاء، إذ كان هو نفسه جزءا منه، ساقطا في مأزق الماكنة الساحقة للمجتمع الرأسمالي المعاصر وباحثا بعد إنقطاعه عن الدراسة عن مخرجه الخاص في متاهات الإدمان والتشرد. وهو في ذلك لا يختلف عن الكثيرين من كتاب الحداثة في القرن الماضي مثل فولكنر وهمنغواي ومالكولم لوري الذين خاضوا تجربة الحضيض خيارا أوغيرهم ممن وجد نفسه دون إرادته في الحضيض مثل جان جينيه وشارلس بوكوفسكي وبرنار ماري كولتس، وتشبع بهذه المادة ليعبر عنها لاحقا في أعمال أدبية تتجاوز حدود المألوف لغة وشكلا، تحتل موقعا متميزا في تاريخ الأدب العالمي. لقد وصف جان جينيه عمله الأدبي قائلا: "أردت من خلال أعمالي أن أبين للفرنسيين أنهم أمام لص يجيد الفرنسية." وربما ينطبق هذا بهذا الشكل أو ذاك على نك فلين الذي وجد نفسه منذ الطفولة في آخر السلم الإجتماعي، تحت رعاية أم تركها زوجها ليتنقل في الولايات المتحدة من مكان الى آخر حاملا في جعبته أوهاما لا تحصى سرعان ما تضيع في ثنايا المجتمع الغربي بكل صعوباته وقسوته. أما الأبن فانه يسقط بعد فقدان أمه التي وجدت طريقها الى الموت عن طريق ألإنتحار تحررا من أعباء الحياة اليومية، في مفارق الحياة، بعد أن بدأ يشرب الخمر وهو في الثانية عشر من العمر ويتدبر شؤون حياته عن طريق السرقة والمتاجرة بالمخدرات وكتابة الشعر والعمل بين حين وآخر في ملاجئ المشردين المدمنين عن الخمر، حيث يلتقي بأبيه الذي مازال أسيرا لـ "شيطان الخمر"، مدعيا أنه أهم كاتب في الولايات المتحدة الأمريكية وأن لديه مجموعة كبيرة من المراسلات مع الرؤساء والسياسيين الأمريكيين من مختلف الإتجاهات. من خلال هذا اللقاء المصيري يعثر الكاتب على مادته الأدبية ليدخل من خلالها الى أعماق المجتمع الرأسمالي الأمريكي الذي يظنه "سائرا في طريق الإنهيار الحتمي"، مشيرا الى وجود ما يزيد على اربعة ملايين مشرد ينتشرون في كافة أنحاء البلاد، بحثا عن الحلم الأمريكي في فضلات الأغنياء.

يبدأ الكاتب رحلته في قاعة تحتوي على مكائن لتصريف النقود، حيث يضع القارئ بمواجهة "الأب" المشرد الذي تسلل الى هذا المكان مستخدما "بطاقة ممغنطة" ليستمتع بشئ من الدفء في ليلة باردة بعد أن هام على وجهه في مختلف أحياء المدينة. "يمكنك أن تستخدم أي بطاقة ممغنطة للدخول الى هنا، وسكان الشوارع يعرفون ذلك أو يتعلمونه بسرعة. في هذه القاعة، حيث الأضواء تطنطن بياضا يصم الآذان، لا يحل الظلام أبدا."
بدون إسراف في التفاصيل، وبإشارات قليلة يفتح الكاتب لقارئه مداخل هذا العالم الغريب، المحيط بنا من كل جانب والذي نحاول تجنبه بقصدية كبيرة خوفا من الإحتكاك به، هربا من الحمى التي يمكن أن ترمينا في متاهات السقوط. في قلب هذا العالم الهلامي يقف هذا الشخص الذي يسميه الكاتب "أبي" أمام منصة وهو يملأ أستمارات لتحويلات مالية موهومة بعشرات الآلاف من الدولارات الى جهات مبهمة، سرعان ما تجد طريقها الى سلة القمامة بعد أن يغادر آخر الزوار القاعة ليتركوه مع المكائن الناطقة بإنتظار من يقرع عليه الباب ليشاركه إمتياز الدفء.
في هذه الأ جواء التي تعبق بالوهم والحمى يتحسس الكاتب طريقه الشاق وسط شظايا الذاكرة وروايات الأب إضافة الى إنطباعاته الخاصة التي جمعها من خلال عمله مع المشردين: أحلام يقظة ومخاوف مستمرة تحمل في طياتها خيبة مريرة لا يمكن تجاوزها: "بعد أن ينتهي أبي من تحويل النقود يستلقي على الأرض مديرا وجهه بالإتجاه المعاكس للنافذة لكي لا يراه رجال الشرطة المُزورين الذين يحملون نجمة الشريف وهم يدورون بسيارات الجيب الصغيرة. فعدم رؤيتهم له قد يعني عشر دقائق إضافية من النوم."

من الأسفل تبدو اللعبة الإجتماعية أمرا شديد الخطورة في تشابكها وتداخل خطوطها الدرامية، وربما يمكن النظر اليها أحيانا كـ "تراجيكوميديا" لا مخارج لها سوى عن طريق الإفلات من قوانين اللعبة والتخلي بشكل تام عن الصحوة المدمرة المفروضة على الفرد من قبيل مجتمع قائم أصلا على التنافس والسعي لتحقيق أقصى حدود النجاح. في عالم الضائعين هذا تصبح الكارثة أمرا معتادا وسط أجواء لا معقولة: "في بوسطن تغلق البارات أبوابها في الساعة الواحدة. فتأتي مجموعة ثانية من عشاق الليل، أكثر أنشراحا من المجموعة السابقة، مصابة بالنعاس وهي في طريقها الى البيت. ربما يضايقك بعضهم وربما يرمي لك بعضهم بدولارين، وحين يكونون سكاري يتحدث بعضهم معك ويجلس الى جنبك على الأرض، يقدم لك شيئا من الشراب ثم يسألك عن إسمك. إنك تبدو طبيعيا جدا ما الذي جاء بك الى هنا؟ فيجيب أبي الى أين؟"
يقول نك فلين: "حين تستخدم كلمتي "أبي" و"مشرد" في جملة واحدة ينظر اليك الناس كما لو كنت قد ضربتهم على وجوههم بالمجرفة. فهم يخشون الربط بين هاتين الكلمتين، إذ أنهم يخشون أن يكون هذا مصيرهم."

ولا يستثني الكاتب نفسه من هذه الظاهرة، حيث نراه يؤكد أن اللقاء بأبيه كان منذ البداية محاطا بالمخاوف والشكوك: "لو سمحت له بالدخول الى بيتي يمكن أن أصبح جزءا منه وتزول الحدود بيننا بالتدريج فيعجل ذلك سقوطي البطئ. لو مددت يدي للغريق فسيسحبني معه الى الأعماق."من هنا فأنه لم يستقبله في بيته، إلا في وقت متأخر، علما بأنه كان غالبا ما يترك سريره للمشردين لحمايتهم من التعرض للبرد في شوارع بوسطن. وبعد كل لقاء مع أبيه يكتشف الكاتب التقارب بين بنيته السيكولوجية وبين هذا الآخر الذي غاب عنه لفترة تزيد عن عشرين عاما ليعود إليه محملا بالأساطير والحكايات التي رافقته طيلة رحلته المدمرة في خفايا المجتمع الأمريكي، عند مداخل البيوت المقفلة أمام من لا سكن له، قرب القمامة، وفي أحياء المدينة المظلمة وفي السجون.

تضعنا حالة الأغتراب الجذري هذا أمام مجموعة من التحديات المتعلقة بالجانب الإبداعي بدءا من خطورة الوقوع في براثين الإسراف في الجانب العاطفي (العلاقة بين الإبن والأب)، مرورا بمطبّـات التعامل الفني مع "الخارجين" عن "الشبكة الإجتماعية" وما يمكن أن ينجم عن ذلك من إنجرار للتعبير عن المادة الأدبية من منطلقات "المدرسة الطبيعية" وإنتهاءا بإشكاليات التعرض للوحة متشابكة عن تحولات المجتمع الأمريكي خلال عقدين من الزمن. يمكنني أن أقول بأن نك فلين تمكن من تجاوز كافة هذه الصعوبات بإمتياز من خلال تجاوز القيود التقليدية والإعتماد على التداخل الزمني والتداعي وإستخدام المونتاج والتقطيع والحوار المسرحي والتوثيق والرسائل، وأحيانا البناء الشعري في متابعة شخوصه وكذلك في الإستطرادات المتعلقة بتجاربه الخاصة وجولته الوحيدة في بلدان أوربا والمغرب بحثا عن مخرج من ضيق الفضاء الأمريكي، قبل أن يصبح معروفا على المستوى العالمي. ولا يتردد الكاتب عن نقل مقاطع من رسائل أستلمها من أبيه أثناء وجود الأخير في السجن بتهمة الإعداد لسرقة بنك كبير في بوسطن، يعطيه فيها الأخير بعض النصائح لتنظيم حياته مستقبلا، دون أن يتناسى الإشارة الى منجزاته الأدبية:

"إقرأ كل ما تستطيع قراءته. أكتب فقط حين تشعر بدافع داخلي شديد للكتابة."
"أنا كاتب منذ الولادة. أنت كذلك."
"أعْرفُ أنني الآن على مقدرة لأن أنجز لأمريكا ما أنجزه السيد سولجنتسين لروسيا. أعمالي ما زالت تنتظر وسيأتي أوانها."
"سأحصل قريبا على جائزة نوبل لكتابة الرواية والشعر.."

عند هذه الحدود، حيث تلتقي المخيلة بالجنون، تتحول العلاقة الخربة بين الأبن والأب الى مشروع لا يبحث لنفسه عن تبريرات في الخارج، وإنما يكون نفسه في الداخل لتنتقل عدواه الى القارئ، واضعة إياه في النهاية أمام أسئلة لا جواب لها، على الأقل في الوضع البشري الحالي.

عنوان الكتاب بالأمريكية : “Another Bullshit Night in Suck City”
كافة الإستشهادات مأخوذة عن الترجمة الألمانية للكتاب التي صدرت حديثا عن دار نشر mare